أصدر مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، ورقةً علمية، حللت مواقف الإدارات الأمريكية المتعاقبة وسياساتها منذ عهد رونالد ريغان حتى دونالد ترامب، تجاه مدينة القدس المحتلة.
وتبرز أهمية هذه الدراسة في شمولها على مناقشة ما سمي بـ”صفقة ترامب” أو “صفقة القرن” من تلك المواقف والسياسات وتحليلها، وذكرت أنه بعد قطيعةٍ مع سبعة عقودٍ من السياسة الأمريكية نحو القدس، أعلن الرئيس دونالد ترامب في السادس من ديسمبر 2017، اعتراف إدارته بالقدس عاصمةً لإسرائيل، كما وجّه وزارةَ الخارجية لبدء التحضيرات لنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس.
ووقتها -تقول الورقة العلمية- كان الكونغرس الأمريكي قد تبنّى بأغلبية كبيرة قانون سفارة القدس سنة 1995، الذي تنكّر لتاريخ القدس، والسيادة الفلسطينية العربية الإسلامية عليها، حيث تضمن القانون ثلاثة بنود؛ الأول أن تبقى القدس موحدةً غيرَ مجزأة، والثاني يعترف بالقدس الموحدة عاصمة لإسرائيل، أما البند الثالث فيُلزم الإدارة الأمريكية بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، في أي وقت مناسب يحين.
وتوضح الدراسة أن المتابعين للشأن الشرق أوسطي بشكل عام، والشأن الفلسطيني بشكلٍ خاص، يرون أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، هو صاحبُ الموقفِ الأكثر وضوحاً وقوةً بخصوص موضوع نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، فقد سبقه رؤساء أمريكيون، جمهوريون وديموقراطيون، أعلنوا عزمهم نقل السفارة، لكنهم لم ينفذوا هذه الوعود، وهو ما نفذه ترامب بالفعل يوم 14 مايو 2018.
وأضافت بأن الاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمةً لإسرائيل “يعني الإبقاء على الوضع الراهن القائم على الاحتلال، والإقرار بضمّ الأراضي بالقوة”، لافتة إلى أن نقل السفارة الأمريكية إلى القدس “يعزز، ويدعم السيادة الإسرائيلية على شرقي القدس، وغربيها؛ بناءً على قرار الكنيست الإسرائيلي بضمّ المدينة، بصفتها العاصمة الأبدية لإسرائيل، كما ويشرّع من الناحية القانونية ما أقامته إسرائيل0 من سلوك استيطاني في القدس، ويناقض الالتزامات والتأكيدات الصادرة عن جميع الإدارات الأمريكية السابقة”.
كما أشار وائل المبحوح الباحث الذي أعد الدراسة، إلى أن هذا الفعل الأمريكي يعد مخالفاً لمبدأ عدم الاعتراف بالأوضاع الإقليمية غير المشروعة؛ ويوضح أيضا أن هذا المبدأ يؤكد على جميع دول العالم عدم الاعتراف بأي تصرفٍ مخالفٍ لمبادئ القانون الدولي، وهو التزامٌ على دول العالم بالامتناع عن الاعتراف بأي مكاسبَ إقليميةٍ غير مشروعة.
كذلك يخالف الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، ويحول دون تمكينه من حقّ تقرير المصير بإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس، وهذا الموقف يعدّ حالةً من حالات انتهاك قواعد القانون الدولي، كما أنه يفتح الباب أمام دول العالم المساندة لـ”إسرائيل” لاتخاذ قراراتٍ مماثلةٍ لما اتخذته الولايات المتحدة. ويعني بكل وضوح إخراج القدس من مفاوضات الحلّ النهائي، وهو ما يعني أيضاً السماح لـ”إسرائيل” بإحداث تغييراتٍ على الأرض في القدس، دون حسيب أو رقيب.
