- د. مهدي عامري (المادة الفكرية والمعرفية)
- – محمد المريبطي (إدارة الحوار)
- – عبد العالي زينون (الكتابة والتوضيب)
محمد المريبطي. السلام عليكم. اسمح لي بداية أن أعرب لك عن سعادتي الكبيرة باستضافتك في درسنا التفاعلي الجديد (مفاتيح الاستمتاع بالحياة). قبل أن نخوض في النقاش، هناك جانب طريف في هذا الدرس، ألا و هو عنوانه الجذاب، فماذا تقصد عزيزي مهدي بمفاتيح الاستمتاع بالحياة ؟
د. مهدي عامري. عندما نتحدث عن مفاتيح الاستمتاع بالحياة، فإننا لا نتحدث عن طريقة واحدة أو عن أنموذج واحد قابل للتطبيق في كل زمان ومكان، ولكننا نتحدث عن ترسانة من الأدوات ومن المهارات الحياتية التي ينبغي بالنسبة لكل شخص يريد أن يحسن من جودة حياته أن يتملكها و يتعلمها.

ولهذا فإن مفاتيح الاستمتاع بالحياة هي مفاتيح عديدة وأجزم القول وأؤكد أن هذه المفاتيح هي مفاتيح كونية عالمية عابرة للثقافات وللأزمة وللأمكنة، فلا يمكن أن تجرب الوصفة أو الخلطة السحرية في المغرب أو أندونيسيا أو أستراليا وتؤتي أكلها و تعطي نتائج مختلفة. النتائج واحدة و تكاد تكون متطابقة بغض النظر عن المعتقدات وعن الثقافة السائدة في كل بلد.
يمكن أن نقول أن نقطة الانطلاق من أجل فهم هذه المفاتيح هي أن هذه المفاتيح والطرائق كونية فلكي تكون مستمتعا بالحياة يجب أن تبدأ بفكرة بسيطة مفادها أن الجنة تبدأ هنا.
هناك كثير من الأشخاص خاصة المؤمنين بوجود العالم الآخر وبوجود حساب في عالم ما في زمن ما يعتقدون أن السعادة التي يمكن أن يحصلوا عليها محصورة في الاستمتاع بالملذات في العالم الآخر دون أدنى امكانية لتنزيل هذه السعادة الى عالم أرضي سفلي. نحن نريد أن نفند محدودية هذه الفكرة وندحضها ونقول أنه من الممكن بوسائل بسيطة جدا أن تكون سعيدا هنا و هناك بمشيئة الخالق العظيم طبعا.
هذا يدفعني دفعا للتحدث عن ثقافة التقليصية، أي الاستفادة من الحياة بأقل الوسائل و التكاليف. تقريبا بصفر سنتيم. و هذه الوسائل قابلة للامتلاك والتطبيق في كل زمان ومكان.
الفكرة الأولى و المدخل الرئيس هي أن الاستمتاع بالحياة يستند على الرأسمال العاطفي.
لماذا رأسمال ؟
رأسمال لأنه قابل للتنمية وقابل لأن يكبر، و لأن العاطفة شيء مهم جدا إلى جانب العقل وإلى جانب الاعتناء بالبدن، اضافة الى ما يمكن أن يركز عليه الإنسان المعاصر في ظل الضغوطات والتوتر الذي نعيشه، و في ظل أزمة الخوف التي نعيشها في هذا الزمن الموبوء والصعب، لذلك من الأهمية بمكان أن نبدأ بالعاطفة.
الآن هناك مجموعة من الخطوات البسيطة من أجل استثمار هذا الجانب العاطفي، وهي خطوات بسيطة جدا وقابلة للتطبيق في كل زمان ومكان.
أول خطوة هي تربية الحيوانات الأليفة. يمكن أن يكون الحيوان سمكة أو قطة أو كلبا…
ان امتلاك حيوان أليف يمنح المحبة و الرفق ويمنح ساعات من الاستمتاع بالنسبة للشخص، وهذه الأُلفة يمكنها أيضا أن تُنمي العاطفة من خلال أنشطة أخرى يقوم بها الإنسان.. هذه الأنشطة يمكن أن تُبعده عن نمط حياته الروتيني مثل أن يغرس الشخص النباتات في شرفة البيت أو في السطح وأن يخصص على سبيل المثال وقتا يوميا أو أسبوعيا للمساعدة في أشغال البيت أو لزيارة الأصدقاء وصلة الرحم ولو مرة في الشهر.
