إذا استعرنا كتاب تزفيتان تودوروف ذائع الصيت، هل الشعر في خطر، وربما أكثر من غيره من الأجناس الأدبية؟ فالوضع المعاصر الذي يمر به الشعر ممارسة ونظرا وتلقيا، ظل مهدداً ومحفوفاً بالمزالق والطرق الشائكة. يأتي التهديد من الأيديولوجيا، والنزوع النخبوي أو الشكلاني في أساليب التدريس، ومناهج النقد المعاصرة، وتكنولوجيا المعلومات المستجدة، ومن منافسة الأنواع السردية، ولاسيما من الرواية التي تقدم نفسها على أنها ديوان العرب الجديد، بل من المؤسسة الرسمية نفسها، التي تنظر إلى الشعر بعين الازدراء.
في الوسط الجامعي الذي يُفترض أنه يقدم منصة مواتية لدرس الشعر وتلقيه، يعيش الطلبة ـ لأسباب ذاتية وأخرى موضوعية مزمنة – وضعا غير طبيعي في اللقاء بالشعر، وهو ما يُنقص درجة اهتمامهم أو شغفهم به، وبالتالي يندر أن يضعوه في أولويات البحث الأكاديمي، الذي من شأنه أن يطور المعرفة الشعرية. ما الذي يجري، إذن؟
توجهنا بالسؤال إلى أكاديميين عرب جمعوا بين التدريس الأكاديمي ونقد الشعر، حول واقع درس الشعر ومشكلات تلقيه في أوساط الجامعة، ومن اللافت للانتباه أن يتم الإجماع على أن الخطر قائم بالفعل.
شربل داغر (لبنان): الحاجة إلى إعادة تأهيل
حالُ درسِ الشعر ومشكلاته في الجامعات العربية من حال الثقافة العربية بين لغة ومنهج وقابليات درس. وهي حال، بل أحوال تتباين بين مجتمع وآخر، إلا أنها لا تلغي تشاركات أكيدة بينها. وما يمكن ملاحظته، بداية، هو أن انتشار التعليم، أو ديمقراطيته (كما يقال) لا يعني بالضرورة ارتفاع مستوى التعليم أو جودته،
لاسيما في تدريس العربية، بل يمكن القول إن أحوال درسها، وهي أحوال تعليمها، تتراجع لصالح مشافهة متعاظمة لا تصيب اللغة لصالح الكلام وحسب، وإنما تصيب أيضا أحوال أساتذتها بدورهم. فكيف إذا دعتني جامعة إلى القيام بمهمة فحص أحوال أساتذتها، وتيقنتُ من مراجعة بعض نصوصهم «الداخلية» (قبل رفض المهمة) من أنهم يحتاجون – بكل أسف – إلى إعادة «تأهيل» لغوي قبل المنهجي. لا أخفي أن ما أقوله يتأتى مما عرفتُ وشهدتُ،
في أكثر من جامعة عربية، في العقود الثلاثة الأخيرة. وهذا ما أعرفه وشهدته في محاضرات ومؤتمرات شاركتُ فيها، هنا وهناك، وتحاورت فيها مع طلاب دراسات عليا، وتحققتُ فيها من ضعف تلقيهم المناهج الحديثة في درس الشعر بشكل خاص: كيف لهؤلاء الطلاب أن يتعقلوا ويتفقهوا في المناهج المناسبة لدرس الشعر، وهم لا يتقنون لغة أجنبية واحدة، ويكتفون بما هو متوافر من الكتب المترجمة، وهي قليلة وضعيفة الترجمة المفهومية.
