قذفت الى الارض بلقاء الكاف و النون من قبل ان تخلق حروف الهجاء.
اتيت الى معترك الحياة باللطف الرباني الواسع و الامر الالهي القاطع، قبل ان يملا الخلق الارض و السماء
كن، فيكون !
هذا قضاء الرحمان من قبل ان يلقن ادم الاسماء..
منذ طفولتي المبكرة احسست في اعماقي دبيبا عجيبا و خفقانا لذيذا كان يسري في شراييني و سراديب قلبي عندما كان يقع بصري على الكتب.
كان من عادتي و انا ابن الثمانية اعوام ان اشتري و اقترض القصص، بل و اداوم على مطالعتها حد الادمان، و كانت الكتب في خيال الطفل اليافع الذي كنته و الذي ظل في اغوار روحه طفلا ابديا خالدا.. كانت هذه الكتب تعادل لدي احساسا واحدا وحيدا و عميقا في نفس الان : بهجة الطفولة.
و في مرات كثيرة كانت الهدية المُنتظرة ممن ورثت منه حب القراءة و الادب : حضرة المربي الاب..
كانت الكتب، و لا زالت في روح الطفل الذي لم يطحنه بؤس العالم، حمالة لدلالات لا تنتهي
. الصديق الصدوق،
. الملاذ الآمن و الحصن الحصين الصامد امام اللامعنى و العبث،
. و متعة حسية و روحانية تملا الدنيا و ما فيها
بسم ربي الذي خلق..
كنت اقرا و اقرا و اقرا في كل وقت و حين، و لا اكل و لا امل، و لكن في كل كتاب جديد اطالعه اجدني اكتشف عالماً مدهشا من الحكايات و الاسرار
كنت اعيش حيوات في حياة، كنت احيا الاكبر في الاصغر.. كنت اكتوي بنار الكلمات في نور المشكاة.. كنت اعيش دون ان ابرح مكاني و قبل ان يرتد الي طرفي الاف الرحلات و المغامراتٍ، وبين سطورها كنت انمو و اترعرع كالرضيع يشب عن الطوق مرتميا في احضان الحياة..
و مرت الاعوام و نمتْ في ذهني بذور المعرفة، وتفتّحتْ بعض أزهار الحكمة.
و لا زلت أذكرُ بوضوحٍ تلك اللحظة التي وضعتُ فيها يديّ للمرة الأولى على كتاب و انا ابن السادسة : بوبي، الكلب الصغير.. كان غلافُه مُلوّناً مبهجا للعين و القلب، و كانت زخرفته غريبة بهلوانية حد الجنون، و كانت صوره مثيرة للفضول بشكل لا يصدق. لم أكن أفهمُ كل الكلمات المكتوبة، لكنّني شعرتُ بسحرٍ غامض ينبعثُ من صفحاته كما ينبعث الجني المارد من مصباح علاء الدين.
يومذاك، في لحظة العناق الاول و الضمة السرمدية فتحتُ الكتاب برفق، و طفقت اتحسسه بيدي لامسا بأصابعي ورقه الناعم، مثلما يتلامس و يتصاهر الحبيبان في الليلة الاولى..!
و مع مرور الزمن اضحت العادة عبادة و غدوت اهتك ما غمض من الحجب و افك ما استشكل من الرموز.. و مع كل كتاب جديد اقع في هواه كنت اسافر بين الحروف و الكلمات.. و كان في كل مرة مفعول الزمن سحريا لا يقاوم؛ فها هي ذي الرموز تصير حروفا و الحروف كلمات و الكلمات حزمة من الجمل و القصص، و كانت كلّ قصة رحلةً إلى عالمٍ جديد، تُعرّفني على شخصياتٍ مُثيرة للاهتمام، وتُعلّمني دروساً قيّمة. و هكذا قرأتُ عن مغامرات الفرسان الشجعان، وحكايات السندباد، ورحلات المستكشفين الشجعان و هلم جرا…
لم تكن الكتب في عالمي الذي تخلقت فيه العديد من الطقوس الفكرية العجيبة و انبثقت من رحمه متع ذهنية و حسية جرافة، لم تكن هذي السجلات مجرد مصدرٍ للترفيه، بل شكلت أيضاً بالنسبة لي، في الوعي و اللاوعي، تربية راسخة للذوق و نافذةً على العالم و نغمة بل سمفونية لروحي العطشى للاغتراف من ينابيع المعرفة.
تعلّمتُ من الكتب دروسا عن تاريخ البشرية، وعجائب الطبيعة، وأسرار الكون، و اكتشفتُ ثقافاتٍ جديدة، وفلسفاتٍ مختلفة، ونظرياتٍ علمية مُذهلة، كما وسّعت كل قراءة جادة و عميقة آفاقي و قدراتي و غيرت نحو الافضل فهمي للعالم.
و في زمن اللاقراءة و مقاطع الفيديو التافهة على التكتوك و منصات رقمية اخرى، ما زالتْ الكتب حاضرة معي رغم طوفان السخافة و البؤس الذي يغرق العالم.. الكتب معي تُرافقني في حلي و ترحالي، فهي ليست مجرد أدواتٍ للقراءة بالنسبة لي، و لكنها اكثر من ذلك : أجزاءٌ من الوجود في العالم و سجلات للروح.
* استاذ باحث و كاتب
المعهد العالي للاعلام و الاتصال، الرباط