ثمة أيضا خطوات أخرى من أجل تنمية هذا الرأسمال العاطفي وهي الاهتمام بالموسيقى، لأن الاستماع للموسيقى يمنح العقل جرعات كبيرة من التخيل ويفتح المخيلة.
أتذكر هنا أن كبار العلماء في التاريخ الإنساني وحتى في تاريخنا الإسلامي والعربي كانوا موسيقيين. جلال الدين الرومي وابن عربي وابن سينا وابن رشد… هؤلاء العلماء الكبار لم يكن مجال اهتمامهم فقط الرياضيات والفلك والفيزياء، بل كانت الموسيقى أيضا مجالا من مجالات اهتمامهم وإبداعهم، إلى درجة أن علماء كبار مثل الفارابي الذين استفاد منهم الغرب استفادة عظمى وقدرهم وأعطاهم قيمتهم أكثر منا نحن في ثقافتنا العربية والإسلامية ترك مقطوعات موسيقية و تراثا فنيا في غاية الروعة.
ان الاهتمام بالموسيقى يسمح أيضا بالتعرف على الذات ويرفع من الحالة المعنوية ويرفع من الثقة بالنفس ويخفف من وطأة المشاعر السلبية ومشاعر العزلة والوحدة، كما أن الاستماع للموسيقى يشكل دفعة معنوية لا غنى عنه لكل من أراد أن يخرج من قوقعة الكآبة.
تريد أن تتخلص من الكآبة ؟

شغل الألبوم الموسيقي المفضل لديك. و دون ذكر الألبومات الموسيقية، فكر في كل ما يتعلق بالموسيقى الصامتة أو الموسيقى الوترية التي ترافق بعض الأنشطة في العمل أو الموسيقى من أجل الاسترخاء وما إلى ذلك.
تريد أن تتغلب عمليا على الكآبة ؟
ابدأ يومك بالابتسام، فتعبيرات الوجه هي بمثابة النافذة التي يظهر من خلالها ما تشعر به داخل قلبك وجسمك، لأنها قادرة على التأثير الإيجابي على الحالة المزاجية، ومن المفيد أن تتأكد أن ابتسامتك نابعة وخارجة من القلب، يعني ابتسامة طبيعية وغير مصطنعة، ابتسامة تمنحك الطاقة، وهي مثل الوقود الذي يشعل حماسك واجتهادك في اليوم بكامله.
هناك نصيحة أخرى لأجل تنمية الرأسمال العاطفي، وهي أن تمنح نفسك أقساطا كافية من الراحة. مثلا بعد كل ثلاث ساعات من استعمال الحاسوب يجب أن نأخذ 10 دقائق من الراحة، أو بعد كل ساعتين أو ثلاث ساعات من قيادة السيارة في الطريق بصفة عامة يجب أن نأخذ 5 أو 10 دقائق من الاستراحة. وهذه الاستراحة في ظل التكنولوجيا وفي ظل الرقمنة التي نعيشها في السنوات الأخيرة لا تعني بالضرورة أن تستلقي أما التلفاز أو أمام الحاسوب، فتكون راحتك البحث عن تعب وعن توتر مضاعف.
من أسرار استثمار المجال العاطفي نجد تمرين الشكر وتقدير جميع النعم و العطايا والهدايا التي تمتلكها بين يديك والتي جاد بها الله عليك. ان وجودك في الأرض معجزة و أنت حي تتنفس وأنت غير مصاب بمرض عضال و غير مشلول و لست في وضعية صعبة… هذه هدية عظمى تستحق وافر الشكر و التقدير. قدر كل شيء في الحياة. الصحة و المرض. الأفراح و الأحزان. حتى الأحزان والآلام تستحق التقدير لأنها معلمك الأول في مدرسة الحياة، لأن الألم يعلمك أكثر من البهجة والفرحة، و لأن الألم هو أيضا وسيلة من وسائل التنمية الذاتية ووسيلة من وسائل الترقية والتطهير، تطهير النفيس مما علق بها من أدران الحياة المعاصرة، ومن طاحونة هذه الحياة التي تحاصرنا بصعوباتها وبمادّيتها المفرطة.