فكيف إذا التقت، مع هذه الأسباب، عطوب أو نواقص أو تعثرات تصيب المناهج نفسها. فما أنجزته المناهج والمقاربات ابتداء من اللسانية الحديثة (من بنيوية وسيميائية وغيرها) توقف، أو لم يجد منفذا متجددا له. وما حل محله في الدرس المنهجي العربي تعين خصوصا في «الدراسات الثقافية» وفي «النقد الثقافي» وفي تطبيقات وقراءات ضحلة للغاية. إذا كان منظرو ومفسرو هذا المنهج، في الولايات المتحدة أو في بلدان أوروبية مختلفة، استندوا فيه إلى خزين هائل من الطبقات المعرفية في العلوم الإنسانية المختلفة، فإن هذه الطبقات لا تعدو كونها قشورا بسيطة في الثقافة العربية الحديثة، لاسيما في علم الاجتماع وفي علم النفس وفي علم التاريخ. فكيف لنقدٍ ثقافي ألا يكون – والحال هذه – غير نزوع جديد إلى التفسير الميسر، والتأويل المبسط! كيف له أن يستقيم،
وهو لا يتحصل – واقعا – إلا على «مختصرات» مكتوبة، أو مبثوثة خصوصا، عن أقطاب القضايا والمعاني (الغربة، الهجرة، الذكورية، المدينة وغيرها)! وما تعوزه هذه المقاربات، أو ما لا تُحسن تدبره، تستقيه من أيسر السبل، وهو الاحتكام إلى الأحكام الذوقية الخاصة بالدارس نفسه، دون فحص أو غربلة.
هذا الفحص هو أشد ما يفتقده المنهج عموما، إذ لا يستقيم عمله وفق طريقة ارتدادية، إذا جاز القول، أي وفق طريقة تمكن القارئ من نقد المنهج ابتداء من مقدماته نفسها ومن مقترحاته المعلنة. ولو طلب القارئ التحقق مما أتحدث عنه، في درس الشعر،
لأمكنه التنبه إلى أن عددا بالغا من مسائل الشعر العربي الحديث لا تزال «مفتوحة» دون أي تراكم نقدي ومعرفي، ولو في بعض جوانبها: أيُعقل أننا لا نزال نفتقر إلى تاريخية أكيدة للتجديد في الشعر العربي بين منتصف القرن التاسع عشر، ومنتصف القرن العشرين؟
أيعقل أننا لا نزال نتمسك بتسمية «الشعر الحر» في ما لهذا الشعر (الذي ظهر في الثقافات الفرنسية والإنكليزية والأمريكية في القرن التاسع عشر) تعريفات محددة غير التخلي عن تناظرية البيت لصالح السطر، وعن إلزامية القافية، ووحدانية الوزن (مثلما جرى في بعض الشعر العربي في منتصف القرن العشرين)؟ هل يُعقل أننا ننكر،
أو لا ندقق كفاية في ظواهر التجديد العربية، أو في أسباب حدوثها، فنقوم بتنسيبها إلى «سوابق» قديمة في الشعر، أو في النثر العربيين القديمين؟ هل يُعقل أننا لم نبنِ، بعد أزيد من سبعين سنة، مقاربة مناسبة في درس القصيدة بالنثر؟
في الإمكان طرحُ مزيدٍ من الأسئلة، إلا أن الأدهى هو أن عددا بالغا من الدكاترة الجدد يبتعدون سلفا عن درس الشعر، فيما هو «جامعُ» الدرسِ المنهجي في الأدب. ويلاقيهم في هذا انصرافُ دور النشر العربية، أو تبرمُها الظاهر، من نشر دراسات عن الشعر.
الشعراء يتكاثرون، ولا تخلو الفعاليات الثقافية من أمسيات للشعراء، لا للنقاد. والأفظع في هذا كله هو أن الشعراء أنفسهم يتذمرون (من علو عليائهم) من سماع ورقة نقدية في الشعر!
إن الشعر هو اللغة التي لا يمكنها ان تعرف نفسها؛ لذا فالإشكالية فيه متأصلة منذ اللحظة الحرجة في التفكير فيه، أو محاولة الاقتراب منه؛ هذا على مستوى المتخصصين به من علماء القراءة والتلقي.
حمد محمود الدوخي (العراق): تحرير الشعر من عصاب مزمن
إن الشعر هو اللغة التي لا يمكنها ان تعرف نفسها؛ لذا فالإشكالية فيه متأصلة منذ اللحظة الحرجة في التفكير فيه، أو محاولة الاقتراب منه؛ هذا على مستوى المتخصصين به من علماء القراءة والتلقي،
فكيف به مع طلبته في مطلع حياتهم ووسط كل هذا الزحام التواصلي (السوشيال ميديا) الذي من شأنه أن يعوّد المتلقي على الجاهز والمُحَدد تأويلياً – وأعني بذلك المناشير العادية التي تمثل التفاعل الأكثر على مستوى التداول العربي ـ الأمر الذي يعقد المشكلة ويجعل من إمكانية الحلول أمراً شبه مثالي؛ فأنا – على سبيل المثال،
وبشكل إجرائي- أدرس المراحل المنتهية في الأدب العربي الحديث (المرحلة الرابعة/ الماجستير/ الدكتوراه) أي أنني ألتقي سنوياً بأكثر من مئة من الطلبة المتخصصين – كما ينبغي- بالأدب العربي، إلا أنني أُصدَمُ كل مرة بأن النسبة المبَشرة بالتفاعل الخلاق لا تتعدى (10%) من هذا المجموع؛ وهذا أمر كارثي، إذا ما نظرنا من خلاله إلى الأقسام والكليات غير المتخصصة، فضلاً عن الجمهور العام.