وخلص الباحث إلى جملة نتائج، فرأى أن القرار الأمريكي بنقل السفارة إلى القدس، يعني منح الاحتلال مزيداً من الشرعية، والاعتراف بكل ما يقوم به من اعتداءات في المدينة المقدسة، وهو ما يؤكد انحياز الإدارة الأمريكية للاحتلال في كل المواقف منذ إنشائه. كما رأى أن السياسة الأمريكية تجاه القدس اتسمت بالانسجام التام مع السياسات الإسرائيلية، بل وقوف الولايات المتحدة، دائماً، موقفاً متصلباً منحازاً بشكلٍ واضح لـ”إسرائيل”، على الرغم من محاولتها إظهار شيء من التوازن أحياناً.
كما خلص إلى أن قرارات مجلس الأمن، والجمعية العامة للأمم المتحدة، ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)؛ المتعلقة بالقضية الفلسطينية بشكل عام، وبمدينة القدس بشكل خاص، ما تزال حبراً على ورق فيما يتعلق بتنفيذ “إسرائيل” لهذه القرارات، وعادةً ما تقوم “إسرائيل” بتفريغها من مضمونها، متكئة في ذلك إلى الموقف الأمريكي المنحاز دائماً إلى الرواية الإسرائيلية، بل والمعطل لإصدار قراراتٍ أممية في صالح الفلسطينيين؛ بشأن القدس عبر استخدام حقّ النقض (الفيتو).
وتؤكد الدراسة أن القرار وإن كان مناقضاً لكل المواثيق والأعراف الدولية، فإن الحالة الدولية اليوم لا تسمح لأحد بمعارضة أمريكا، وربما تكتفي بعضُ الدول العظمى، التي لم تبارك القرار، بالامتناع عن نقل سفارتها فقط، وذلك في أحسن الأحوال. وأن العرب اليوم–وخصوصاً دول الإقليم– لا يبدون في موقف قوي يسمح لهم برفض نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، أو رفض “صفقة القرن” بشكل عام، أو حتى محاولة حشد أطراف دولية لرفض ذلك.
كما أشارت إلى أن موقف السلطة الفلسطينية من قرار نقل السفارة كان ضبابياً؛ وقالت الدراسة: “فهي وإن أبدت اعتراضها على القرار، فإنها لم تتخذ خطوةً واحدةً تجاه أمريكا، وسياساتها في المنطقة، إضافة إلى أنها لا تتحرك خطوة إيجابية إلى الأمام، من أجل إنهاء الانقسام السياسي الفلسطيني، الذي يعزز حدوثه من فرص وقوف الفلسطينيين أمام تنفيذ صفقة القرن وتداعياتها المستقبلية”.
ورأت أيضاً أن الفلسطينيين ربما يجمعون على أن هذه الخطوة توجه “ضربةً مدمرة لعملية السلام”، لكنهم في الوقت ذاته يبدون مترددين أو حذرين من التعاطي بقوة أكثر، ضد السياسة الأمريكية تجاه عملية السلام نفسها، أو تجاه مدينة القدس.
وأشارت إلى أن “صفقة القرن”، وإن مرت، فإنها ليست قدراً حتمياً على الفلسطينيين، لا يمكن تغييره، وقالت: “قناعة الفلسطينيين تزداد يوماً بعد يوم أن الاحتلال إلى زوال، وأن نقل أمريكا سفارتها إلى القدس لا يعني بالضرورة التسليم بذلك الأمر الواقع إلى الأبد، فالظروف تتغير، والقوي لا يبقى قوياً إلى الأبد، وكذلك الضعيف”.
وقالت إن الظروف ستبقى مهيأةً أمام أي رد فعلٍ فلسطيني في مواجهة تداعيات نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، متوقعة أن تتدحرج الأمور، لإعادة تفعيل “مسيرات العودة الكبرى”، لتصل إلى مواجهات مباشرة مع الاحتلال في أيّ وقت، وربما تستمر هذه المرة طويلاً.