محمد المريبطي. هل يمكن أن نتحدث عن التعبد والتأمل أيضا كوسيلتين أساسيتين لتنمية الرأسمال العاطفي؟
د. مهدي عامري. أكيد أنه من الأهمية بمكان أن نتحدث عن التأمل ونحن أصبحنا نعيش بفعل الوباء العالمي في أزمنة الخوف و اللايقين. ان هذا التأمل موجود في جميع الديانات وجميع الثقافات، وحتى في الثقافات اللادينية، فالتأمل هو طريقة من الطرق العظيمة التي هدفها هو الوصول إلى حالة من اليقظة الذهنية.
التأمل أيضا هو وسيلة من وسائل التركيز والتسامي التلقائي، ومن التقنيات التي تساعد المتأملين والمتدربين على تقليل الإجهاد وتدريب الوعي، وبواسطة التأمل يتواصل الشخص مع ذاته الداخلية ويخرج من طوفان الحياة اليومية بجميع متطلباتها وماديتها وصعوباتها، وفي هذا الباب أشير إلى أن هناك معطيات علمية كثيرة تشير إلى وجود فوائد عظيمة لرياضة التأمل، إلى درجة أن بعض الأطباء المعالجين في الولايات المتحدة الأمريكية عالجوا الكثير من الأمراض العضوية كالسرطانات باستخدام التأمل.
محمد المريبطي. أنا أقصد هنا مسألة التعبد كتعبير أصيل عن الحب (في المدارس الصوفية مثلا). أقصد تنمية الرأسمال العاطفي عن طريق التعبد، و لا أشير الى العبادة كواجب عقدي، وإنما كممارسة روحية وعاطفية تفيض بالحب…
د. مهدي عامري. نعم. أشاطرك الرأي. فعندما تصبح العبادة عادة فإنك تصل إلى مرتبة الحب وإلى مقام الحب، وعندما تصبح الصلاة أو الذكر أو التأمل في أسرار هذا الكون طريقة للوصول إلى القوة العليا أي القوة المفارقة والخارقة التي خلقت وصنعت هذا العالم فانك تسلك طريقة الحب. جميل أن يملأ الانسان يومه بالصلوات ، و لكن الأجمل هو أن يتلبس الحب جميع الحركات والسكنات التي تمر في حياة المتعبد مهما كانت ديانته. الحب مخ الـتأمل و عماد العبادة المتين، و إذا لم يكن هناك حب فان الصلاة و التأمل يظلان ناقصين، فالحب هو فكرة مركزية ورئيسية تستند عليها فاعلية الطقوس التعبدية و التأملية.
محمد المريبطي. أود العودة الى فكرة التقليصية… هناك مجتمع غربي شديد الاستهلاك ونحن أقرب له وهناك مجتمع شرقي يغلب عليه الاقتصاد. أنت تعلم أن الوصول إلى الاستمتاع في الحضارة الغربية يتم في الغالب عن طريق كسب المزيد من المال والثروات والاستهلاك… كل شيء ايجابي في الغرب له علاقة بالكثرة و الوفرة (الأموال و السيارات و المنزل الفخم و الأكل الباذخ و هلم جرا..). لكن بالنسبة للثقافة الشرقية فهناك تركيز على فكرة (التقليصية)، يعني أنه إذا أردت أن أستمتع بالحياة فسوف أراها في الأمور البسيطة جدا جدا، وأن أقلص من استهلاكي و كلما استطعت أن أقلل من استهلاكي اليومي وأن أتخلص من الرغبات الزائدة كان أفضل… مثلا اذا لم أحتج سيارة فلن أشتريها و يمكنني أن أمارس المشي.. سآكل فقط ما أحتاجه… و سيبقى لدي الوقت الكافي للتأمل والاستمتاع بالأمور البسيطة كما أشار الى ذلك الشاعر الفلسطيني محمود درويش (غَيْمٌ يُقَلِّدُ سِرْباً مِنَ الكَائِنَاتِ…) يعني أن هناك في مرمى بصر المتأمل لوحة فنية في السماء و هي موجودة بالمجان. فالأشياء الجميلة والأكثر بهاء في الوجود كلها مجانية. غروب الشمس مجاني، منظر الغيوم المتناثرة في السماء جميل جدا و مجاني، مشهد أسراب الحمام الطائرة مجاني، الهواء مجاني، الطبيعة الفاتنة مجانية…. ان أغلب الأشياء الجميلة جدا هي في بساطتها ومجانيتها تستحق أن يخصص لها كل يوم وقت كافي للتأمل.

