حمل مسؤول إسرائيلي سابق في وظائف أمنية مختلفة ونجل رئيس وزراء ووزير خارجية راحل على إسرائيل ولم يكتف بتوجيه النقد الحاد لسياساتها كـدولة محتلة وغيبية ومنغلقة بل طعن بشرعية وجودها ويتنبأ لها بـمستقبل أسود وقال إنه يناهض الصهيونية ويعارض الهجرة لـها بل يشجع الهجرة منها وإنها قد ولدت في الخطيئة معربا عن قلقه على من تبقى من أحفاده فيها.
وتمثل أهمية مثل هذه التصريحات ليس بحدتها ووضوحها وندرتها فحسب بل بكونها تنم عن أحد أبناء عائلة تعتبر من لب الحركة الصهيونية. في حديث مطول لـملحق صحيفة “هآرتس” (ترجمته الباحثة الفلسطينية غانية ملحيس) قال سليل عائلة صهيونية بارزة وعضو سابق في المخابرات العامة (الشاباك) يعقوب شاريت (95 عاما) إنه أصبح مناهضا للصهيونية ويشجع الناس على مغادرة البلاد.
وفي مقدمة الحديث أكد شاريت نجل أول وزير خارجية وثاني رئيس وزراء لـإسرائيل، موشيه شاريت، أنه مؤمن بما يقوله ويعيه جيدا منوها لصفاء ذهنه رغم تقدمه بالسن أما “هآرتس” فقالت إنه لا يشعر بالحاجة إلى انتقاء كلماته لأنه حاد وحاسم ودقيق – ويريد أن يرسل للقراء “رسالة يصعب استيعابها”.
وقالت “هآرتس” إن ابن الرجل الذي وقع “وثيقة استقلال إسرائيل” عام 1948 ينهي أيامه كـمناهض للصهيونية ويعارض الهجرة إلى إسرائيل، ويشجع على الهجرة منها، ويتنبأ بأيام مظلمة لها حتى أنه يدعم البرنامج النووي الإيراني. مؤكدا أن إسرائيل والمشروع الصهيوني ولدا في الخطيئة ويضيف “هذه الخطيئة الأصلية تلاحقنا وستلاحقنا وتعلق بنا. نحن نبررها وأصبحت تشكل خوفا وجوديا يعبر عن نفسه بشتى الطرق. هناك عاصفة تحت سطح الماء. بلغت عمري بسلام. من الناحية المالية وضعي معقول لكنني أخشى على مستقبل ومصير أحفادي وأحفاد أحفادي”. ويقول شاريت إنه يرى بنفسه “متعاونا رغما عنه مع دولة إجرامية”. كما قال إنه هنا وليس لديه مكان يذهب إليه بسبب عمره وهذا يزعجه وأن هذا “الاعتراف يرافقه كل يوم ولن يتركه، الاعتراف بأن إسرائيل في النهاية دولة تحتل وتسيء إلى شعب آخر”.
وتكشف “هآرتس” أن عائلة شاريت- تتكون من يعقوب وزوجته رينا مع أطفالهما الثلاثة وخمسة أحفاد وثمانية من أبناء أحفادهم – انتقلوا بالفعل إلى الخارج إلى نيويورك. جده، يعقوب شرتوك – الذي سمي بـاسمه والذي تم تحويل لقبه فيما بعد إلى “شاريت” – كان من بين مؤسسي حركة رواد فلسطين “بيلو” وقد وصل إلى فلسطين عام 1882، بعد سلسلة من المذابح في روسيا.
وتقول “هآرتس” إن الابن يوافق على أن الإسرائيليين اليوم يرون والده بازدراء وكأنه “يساري” وربما حتى “كاره لـإسرائيل” مستذكرة مناصبه ومساهماته الكبيرة للصهيونية وفي التخطيط الاستراتيجي لـإسرائيل وبنائها وتوليه على الفور منصب وزير خارجيتها قبل أن يحل محل بن غوريون كرئيس للوزراء لفترة قصيرة.
من الصعب الشك في صهيونية والدك وحبه للأرض اليوم لديه أحفاد في نيويورك. كيف سيشعر إذا علم بذلك؟
“من المستحيل اعتبار “مغادرة إسرائيل” لعنة. يكاد لا يوجد إسرائيليون ليس لديهم أقارب في الخارج. أنا سعيد لأن لدي حفيدات وأبناء أحفاد في نيويورك. لا أخجل من قول ذلك. يعيش أكثر من مليون إسرائيلي في الخارج. وبمرور الأجيال يتبخر الالتزام الأيديولوجي الصهيوني”.
يفهم الناس أن هناك أماكن أفضل ليربوا أطفالهم ويعيشوا فيها. في كل مكان هناك مشاكل، الحياة نفسها مشكلة، لكن إسرائيل لديها مشاكل وجودية”.
ومع ذلك ألا ينتابك شعور بالضياع؟ وقع والدك على وثيقة الاستقلال ولم تعد ترى إسرائيل كوطن قومي للشعب اليهودي؟
“إن حياة الشعب اليهودي مأساة. أثبت شعبنا، في مرحلة مبكرة جدا، أنه ليس مخلصا ولا يعرف كيف يحافظ على الدولة. لذلك، لم يكن له وجود قومي في معظم الأوقات بل وجد كأقلية مضطهدة ومكروهة تعيش بدون منظمة مشرفة وبدون حكومة خاصة به. ربما كان يدفع الثمن لكنه صمد أمام ذلك. أحد الجينات في حمضنا النووي القومي هو جين “أخرجك من بلدك” الذي بدأ في أيام أبينا إبراهيم. منذ أيام “الهيكل الثاني” لم يعش معظم اليهود في إسرائيل. أسسوا مجتمعا رائعا على نهر دجلة وبعد ذلك انتقلوا إلى إسبانيا، حيث أنشأوا ثقافة رائعة لألف عام، ومن هناك تفرقوا في كل مكان. ثم جاءت المذابح وبعدها الهولوكوست وأدرك الكثيرون أن المشكلة اليهودية “لا يمكن حلها إلا بطريقة إقليمية”.