وهذا الوضع يستدعينا إلى (لماذا) التي تقف وراء مثل هذه النكسة الثقافية، ورأيي أن من أعنف الأسباب التي تقف وراء ذلك هي المختارات الأدبية في المقرر الدراسي منذ مراحل الابتدائية حتى المراحل المنتهية؛
فالملاحظ العام على هذه المختارات أنها كانت تصدر عن توجيه قومي/ عروبي يؤكد ويلح على التحرر والوحدة والحروب والتفاخر وتعظيم الذات، إلخ، وكل ذلك -على أهميته لقضيتنا الإنسانية/ العربية الكبرى- قُدم بشيء من العنف وكأنه حالة عُصاب مزمن تعاني منها الأمة؛
إذ أدى إلى تعميق الفجوة النفسية بين الأدب الرسمي عموماً والشعر خصوصاً، والمتلقي؛ الأمر الذي جعل الأخير يركن أكثر إلى الأدب الشعبي (شعراً وأغنيةً وحكايةً ومزحة..) لأنه وجد فيه ضالته التي أهملها الأدب الرسمي إلى حد ما، والتي تتمثل في ما اصطلح عليه بـ(شعر الحياة) الشعر الذي يتكلم عن الحب، وعن قيمة الذات، وجدوى تفاعلها مع المحيط، وبث الإيجابية، وكل ما يغذي الذات ويؤكد لها -على الدوام- صلاحيتها من أجل التواصل مع العالم.
أما الحل فإنني أرى أننا بحاجة إلى مراجعة حقيقية لهذا المقرر وتنقيته وحماية المتلقي من الإرهاب الثقافي المبثوث – ضمنياً- في كثير من آدابنا منذ النشأة وإلى الآن، لكي نجمل صورة الشعر عملياً، ونجعله ضمن المتداول
لكن ليس المتداول المبتذل السطحي الذي يُجتاز بأبسط فعل قرائي؛ إنما ضمن المتداول الوسطي الذي يعطي معنى متجدداً كلما قُرِئ؛ وهذه الحاجة التي أقول بها تحتاج إلى مؤسسة كبرى تعي ـ أولاً- انتقاء أفراد فريقها من عموم المحيط العربي من ذوي الخبرة والاختصاص لكي نطمئن على النتائج التي بدورها تعيد للشعر – بوصفه المنصة العليا للبث الثقافي- دوره في التوجيه.
