عندما كتبت منذ أيام مقالا عن فيكتور هوغو وخرافة اعتناقه للدين الإسلامي، وجدتني لأول مرة أفكر في مسألة اعتناق ديانة والتخلي عن أخرى، وقد ألفنا أن نطالع -بغير قليل من الفخر- سير روجيه غارودي أو تيتوس بوركارت أو ريني غينون واللائحة ليست بالقصيرة، ويملأنا الاعتزاز بديننا الحنيف الذي يستسلم له المناطقة وينبهرون بتعاليمه وحكمه، لكن في المقابل: ألا يعتنق مسلمون أديانا أخرى؟ ألا يجدون في بعض المعتقدات المختلفة ما يطمئن نفوسهم..
ولا أتحدث هنا عن المكرهين المرغمين أو الساخطين أو الشامتين، بل أتحدث عمن يقوده عقله ومعرفته إلى اختيار صادم… وقد حضرني في هذا السياق مثال الراهب الفرانسيسكاني يوحنا محمد بن عبد الجليل..
وقد سمعت عنه عندما كنت صغيرا قصصا خرافية بدورها، ولحسن الحظ أن المؤرخ والباحث الفذ جامع بيضا أفرد له مقالة مجملة في معلمة المغرب (الجزء 17، ص. 5887-5889)، فالرجل ليس سلسل قرية نائية بجبال الأطلس المتوسط أو الكبير ينبهر بأحد المبشرين يقدم له دواء أو يساعده في محنة، وليس ممن ضجروا من المقام بالبلد، فبحث في تغيير الملة عن حياة أفضل، ولسان حاله يقول:
ما في المقامِ لذي عقلٍ وذي أدب/ مِنْ رَاحَة ٍ فَدعِ الأَوْطَانَ واغْتَرِبِ
سافر تجد عوضاً عمَّن تفارقهُ/ وَانْصِبْ فَإنَّ لَذِيذَ الْعَيْشِ فِي النَّصَبِ
والأسدُ لولا فراقُ الأرض ما افترست/ والسَّهمُ لولا فراقُ القوسِ لم يصب
بل إن الرجل سليل عائلة فاسية قدم جدها الأكبر من بلاد الأندلس قبل أزيد من أربعة قرون، وعرفت بكونها من العائلات الموسرة التي تقلد أبناؤها المناصب تلو المناصب في الجهاز المخزني، وقد ولد راهبنا محمد بن عبد الجليل في 17 أبريل 1904 بمدينة فاس، وهناك من يروي أن والده كان يشغل منصب خليفة باشا مدينة فاس، بينما عرف أخوه عمر بن عبد الجليل كأحد قادة حزب الاستقلال حتى إنه تبوأ منصب وزير للتربية الوطنية سنة 1958. وهكذا قيض للطفل أن يدرس في جامع القرويين وجامعتها فحفظ القرآن وهو طفل، وفي العاشرة من عمره عاد مع والده من أرض مكة وقد لصقت به صفة الحاج.
درس الفتى “الحاج” في مدرسة شارل دوفوكو بالرباط وقضى المرحلة الثانية في ثانوية غورو بالدار البيضاء قبل أن يحصل على شهادة الباكالوريا سنة 1925، ليشد الرحال إلى جامعة السوربون العريقة بفرنسا رفقة أخيه عمر، قصد تحضير الإجازة في اللغة العربية وآدابها ويلتقي هناك بشيخ المستشرقين لويس ماسينيون.
وحيث إن باريس فتحت للشاب ذراعيها فزجد نفسه ينهل من مختلف المشارب المعرفية، ويتردد على المعهد الكاثوليكي ويدرس الملة المسيحية بإمعان وشغف، وما هي إلا ثلاث سنوات حتى تم تعميده من طرف الكنيسة الكاثوليكية سنة 1928. وفي سنة 1935، انخرط في السلطة الكنسية ليصير راهبا مكتمل الرهبنة يسري عليه ما يسري على إخوانه، واستقر رأيه على أن يضيف اسم “جون” أو “يوحنا” إلى اسمه الأصلي أسوة بما فعله منذ أربعة قرون أسير الإيطاليين في عرض المتوسط الحسن الوزان الفاسي الغرناطي… وما لبثت المؤسسة الكاثوليكية أن عينته سنة 1936 أستاذا للغة العربية والأدب وتاريخ الأديان وعلوم الإسلام. أما في مدينة فاس، فقد اهتزت الأرض وجنباتها بعائلة الكاهن الحديث العهد بدينه الجديد، وسارت جنازة رمزية تنعيه بعد أن قررت العائلة قطع كل صلة به، وهو القطع المستحيل، فهيهات أن تنسى الأسرة ابنها وأن يدير الأخ ظهره لأخيه… فأخوه عمر زاره لمحاولة معرفة سبب تحوله، … ولا يمكن للمرء تحديد موقف الإدارة الفرنسية من هذه الواقعة، وغالب الظن أنها –في اعتقادي لم تنظر لها بعين الرضى-. ورغم حب يوحنا الشديد لوطنه ولأهله وشوقه وحنينه لمراتع طفولته، فإنه لم يستطيع العودة لأربعة عقود
وهو ما جعله يعيش عذابا نفسيا. وفي سنة 1961 زار بلده بعد أزمة نفسية لم ينقذه منها إلا تدخل أخيه عمر، لكن حزب الاستقلال استغل عودته ونشرت الصحف المغربية خبرا مفاده أن محمد بن عبد الجليل قد عاد إلى إسلامه، وما لبثت الصحف الفرنسية أن تناقلت نفس الخبر. فما كان من محمد بن عبد الجليل إلا أن شد رحاله من جديد إلى فرنسا تاركا المغرب إلى غير رجعة مصمما على الوفاء لدينه المسيحي، رغم أن علاقته بإخوانه الفرانسيسكان عرفت توترا بسبب عدم استئذانه لهم قبل مغادرة فرنسا… علما أن لم يحمل أبدا الجنسية الفرنسية عن قناعة واختيار. وبعد إصابته بسرطان في اللسان، توقف الأب يوحنا عن التدريس، محافظا على نشاطه الكنسي ومقدما المشورات في ما يتعلق بعلاقات الفاتيكان بالديانات الأخرى، وهي المشاورات التي عرفت باسم conciles du Vatican II.. وأمام المعاناة مع المرض، أسلم محمد بن عبد الجليل الروح لباريها في نوفمبر 1979 في إحدى الضواحي الباريسية..