د. مهدي عامري. بالفعل يا صديقي محمد. ان الأشياء الجميلة والرائعة التي تمنح السعادة لا تشترى بالأموال، والأشخاص السعداء هم الذين يملكون الأشياء التي لا تشترى بالمال والتي تمنحهم السعادة. صحيح أننا نعيش وفق فلسفة تنتمي إلى النمط الغربي القائم على الاستهلاك وثقافة تدمير الأشياء، يعني أن تسارع بالاستهلاك وأن ترمي الأشياء غير النافعة في القمامة تمهيدا لشراء أشياء جديدة وهكذا دواليك… ان هذه الحياة وهذا النمط الذي ننتمي إليه هو نمط من الحداثة/الحياة السائلة. ان هذا الأسلوب من الحياة هو أسلوب ما بعد الحداثة الذي بموجبه يجب أن تستهلك وتستهلك وتستهلك، و داخله توهمك الإشهارات وتوهمك ماكينة وعقل هذه الحضارة، و يوهمك العقل المفكر لهذه الحضارة أن سعادتك تعني المزيد من السيارات والعقارات والأسهم في البورصة والألبسة وما إلى ذلك… وهذه الفكرة خطيرة لأنها تعجل بأن ترمي بالأشياء وترمي حتى بالقيم استمرارا في الاستهلاك اللامنتهي للأشياء.
محمد المريبطي. أعتقد أنه في بعض الأحيان يكون السعي وراء السعادة أو وراء الاستمتاع سعيا مباشرا خلف الشقاء، وكلما جريت وتوهمت أني أجري وراء تحقيق السعادة كلما اقتفيت في واقع الأمر آثار الشقاء وهكذا أدخل في حلقة مفرغة… لننتقل الآن الى جانب آخر من مفاتيح الاستمتاع بالحياة. فمن أهم الاكتشافات العلمية الرائدة في القرن الحادي و العشرين مفهوم التشكل العصبي الذي يعني الإمكانيات الهائلة للدماغ للنمو و التحول و اعادة التشكل، و هذا عكس ما كان يعتقده سابقا علماء الطب و البيولوجيا و مفاده أن الدماغ ينمو ثم يصل إلى سن معينة (18 أو 20) ثم يصير عضوا ثابتا مثل الأذن والقلب ولا يمكنه أن يتحول و يتشكل.