يحيى عمارة (المغرب): رد الاعتبار لما هو جوهري
قبل الخوض في موضوع منزلة الشعر داخل الدرس الجامعي، لا بد من أن اشير الى مسألتين: الأولى؛ إن للشعر اهمية عظمى في تأسيس الدرس الجامعي المغربي في علاقته بالعلوم الإنسانية،
فكل منظري الدرس الفلسفي والسوسيولوجي في المغرب المعاصر كانوا شعراء تقريبا: محمد عزيز الحبابي، عبد الكبير الخطيبي.. المسألة الثانية؛ أعمق النظريات والتصورات في الفلسفة والتاريخ والحضارة والنقد قامت على ماهية الشعر منذ أكاديمية اليونان، وإذن،
فإن للشعر كلمته في بناء العلوم الإنسانية. لكن الملاحظ، وهذا بيت القصيد في الجواب، أن هناك تراجعا خطيرا في استيعاب هاتين المسألتين، لمن يضع استراتيجيات النهوض بالدرس الجامعي، ولا يجعل الشعر في مساق أولوياته، لأنه لم يعد يناسب المشاريع المجتمعية الجديدة. هذا رأي مردود عليه،
لا بد من العمل على دحضه؛ لأن يسهم في اغتيال الشعر والشعراء رمزيا ومعرفيا وإنسانيا، وبالتالي يضرب وظائف الدرس الجامعي في الصميم. فكل الكليات المعنية بموضوع الآداب والعلوم الإنسانية عليها أن تستدرك هذه الرؤية الخاطئة التي تقول إن الدرس الجامعي لم يعد في حاجة إلى الشعر. نقول هذا لأن حظ هذا العلم الضروري لتنمية الإنسان وجدانا وعقلا، أصبح حظا سيئا في الملفات الوصفية الجديدة التي تبتغي محو الأدب من ذاكرة المؤسسات، بل الأعمق من هذا التصور الاستراتيجي هو العمل على إدماج فلسفات علوم الأدب، ومن بينها علم الشعر، في العلوم الدقيقة والاقتصادية والقانونية والعكس صحيح، لأن الزمن هو زمن تكامل المعارف والعلوم، وليس زمن إقصاء ما هو جوهري في بناء الإنسان الذي يعد المدخل الرئيس لأي تنمية مجتمعية مستقبلية. الدرس الجامعي في حاجة إلى عقلين متناقضين لكنهما متكاملان: عقل المعري وعقل آينشتاين.
شهدت الدراسات النقدية الجامعية منذ سنوات انعطافة واضحة نحو الرواية، فانصبت البحوث الجامعية في أغلبها على دراسة السرد القديم والحديث، والانشغال بقضاياه انشغالا يكاد يعيد تعريف الأدب بكونه نصا سرديا لا غير، ما أثر في الشعر، فلم نعد نقرأ بحوثا جادة، نظريا وتطبيقيا، حول الظاهرة الشعرية.
عبد الله العشي (الجزائر): هل هي نهاية القصيدة؟
شهدت الدراسات النقدية الجامعية منذ سنوات انعطافة واضحة نحو الرواية، فانصبت البحوث الجامعية في أغلبها على دراسة السرد القديم والحديث، والانشغال بقضاياه انشغالا يكاد يعيد تعريف الأدب بكونه نصا سرديا لا غير، ما أثر في الشعر،
فلم نعد نقرأ بحوثا جادة، نظريا وتطبيقيا، حول الظاهرة الشعرية، ولا نكتشف في الكتابة الشعرية أشكالا ولا أساليب ولا حساسيات ولا تحولات جديدة، وهذا لا يعنى أن البحوث الأدبية الأخرى في مجالات غير الشعر بخير،
بل هي تكاد تكرر نفسها بشكل دائم، دون أي إطار نظري حقيقي. والحقيقة أن الشعر نفسه لم يعد بخير منذ مدة، فالأمر لا يتعلق بالدراسات الأكاديمية حول الشعر فقط، فمنذ تجارب الشعراء الكبار الذين ودعونا حديثا (محمود درويش، ومحمد علي شمس الدين، وسعدي يوسف وغيرهم من المعلمين الكبار) انكمشت دائرة الشعر وتقلص حضوره في الحياة العامة ثم في الحياة الأكاديمية،
رغم ما يبدو من نهضة شعرية عمودية مع ما فيها من إبهار لحظي إلا أنها تتجه نحو ما آلت إليه قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر من انفصال عن القارئ، بسبب تجريديتها وعبثيتها اللغوية والدلالية والصوفية، وانغماسها في الهواجس ووضعها المعنى في آخر سلم انشغالها. ويمكننا أن نشير إلى أسباب عدم الاهتمام بالشعر في الدراسات الأكاديمية إلى سلسلة من الأسباب المختلفة ساهمت بشكل أو بآخر في هذا الانصراف غير الطبيعي عن الشعر،
فمنها ما يعود إلى الشعر ذاته ومنها ما يعود إلى المنهج ومنها ما يعود إلى الباحث نفسه. فأما ما يعود إلى الشعر، فانغماس الشعر في تجارب من التجديد والتجريب والتجريد والترميز، عمقت الفواصل بينه وبين القارئ، حتى لم يعد القارئ يستوعب ما تقوله النصوص الشعرية بسبب إيغالها في الرمز والغموض،
مما كان سببا في أن ينشغل عنها الباحثون ويفضلون أشكالا أخرى غير الشعر لإنجاز بحوثهم حولها، إضافة إلى ظهور أشكال أدبية ضمت قسرا إلى الشعر مثل أنواع من قصيدة النثر، والهايكو، والشعر الرقمي وأشكال أخرى موغلة في النثرية والتجريب، لم يجد الباحث فيها ما يمكن البحث عنه، وإذا بحث فهو لن يقدم إلا خطابات غامضة لا تجد لها موقعا لدى القراء.