أما نتاج يوحنا محمد المعرفي فكتب بالفرنسية يبدو من عناوينها أنها حمالة للكثير من الإشكاليات الدينية، فقد نشر الرجل كتابا بعنوان “الإسلام ونحن” سنة 1947. وتاريخا مختصرا للأدب العربي سنة 1943، وكتبا حول الجوانب الداخلية للإسلام، ومريم والإسلام.. ناهيك عن بعض المقالات ومراسلاته مع لويس ماسينيون….
وإن كنت أستحضر شخصية يوحنا محمد بن عبد الجليل وتأثير المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون عليه، والذي ربما كان من أسباب اعتناقه الملة المسيحية، فإني أتذكر تلميذا آخر لماسينيون نفسه، وهو الكاتب المصري الكبير زكي مبارك الذي سافر إلى فرنسا للدراسة في عام 1927م على نفقته الخاصة وكان يقضي هناك أربعة أشهر من كل عام ثم يعود للقاهرة ليقضي المدة المتبقية من العام يعمل فيها بالصحافة والتدريس من اجل جمع نفقات إقامته في باريس،
وظل علي هذا الحال حتى أبريل 1931حين حصل علي الدكتوراه. وقد نشر بعد حصوله عليها كتابا عن مشاهداته وذكرياته في باريس. لكن علاقته بماسينيون تميزت بالندية، ففي مقدمة كتابه عن النثر الفني قبل القرن الرابع، كتب زكي مبارك عن خلافاته مع وليام مارسي، ومحاولة ماسينيون بلطف ثني مبارك عن الفصول الأولى لأطروحته تجنبا للاصطدام مع مارسي، فكتب زكي مبارك: “… نصحني المسيو ماسينيون وأفهمني أنه رجلٌ صعب المِراس، وأن منزلته في المعهد العلمي عظيمة، وأن المستشرقين جميعًا يجلونه أعظم الإجلال، ولكن كتب الله أن لا أنتصح برأي المسيو ماسينيون، فابتدأت رسالتي التي قدمتها للسوربون بفصلين في نقض آرائه من الأساس،
فغضب الرجل وثار وصمم على حذف الفصلين بحجة أنهما لونٌ من الاستطراد لا يوائم الروح الفرنسي في البحث، وصممت على إبقاء الفصلين بحجة أنهما العماد الذي تنهض عليه نظريتي في نشأة النثر الفني. وكأنما عزَّ على الرجل أن أهاجمه في عُقر داره فمضى يعاديني عداءً خفيًّا كانت له آثار بشعة لا أتذكرها إلا انتفضت رُعبًا من عجز الرجال عن ضبط النفس وقدرتهم على تقويض دعائم الإنصاف. وقد قابلت خصومته بلدَدٍ أقسى وأعنف، ورأيت الحرص على آرائي أفضل من الحرص على رضاه، فأبقيت الفصلين اللذين أغضباه، وأضفت إلى البحث الذي قدمته إلى مدرسة اللغات الشرقية فصلًا كان أشار بحذفه لأني هاجمته فيه، وانتهينا إلى عاقبة أفصح عنها المسيو ماسينيون كل الإفصاح؛ إذ قال حين لقيته أخيرًا في باريس:
إن المسيو مرسيه لا يحبك، ولكنه لا يستطيع أن ينساك.
أما أنا فأحب هذا الرجل وأذكره بالجميل؛ لأنه من خيرة الأساتذة الذين تلقيت عنهم في باريس، …”
إن تأثير أستاذ كبير مثل ماسينيون على طلبته أمر لا جدال فيه، وربما إذا ضعف الطالب والمطلوب، يستسلم المرء لملة دون أن تنسيه ملته الأولى، أما إذا كان قادما من عمق ثقافة لا تقبل بأن يفرض عليها رأي غير مقنع ولو كان وراءه مارسي أو ماسينيون عميد الاستشراق نفسه، فإن مقاومة ثقافية تنبجس من الأعماق فترد على الرياح بالعواصف ولا تنثني أمام العواطف… ولا يعني هذا بحال من الأحوال حكما على محمد بن عبد الجليل، الذي ستظل ذكراه خالدة في نفوس إخوانه الفرانسيسكان المسيحيين وبني جلدته من العرب المسلمين.