اندلاع الصراع
ويغرد يعقوب شاريت بعيدا عن السرب الإسرائيلي ويقول إنه “في اللحظة التي دعت فيها الصهيونية اليهود للهجرة إلى فلسطين من أجل إقامة وطن واحد للشعب اليهودي، دولة ذات سيادة نشب الصراع”. ويطعن يعقوب شاريت في فكرة الصهيونية ويقول إنها تعني القدوم إلى مكان يوجد فيه أناس أفراد من شعب آخر مختلف تماما، ينتمون لـدين آخر ويتساءل بلهجة لا تخلو من السخرية هل رأيت في أي مكان في العالم توافق فيها الأغلبية على الاستسلام لـغزو أجنبي؟
ويتابع “تم ذلك بزعم أن أجدادنا كانوا هنا لتبرير دخول الأرض والسيطرة. كان الصراع متأصلا وتم تجاهله حيث تغيرت نسبة اليهود إلى العرب لصالح اليهود”. ويتساءل مجددا من سيوافق على مثل هذا الشيء؟ على أن يتحول من أغلبية إلى أقلية؟
ويشدد يعقوب شاريت على أنه يرى في “تحول الأغلبية العربية إلى أقلية والأقلية اليهودية إلى أغلبية أمرا غير أخلاقي”.
هل تفضل أن ترى إسرائيل أشكنازية، علمانية وليبرالية مثلك؟
“أتحدث بصراحة لأنه ليس لدي ما أخفيه. كلما كان المجتمع أكثر تجانسا، كان أكثر صحة. أشعر بخيبة أمل من مصير الشعب اليهودي الذي قسمنا إلى قبائل. كما أنني أشعر بخيبة أمل من طبيعة الدولة. عندما أرى رئيس الوزراء في إسرائيل يعتمر القبعة الدينية (كيباه) على رأسه لا أشعر أنني بحالة جيدة. هذه ليست إسرائيل التي أريد أن أراها”.
ويتساءل يعقوب شاريت بـمرارة كيف حدث أن هذا المكان الجديد الذي كان من المقرر أن يجلب الابتكارات، أصبح المكان الأكثر سوادا، الذي يسيطر عليه القوميون الأورثوذكس المتطرفون؟ كيف يكون هذا هنا من بين جميع الأماكن، هناك رجعية وتعصب، مسيانية، رغبة في التوسع والسيطرة على شعب آخر؟
يقول شاريت “أحبطتني الهجرة الروسية كثيرا. الأشخاص الذين كنت أرغب بشدة في قدومهم إلى هنا اتضح أنهم يمينيون وقوميون – نتيجة سنوات عاشوا فيها نصف مندمجين ويحتاجون إلى إخفاء أصلهم. الآن تحولوا إلى الجانب الأكثر تعصبا وتطرفا. لقد شاركت في إحضار أعدائي إلى هنا. أفيغدور ليبرمان مستوطن، سياسيا هو عدوي”.
ولكن ليس وصول هذا الشخص أو ذاك هو ما يزعج شاريت فهو يعارض تشجيع الناس على الانتقال إلى إسرائيل التي يقول عنها مستهزئا إنها الدولة الوحيدة التي تعمل على زيادة عدد سكانها ويتساءل من سمع عن مثل هذا الشيء؟ أن يقنع المبعوثون الناس بالمجيء والعيش في إسرائيل؟ ألا يوجد ما يكفي من الناس والاختناقات المرورية هنا؟
التسوية لا تعني الاستسلام
في عام 1988 أصدر شاريت كتابه “دولة إسرائيل زائلة“ وعلى الغلاف يظهر إشعار وفاة بالعبرية. ويقول شاريت إن هذه كانت “صرخة يائسة للحظة التي أعقبت اللحظة الأخيرة وحرارة أزمة وجودية غير مسبوقة تتجاوز إمكانية التغلب عليها أو منعها”. ويخلص يعقوب شاريت أنه ليس خائفا من الموت نفسه، لكنه “يخاف من الشكل الذي سيأخذه الموت” ويكشف أنه قد اتخذ قرارا بالانتحار إذا وصلت حياته إلى النقطة التي “لم تعد فيها مبررة في حد ذاتها، وأنني رجل ميت يمشي وليس لي جدوى أو مساهمة ولكني عبء على الآخرين وعلى عائلتي”.
وفي ختام الحديث يتنبأ بنهاية سوداء لـإسرائيل بقوله إنه أبلغ عائلته بالفعل بقراره بأنه سوف يتبرع بجسده للإسهام في العلم ويتابع “لست بحاجة إلى قبر. أنا لا أذهب إلى قبور عائلتي. لا اعتقد أن ذاكرة الإنسان أو روحه مرتبطة بعظامه أو بالمكان الذي دُفن فيه. لا أريد أن أشغل مساحة في بلد صغير مثل بلدنا. لا فائدة من ذلك على الإطلاق. على أية حال وفي جيل أو جيلين سيتم نسيان شواهد القبور والتخلي عنها”.
من جهتها تنهي “هآرتس” بالقول “لكن قبل أن يحدث كل هذا، ما يزال يريد الوقت لكتابة سيرته الذاتية، التي كشف عن بعض عناوين فصولها في هذه المقابلة لقد اختار بالفعل اسم الكتاب: “متعاون قسري”.