* نسرين سيد أحمد
يشارك المخرج المجري لازلو نيميش في المسابقة الرسمية لمهرجان فينيسيا السينمائي في دورته الثانية والثمانين (27 أغسطس/آب إلى 7 سبتمبر/ أيلول) بفيلمه الجديد «يتيم» (Orphan) ثالث أفلامه الروائية بعد «ابن شاؤول» (2015) و»غروب» (2018). يتضح لنا منذ اللحظات الأولى من الفيلم، أنّ نيميش ما زال مسكوناً بذاكرة أوروبا الشرقية المثقلة بالحروب والهزائم، وأنّه يصرّ على تفكيك علاقة الفرد، وبالأخص الطفل، مع تاريخ يتوارث القسوة جيلاً بعد جيل. ورغم عنوانه، فإن «يتيم» لا يروي قصة طفل بلا والدين. بطله أندور (يؤدي دوره بورتوريان باراباش) يعيش مع أمّه كلارا (أندريا فاسكوفيتش)، ولكن والده غائب وتقول له أمه إنها لا تعلم إن كان حياً أم ميتاً، بين احتمال موته المفاجئ في الحرب، وإمكانية أن يكون قد اختفى، أو قتل في معسكرات النازي.
يتحول الغياب في عين أندور إلى يقين بالفقد، وإلى شعور عميق بالوحدة يجعله في حكم اليتيم، حتى لو كانت الأم موجودة جسداً. ومع طول الغياب يتحول الأب الغائب إلى أسطورة تغذيها الأم بالحديث عن الأب هيرش، الذي تأسى لفقده وغيابه
أحداث الفيلم تدور في بودابست عام 1957، بعد عام واحد فقط من سحق الانتفاضة الطلابية ضد الحكم الستاليني. المدينة التي ما زالت تتعافى من الحرب العالمية الثانية ومن صدمة المحرقة، تبدو هنا كفضاء خانق، متخم بالمآسي والمواجهات العنيفة في الشارع، والشرطة القمعية والرجال المتسلّطين. في هذا المناخ الملوّث، ينشأ أندور محاطاً بخيبات متتالية، فينكمش على ذاته ويحوّل صور والده الغائب إلى شبه أيقونة يتحدّث إليها كما لو كانت صلاة. وبدلاً من عودة الأب الغائب، يطرق الباب جزار ضخم الجثة يُدعى ميهالي (غريغوري غادبوا) مدّعياً أنّه والد أندور. دخوله المفاجئ، أو عودته الملتبسة، يفتح على الفتى أزمة وجودية قاسية. فميهالي رجل غليظ، يسيء معاملة أمّه، ويكسب رزقه من ذبح الخنازير. بالنسبة لأندور، يمثل ظهور هذا الرجل الفظ الغليظ صدمة بالغة وتحطيماً لصورة الأب من الناحيتين الشخصية والعرقية في آن، فهذا الرجل يبدو بعيداً كل البعد عن الرقي والتحضر كما أنه ليس يهوديا، وقد نشأ أندور على أحاديث أمه عن رقي والده ورقته وعلى أنه كان يهودياً. يرى أندور أن ميهالي هذا سليط اللسان، لا يتورع عن الكلام البذيء والتلميحات الجنسية ويشرب بإفراط. ينفر أندور الصبي من ذلك الرجل. وفي محاولة للخلاص، يتجه أندور إلى الكنيس الذي اعتادت عائلته ارتياده قبل الحرب، لكنّه لا يجد هناك عزاءً ولا طمأنينة. منذ المشهد الافتتاحي الذي يستعيد عام 1949، حين تعود الأم لتستلم طفلها من ملجأ الأيتام بعد سنوات من الاختباء، نلمس هشاشة العلاقة بينهما. اللقاء الذي يُفترض أن يرمم الانقطاع العاطفي تحوّل إلى فجوة أعمق، حيث يحدّق كل منهما في الآخر بعجز عن الفهم. الأم تحمل عبء النجاة من الحرب ومن المحرقة، والابن يحمل جرح الانفصال الذي لم يلتئم. يتصدع هذا التوازن الهش أكثر مع دخول ميهالي. بالنسبة لأندور، هو رجل غريب يقتحم البيت كأنه صاحب الحق فيه. لكن مع تتابع الأحداث، يتضح أنّ ميهالي هو من آوى الأم بعد الحرب، وأنّ حضوره في حياتها لم يكن عارضاً. لحظة إدراك الفتى لحقيقة نسبه، تهوي عليه كصفعة لا تُحتمل، فيرفضه تماماً، ويتمسّك بصورة الأب الراحل، حتى وهو يدرك أن الوقائع لا تُسعفه في هذا الوهم.