لكن ابتداء من هذا القرن (2006) تم اكتشاف أن الدماغ دائم التحول عكس العقل وعكس الأعضاء الأخرى، وهو دائما يتشكل حيث يتكون من مجموعة من الخلايا التي تتصل بها عدة شبكات، والعقل يتكون عن طريق التعلم، أي كيف نفكر وماذا نفعل وكيف نفعل… و هذا يعطينا في نهاية المطاف دماغا جديدا بشكل مستمر، لأن دماغنا دائما في تشكل جديد. هذا اكتشاف هائل و عظيم لأنه يمنح مجموعة من الأفكار الثورية حول إمكانية التعلم الجديد حتى أنه يمكنني أن أصل الى عمر متقدم (50 أو 60 سنة) مع الاحتفاظ بإمكانية برمجة عقلي من جديد وفق ما أريد أن أتعلمه…
د. مهدي عامري. عطفا على كلامك عزيزي محمد، أقول وأؤكد أن الدماغ البشري له قدرات خارقة باعتباره يتألف من 100 مليار خلية عصبية على الرغم من أنه يشكل 3 في المائة فقط من كتلة الجسم (تقريبا كيلوغرام أو كيلوغرام ونصف حسب وزن الشخص)، وهو دماغ خارق للعادة باعتبار أنه عضلة قابلة للتشكل وقادر على التعلم في كل وقت وفي كل الظروف. و أبلغ مثال على ذلك تعلم اللغات بتقنيات بسيطة حيث يوجد أشخاص يتكلمون 7 أو 10 لغات، وقد يخيل للشخص أن هذا ضرب من الخيال، ولكن إذا رجعنا إلى كل لغة وعلمنا أنه مثلا بالنسبة للغة الإسبانية أو اللغة الفرنسية ممكن أن تتعلمها فقط باكتساب حوالي 500 كلمة تداولية في الحياة اليومية.
ان عقل الإنسان كما لا يعرف الكثيرون عقل خارق يتطور بشكل مستمر، يتكيف مع جميع الظروف، ويمكن أن ننميه باعتباره رأسمال قابل للتنمية مثله مثل العاطفة. ومن أهم التقنيات والنصائح من أجل أن ننمي العقل أن نتجنب النمط الاستهلاكي السائد في ثقافتنا المعاصرة التي كثر فيها التوتر، وكثرت فيها أيضا أنباء الموت المفاجئ في هذا الزمن الموبوء.
هناك في وقتنا الراهن الكثير من الأخبار المحزنة و المفجعة ولعل أول تقنية من التقنيات هي الحد من التوتر من أجل تنمية العقل، فالأمر لا يحتاج إلى أمر طبي للتأكيد على أن الشعور بالقلق أمر لا يحمل أي قدر من المتعة، بل أكثر من ذلك فالشعور المزمن بالتوتر يضعف المناعة، ويقتل أكثر من بعض الأوبئة والسرطانات ويضعف جهاز المناعة وجهاز الذاكرة، كما يضعف الترابط مع الذات والآخرين، لذلك فان محاربة مشاعر التوتر يمر أولا بالتعرف أولا على هذه المشاعر السلبية و بذل أقصى الجهود للتغلب عليها.
هناك طرق لتقوية المقاومة و للتنفيس عن المشاعر السلبية بطرق بناءة مثل ممارسة الألعاب والتمارين الرياضية والهوايات المختلفة، والخروج من الصندوق، أي الخروج من القوالب التي تضعك في خطاطات وتقول لك لكي تكون سعيدا يجب أن تمتلك أحدث سيارة وأكبر فيلا ورصيدا في البنك مليئا بالأموال… و الحال أن السعادة هي مسألة شخصية وكل شخص لديه المقاييس ولديه المواصفات الخاصة التي يمكن أن يصل بها إلى السعادة وإلى الاستمتاع بالحياة.
هناك مسألة ثانية. إذا كنت غير قادر على التوتر، فاعمل على التحسين من مستوى تعاملك معه واعمل على رؤية النصف الممتلئة من الكأس، واعتبار أن التوتر طاقة دافعة، فأحيانا تكون الطاقة السالبة طاقة تحمل في طياتها طاقة إيجابية، فما نمر به في الحياة من أحزان ومصائب يجب أن ننظر اليه كهدية لأنه يدفعنا إلى تحسين حياتنا، والخروج من الصندوق والأفكار النمطية والكلاسيكية.. كما يدفعنا إلى الوعي العميق بهشاشة الحياة و محدوديتها.