أما ما يتعلق بالمنهج، فإن الثورة المنهجية في الإنسانيات، كما ظهرت في أوروبا وكما نقلناها في ثقافتنا العربية، كانت، في أغلبها، خاصة السيميائيات، قد انشغلت في تطبيقاتها على السرد أكثر من الشعر، وأقامت تطبيقاتها على نصوص من الرواية والحكايات الشعبية وحتى على السرود غير الأدبية،
وبالتالي فإن الباحثين العرب لم يجدوا نماذج تطبيقية في الشعر، كما وجدوها في السرد، فاتجهوا، بناء على ذلك إلى السرد وأهملوا الشعر، إضافة إلى أمر قد لا ينتبه إليه كثيرون، وهو أن أغلب الدراسات الجامعية التي اطلعت عليها،
تفتقر إلى أمرين أساسيين يصعب أن يدرس الشعر دونهما؛ وهما البلاغة والعروض، بمعناهما القديم وبمعانيهما الجديدة. وهذان العلمان لم يعد الاهتمام بهما قائما في الجامعة، فلم يعد الباحثون يبحثون في إيقاع الشعر ولا في بلاغته،
ولا في التفاصيل المتفرعة عنهما، رغم أن الشعر يقوم بهذين العلمين أساسا. وينصرفون كثيرا إلى تحليلات بنيوية سطحية لا تمس جوهر الشعر وحقيقته. فالمناهج المطبقة تركز غالبا على الشكل الخارجي للنصوص،
وتهمل تلك الأبعاد ذات العلاقة بالدلالة والجمال والفن، مما يجعلها دراسات شكلية موغلة في الشكلانية، ولا تكشف عن أسرار الشعر وماهيته الحقيقية، دون أن نهمل ما يمكن أن نسميه ثورة النثر، فقد تحول مسار الأدب تحولا جذريا وأعيد النظر في أولوياته، فلم يعد الشعر ديوان الكتابة كما كان، لأن السياقات الثقافية والمعرفية تغيرت، بل صارت الرواية هي ديوان الكتابة الأولى.
أما ما يتعلق بالباحثين أنفسهم فليس عجيبا أن نشير إلى ضعف الذوق الأدبي لدى طائفة منهم مما دفعهم إلى الاهتمام بغير الشعر، لأن الأشكال الأخرى لا تتطلب ذوقا أدبيا عاليا بقدر ما تتطلب إتقان منهجية هي أقرب إلى الحرفية منها إلى الذوق الفني. ولا نستثني أيضا شعور بعضهم بأن الحداثة مرافقة للرواية، فاتبعوا هذا الوهم وانصرفوا عن الشعر،
ولذلك نشهد ندرة في الدراسات التي تقوم بمرافقة تحولات القصيدة وتستكشف تغيراتها الأسلوبية والبلاغية والبنيوية والدلالية، إذ غالبا ما تكتفي هذه الدراسات بالوقوف عند نصوص معينة تحللها دون وضعها في تقاطعاتها الثقافية والأدبية وفي سياقاتها المعرفية الكبرى.
وعليه فالبحوث الأكاديمية الآن تفتقر إلى الدراسات النظرية التي تعمل على كشف الأشكال الجديدة للشعر وتوفر له الأرض الخصبة للفهم والدراسة، فأغلب الدراسات الخاصة بالشعر تتحرك خارج النموذج، وبعيدا عن النظرية ما يجعلها دراسات غير مؤسسة ولا مرتكزة على وعي بالشعر ونظرياته المختلفة.
والآن، هل هي مجرد مرحلة، ثم يستعيد الشعر مكانته، أم هي دورة حضارية انتهت فيها سيادة القصيدة وأسلمت القيادة للرواية، وما القيادة المقبلة، هل هي لشكل أدبي معين أم لغير الأدب كله؟
كاتب مغربي