الصراع هنا ليس عائلياً فحسب، فالفيلم يوظف التمزق الداخلي لأندور، ليعكس حال بلد بأكمله تيتّم سياسياً بعد سحق ثورته، وإجباره على قبول سلطة قاسية ومفروضة، تماماً كما يُجبر الفتى على مواجهة رجل يقول له إنه أبوه، رغم رفض الصبي لذلك الرجل وتقززه منه. الجانب الأكثر قوة في «يتيم» أنّه يخلق نسيجاً يجمع الخاص والعام، وألم العائلة وتاريخ الأمة. أندور لا يتمرد على الأم فقط ولا على الأب المفروض عليه قسرا، بل يتمرد على فكرة الخضوع لنظام جديد، وعلى استبدال الأب الغائب برمز سلطوي فج. ما يجعل الفيلم يتجاوز حكاية طفل يبحث عن جذوره، ليصبح ذلك الطفل الممزق المتمرد، رمزاً لبلد ما زال يحاول أن يجد مكانه بين أنقاض القرارات الكبرى للقوى العظمى.
يعود نيميش للعمل مع مدير التصوير الموهوب ماتياس إرديلي، الذي رافقه في «ابن شاوول» و»غروب». لكن هذه المرة يبتعدان عن اللغة البصرية القائمة على اللقطات القريبة والمطاردة اللصيقة للشخصيات، ليتجها نحو ما يذكرنا بلوحات ريمبرانت بألوانها البنية الداكنة. النتاج البصري مبدع، بل مذهل في جماليته، رغم قسوة محتوى الفيلم واهتراء الواقع المصور. المدينة المدمّرة تتحول إلى لوحات دقيقة البناء، والشوارع الفوضوية تبدو مُحكمة التكوين. هذا الإصرار على الجمال قد يضعف من حدة الألم المفترض أن يعيشه المتفرج. ففي حين نجح «ابن شاوول» في تصوير رعب محارق النازي، بلا فواصل بصرية مريحة، يختار «يتيم» مسافة أبعد، تسمح بالمشاهدة، لكن قد تضعف التماهي. يكاد الممثل الصغير باراباش أن يحمل الثقل الدرامي للفيلم على عاتقه. ملامحه الحادة وشعره الأشقر اللافت يمنحانه حضوراً قوياً أمام الكاميرا. على الجانب الآخر، تقدّم أندريا فاسكوفيتش دوراً صامتاً في كثير من مشاهده، يترك أثراً أعمق مما يقوله النص. فهي أمّ حائرة بين محاولة بناء حياة جديدة، وشعور دائم بالذنب تجاه ابن لم تُحسن حمايته في الماضي. أما غادبوا، فيجسّد الجزار بواقعية، يجمع بين العنف الظاهر، ولحظات نادرة من الحنان غير المتوقع، ما يضاعف من التباس الشخصية.
منذ بدايته، ارتبط اسم نيميش بفيلم «ابن شاوول»، الذي منحه الأوسكار وحاز إطراءات نقدية واسعة، وكان تجربة بصرية فريدة قلبت مقاييس تناول المحرقة. ثم جاء «غروب» كمغامرة طموحة، لكنها متعثرة.
«اليتيم» يبدو أقرب إلى محاولة تصحيح المسار: نص أكثر وضوحاً وسهولة في التلقي، وصورة محسوبة، لكنه يفتقد عنصر المفاجأة والجرأة، التي جعلت فيلمه الأول يخلد في الذاكرة كجرح لا يندمل. «اليتيم» ليس فيلماً بسيطاً، بل هو طبقة جديدة من مشروع نيميش المستمر في مواجهة الذاكرة الأوروبية. يقدّم صورة موجعة لطفولة ضائعة، وأسرة مفككة، وبلد مهزوم يبحث عن هوية. بهذا الفيلم، يثبت نيميش أنّه ما زال واحداً من أبرز المخرجين الأوروبيين في جيله، حتى لو كان «يتيم» أقل تأثيرا من «ابن شاوول».