ان التحكم في التوتر الناتج عن العمل على سبيل المثال يمكن أن ينجح فيه أي شخص يمتلك ما يكفي من الإرادة و لهذا يجب أن يكون محاطا بالأشخاص الإيجابيين.. هناك من يعتقد على سبيل المثال أن الصداقة هي أن تمتلك 1000 صديق على الفيسبوك والحال أن الأصدقاء الحقيقيين يعدون على رؤوس الأصابع أي بين 1 و 5 أصدقاء، فإذا كان لدي صديق أو صديقان حقيقيان فهذا يكفي، و لعل الصديق الحقيقي في زمن الترابطات والتشابكات المرقمنة اللانهائية هو الكتاب الذي يرافقك في كل وقت والذي يمنحك قدرا كبيرا من الاستفادة ومن المعرفة.
من أجل تنمية هذا الرأسمال العقلي أيضا، يجب تعلم أشياء جديدة، كالتعلم الذاتي المستمر للوصول لدرجة معرفية راقية، فهذا يرفع من مستوى الثقة في النفس، والاهتمام بالعالم وبكل ما هو مستجد، ففي عصرنا الحالي أي عصر الرقمنة، يجب دائما على كل شخص يريد تنمية مهاراته ان يكون ابن عصره يعني أن يركب أمواج الديجتال.. هناك مواضيع راهنة يجب على كل شخص مهما كان تخصصه أن يلم ولو بالقدر اليسير منها، مثل الذكاء الاصطناعي، وعلم البيانات…
محمد المريبطي. أريد العودة معك إلى نقطة تحدثت عنها قبل قليل و هي الخروج من الصندوق.. أريد الإشارة إلى منطقة الراحة وكيفية الخروج منها ارتباطا بهذا الموضوع. حينما نتحدث عن مفهوم التشكل العصبي، أي عن العقل و امكاناته في التطور، فاننا نقصد أن العقل عبارة عن عضلة قابلة للنمو، فعندما يدخل العقل في منطقة تسمى منطقة الراحة – مثلا أنا أتحدث باللغة العربية و أوهم نفسي أن لغة واحدة كافية للتواصل – فان عقلي لا يمكن أن ينمو بالشكل الكافي. الأمر نفسه ينطبق على ممارسة الرياضة، فإذا أراد أحدهم أن يمارس الرياضة، ففي البداية سيحس بصعوبة التمارين و سيحس أيضا بالألم. أنا أعتقد أن الخروج من منطقة الراحة هو في حد ذاته استمتاع بالحياة، و طريق سريع للوصول إلى الملذات الجديدة. ما رأيك أنت ؟

د. مهدي عامري. أتفق معك فمن أجل أن تتقدم في الحياة وفي دروبها و متاهاتها الكثيرة يجب أن ترجع أحيانا للخلف وأن تفكر وتعيد النظر في الاستراتيجيات التي تستعملها في الحياة، فالخروج من منطقة الراحة هو مفيد جدا بالنسبة على سبيل المثال للمهنيين أو الأشخاص الذين يزاولون طيلة حياتهم نفس المهنة ويصابون بالملل.. أنا اعتقد أنه في هذا العصر المتسارع على مستوى المعرفة التكنولوجية والأشياء الجديدة التي نكتشفها ونخترعها كل يوم، من مصلحة الشخص أن لا يمتهن مهنة واحدة في حياته، يجب أن يزاول مهنا كثيرة في حياته حتى لا يصاب بالملل…
عندما تخرج من الصندوق فأنت تغادر منطقة الراحة، صحيح أنك سوف تتعرض لأشياء جديدة.. ربما تتعرض للفشل والانزعاج من وجود أمور جديدة في حياتك ولكنها مسألة في غاية الأهمية. على سبيل المثال في كثير من المؤسسات أو المقاولات، يجمع المدير أعضاء الفريق أو الموظفين أو العاملين الذين يرأسهم ويذهب بهم كل شهرين أو ثلاثة أشهر إلى منطقة من المناطق ربما بحر أو جبل أو منتجع من أجل بناء الفريق، ومن أجل أن يخرج الموظفون من صندوق الواجبات اليومية في المؤسسة التي يشتغلون بها، فبذلك يتم تجاوز الروتين و الهروب من صندوق الحياة الاعتيادية.
