لا يمكنني أن أصف شعوري وأنا أقف على أرضية الورش، مدمجاً بين هم المقاول الذي يسابق الزمن لإنجاز التزام تعاقدي، وبين إدراك الباحث الأكاديمي الذي يرى ثغرات القانون كمنزلقات حتمية.
ولولا تشجيع أستاذ وصديق على إخراج هذه الرؤية إلى العلن، لما تجرأت و تحدثت في الموضوع، إنها أزمة تتجاوز الأرقام، لتصبح أزمة ثقة إنسانية ومهنية.
النزاع في قطاع البناء يولد من رحم الغموض التعاقدي الجاف، الذي لا يأخذ في الحسبان التعقيد البشري والفني للعمل.
فبين دقة البناء الأولي التي تضمن متانة الهيكل، وتفاصيل التشطيبات التي تمس الذوق الجمالي لمالك المشروع، غالباً ما يفشل دفتر التحملات في أن يكون مرجعاً وحكماً قاطعاً. وفي ظل هذا الغموض، يتحول أبسط خلاف حول جودة مادة إلى حرب ضروس.
لقد عشتُ، كغيري من المقاولين، تلك اللحظة القاسية التي يتم فيها تجميد الدفعات الجزئية (Décomptes) بشكل مفاجئ وغير متناسب مع حجم الخلاف. هذا القرار، رغم مشروعيته الظاهرية للمالك، هو بمثابة خنق مالي للمقاول الذي يعتمد على هذه السيولة لتمويل الورش. إن هذا الإخلال الجسيم بالالتزام المالي يحول الخلاف إلى انهيار سريع للمشروع بأكمله، لتضيع بذلك مجهودات الإخلاص التقني في متاهة النزاع.
لكن ما يضاعف هذا الخذلان هو اللجوء إلى القضاء، فالتجربة تُعلمنا أن الحسم في قضايا البناء، رغم وجود نصوص قانون الالتزامات والعقود، يظل رهيناً ببطء المسطرة القضائية، فالمقاول والمالك يجدان أنفسهما ينتظران سنوات، حتى يخيل إليك أن الحكم الذي سيصدر سيكون في غير محله بعد أن فقد المشروع قيمته وزمنه.
إن تأخر مسطرة تعيين الخبير القضائي يطيل أمد العذاب، ويجعل من القضاء حلاً ينهي النزاع، لكنه لا ينقذ الورش من الدمار الاقتصادي.
و عليه فالواجب الأخلاقي والمهني يحتم علينا المطالبة بحماية بديلة، لم يعد يكفي التشريع الذي يحكم بالتعويض بعد وقوع الضرر. بل يجب أن نتوجه نحو المسار الوقائي والإلزامي، الذي يفرض آليات الوساطة () والحسم السريع قبل اللجوء إلى المحاكم, فكان لزاما الدعوة إلى إقرار نظام وساطة مُلزم قانونياً ضمن صلب العقد، يتم تفعيله بواسطة خبير مدقق مُتخصص يجمع بين المرجعية القانونية والكفاءة التقنية. هذا الخبير يجب أن يتمتع بصلاحية الفصل السريع في نزاعات الدفعات الجزئية والتشطيبات خلال آجال قصيرة ومحددة تشريعياً.
و أخيرا و ليس آخرا، فإن ذلك الشعور بمرارة الإخفاق المهني والمالي لم يعد يقتصر على المقاول فحسب، بل يمتد ليطوق مالك المشروع والقضاء نفسه، الذي يجد أحكامه متأخرة عن اللحظة الاقتصادية الحاسمة.
و بالتالي فالرؤية التي تجمع بين هموم الورش وبين متطلبات الحسم القانوني، تدعونا جميعاً إلى تجاوز خانة التشخيص إلى مساحة العمل الجاد والمشترك.
فالدعوة إلى إقامة دائرة مستديرة وطنية تضم التقني والقانوني والمالي وأمناء الحرفة، ليست مجرد اقتراح ترف، بل هي مطلب وجودي للخروج بمسودة ميثاق قانوني يضمن أن يصبح الإنجاز هو الهدف الأوحد.
ولكن، أمام هذا الإصرار على الطرق التقليدية في حل النزاعات، يبقى التساؤل الجوهري الذي يطرح نفسه بقوة على الأوساط التشريعية والاقتصادية: إلى متى سيظل الرهان على سنوات التقاضي، يُقدم على الحاجة المُلحة لأسابيع من الوساطة والحسم، لإنقاذ ورش البناء من الموت الاقتصادي؟