فمن أجل أن ينمي الشخص مهاراته وعقله ويطور ملكاته الابداعية، يجب أن يخرج من الصندوق، وهذه المسألة صالحة حتى بالنسبة للكتاب المتخصصين، فلنتخيل كاتبا متخصصا يقول (أنا متخصص في علم الاجتماع و لا شيء غير هذا). من الجيد أن تكون متخصصا لكن الأفضل هو تعدد التخصصات لأنه يمنح قدرا كبيرا من المتعة الفكرية ويمنح قدرا هائلا من الطاقة، وكل ما هو جديد أمر مطلوب بقوة في الحياة للخروج من الروتين، ومن كل ما هو مألوف.
محمد المريبطي. من كلاسيكيات الأمثال العربية (العقل السليم في الجسم السليم) و هي عبارة متواترة و محفوظة لدى الجميع. ان جسدنا يحملنا، و يحمل أهم عضو لدينا وهو العقل الذي يسيرنا بشكل أو بآخر، فهذا الجسد لا بد له أن يكون قويا، و لا بد من امداده باحتياجاته سواء الغذائية أو الرياضية وما إلى ذلك لكي يستمر في تزويد كل الأعضاء لخدمتنا نحو تحقيق أهدافنا، و عندما نتحدث عن الاستمتاع بالحياة فيمكن أن يكون البحث عن المتعة عن طريق العقل (القراءة والعمل الذهني..) ، ومن الناحية الجسدية هناك الغذاء والرياضة وأشياء كثيرة نود أن تتحدث لنا عنها، إذا كيف يمكن تعزيز القوة البدنية لترتبط بالاستمتاع بالحياة ؟
د. مهدي عامري. عندما نريد أن ننمي الرأسمال البدني فإننا نتحدث بشكل مباشر عن تقوية جهاز المناعة، فلا يمكن لأي شخص يريد أن يشعر شعورا حقيقا بالسعادة و أن تكون سعادته مكتملة ووافرة دون أن ينمي جهازه المناعي بالتغذية السليمة و المتوازنة. ان هذه التغذية يجب أن تكون قائمة على تناول الخضر والفواكه وشرب المياه بكثرة والابتعاد عن كل ما هو مضر… فامتلاك جهاز مناعي قوي يسمح لأي شخص بالاستجابة على نحو أفضل و مواجهة التوتر بفاعلية، فهناك بعض الفلاسفة يقولون (قل لي في ماذا تفكر أقل لك من أنت)، وأنا أقتبس وأقول (قل لي ماذا تأكل أقل لك من أنت).
فالتغذية السليمة مهمة من أجل مواجهة التوتر والأمراض البدنية المستعصية. ومن أجل تقوية الجهاز المناعي يجب القيام بالتمارين المنتظمة على الأقل 30 دقيقة كل يوم، أما بالنسبة للأشخاص الذين يتعذر عليهم ممارسة الجيم في الصالات الرياضية بسبب ظروف الإغلاق وإعادة الإغلاق والاحتياط من انتشار الوباء الذي نعيشه حاليا، فعلى الأقل يجب الاكتفاء بالمشي مع الحفاظ على نظام غذائي صحي و متوازن.
في السياق نفسه نشير أن ممارسة التمارين الرياضية الاحترافية تؤثر على إطلاق هرمونات الأندروفين (هرمون السعادة في الجسم) التي تنقل رسائل إيجابية إلى العقل والذي يترجمها بدوره إلى مشاعر وطاقة إيجابية.
النوم الجيد أيضا ينعكس ايجابيا على صحة الإنسان ومستويات شعوره بالتوتر، و يحسن من شكل وجودة الحياة.

نشير الى مسألة أخرى و هي ايجابيات المشي فوق التراب أو الرمال، فلقد أثبت الكثير من العلماء أن الكثير من البكتيريا الحميدة التي تعيش في التربة الأرضية تعمل على تحفيز العقل لإنتاج مضادات الاكتئاب.
ان جميع هذه التقنيات والوسائل البسيطة جدا يمكنها أن تمنحك قدرا كبيرا من الطاقة وتنمي رأسمالك البدني و العقلي و العاطفي و الذي تعد تقويته المستمرة طريقة مضمونة لحيازة مفاتيح الاستمتاع بالحياة.