ورد في احدى الجرائد الالكترونية المغربية الصادرة يوم 28 ابريل 2024 ما يلي : ” أعلن الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم حاكم امارة دبي ، أنه يعطي الضوء الأخضر للبدء في تشييد مبنى المسافرين الجديد في مطار آل مكتوم الدولي بتكلفة غير مسبوقة تناهز 34.85 مليار دولار.
و تواصل الجريدة نفسها أن “مطار آل مكتوم الدولي سيكون الأكبر في العالم بطاقة استيعابية نهائية تصل إلى 260 مليون مسافر و أنه سيتجاوز بمساحته خمسة أضعاف مساحة مطار دبي الدولي الحالي كما سيتم نقل جميع عمليات مطار دبي الدولي له خلال السنوات القادمة، علاوة على أن المطار سيضم 400 بوابة للطائرات و 5 مدارج متوازية وسيستخدم تقنيات جديدة لأول مرة في قطاع الطيران”.
كثيرة هي الارقام القياسية المتنافس على تحقيقها دوليا في التجارة و الصناعة و الخدمات و الاعمال و ما الى ذلك من المجالات.. لكن، ما وراء الأرقام القياسية التي تتصارع العديد من دول العالم لبلوغها في حلبات المنافسة في خضمّ تسابق عالمي حامي الوطيس، تسعى الدول العربية جاهدةً لترسيخ مكانتها الريادية على مختلف الأصعدة، فغالباً ما نرى مظاهرَ لهذه الريادة في محاولة تحطيم الأرقام القياسية، من بناء أكبر مطار إلى طبخ أكبر كسكس أو منسف أو تحضير اكبر بسطيلة او اضخم طنجرة من الحريرة و هلم جرا !
ولكن، لنتوقف قليلا و نطرح السؤال المؤرق و الصعب : هل تُمثّل هذه الإنجازات حقاً جوهر الريادة المنشودة ؟ و هل هناك من مجالات حيوية تستحق ان تكون في حلبة المنافسة ؟
نعتقد بقلب يملؤه اليقين و الانبهار بمنجزات ثورة الديجتال المنفتحة، بادواتها الجديدة من ربوتات محادثة و ذكاء اصطناعي و بيانات عملاقة عابرة لزمكان الانسانيات الرقمية، على فجر جديد تلوح في افقه ملامح الثورة الصناعية الخامسة.. نعتقد انّ الريادة الحقيقية تتخطى حدود الأرقام القياسية، لتغوص في اعماق المعرفة والتكنولوجيا، وتستثمر في مُستقبلٍ يُبنى على الابتكار و الإبداع.
و في هذا السياق، يُمثّل الذكاء الاصطناعي بوابةً رئيسيةً نحو الثورة الصناعية الخامسة، حاملاً معه إمكاناتٍ هائلةً لتغيير مسار التنمية في مختلف القطاعات. فمن خلال الاستثمار في الذكاء الاصطناعي، تستطيع الدول العربية تعزيز قدراتها في مجالاتٍ حيويةٍ مثل :
- الخدمات الصحية عن طريق تطوير أنظمة تشخيصية ذكية تُسهم في الكشف المبكر عن الأمراض
- ابتكار روبوتات جراحية تُتيح إجراء عمليات دقيقة بأقلّ تدخلٍ بشري
- تحسين كفاءة إدارة البيانات الطبية وتوفيرها للمرضى بشكلٍ سريعٍ وآمن
- توفير أدوات تعليمية ذكية مُخصصة لكلّ طالبٍ حسب احتياجاته وقدراته و طاقته في الاستيعاب، مع الاحترام التام لمعايير التنوع و الاختلاف
- تطوير أنظمة تقييم فعّالة تُسهم في تحسين مستوى التدريس بشكلٍ عام
- أتمتة المهام اليداغوجية لتوفير الوقت للمدرسين ليركزوا على مهامهم التعليمية البحثية في المقام الاول
- تطوير الزراعة عن طريق تحسين تقنيات الريّ وتخصيصها حسب احتياجات كلّ محصول مع مراقبة صحة المحاصيل والتنبؤ بالأمراض والآفات بشكلٍ مسبق، اضافة الى تحليل البيانات الزراعية لاتخاذ قراراتٍ استراتيجية تُسهم في زيادة الإنتاجية
- ابتكار حلولٍ بديلةٍ للطاقة المتجددة تُسهم في الحدّ من الاعتماد على الوقود الأحفوري و تحسن شبكات توزيع الطاقة لضمان وصولها بشكلٍ مستقرٍ وآمن.. و ما الى ذلك من فرص استثمارية اخرى و عديدة…
إنّ الاستثمار في الذكاء الاصطناعي ليس رفاهيةً، بل ضرورة حتمية لضمان مكانةٍ عربيةٍ رياديةٍ في عالمٍ يتغير بسرعةٍ فائقة. فمن خلال تبني ثقافة الابتكار ودعم رواد الأعمال والشركات الناشئة، نستطيع تحويل هذه التكنولوجيا إلى واقعٍ ملموسٍ يُسهم في تحقيق التنمية المستدامة ويُعزّز رفاهية شعوبنا.
ختاماً، من الضروري ان نعود الى هذا الموضوع باذن الله، في فرص قادمة و بمقالات جديدة وفق زوايا معالجة مبتكرة و مختلفة في كل مرة، و خير ما نختم به كلامنا هو ما بدانا به هذا المقال، و مؤداه انّ الأرقام القياسية قد تجذب الأنظار و تخلب الالباب، لكنّ الريادة الحقيقية تُبنى على أسسٍ راسخةٍ من المعرفة والتكنولوجيا. ففي عالمٍ يُهيمن عليه الذكاء الاصطناعي، يصبح الانخراط السريع في هذا المجال بمثابة استثمار ايجابي و خلاق في مستقبلٍ مزدهر و مشرق لدولنا العربية الحبيبة من الخليج الى المحيط.
* كاتب، استاذ باحث، خبير الرقمنة و الذكاء الاصطناعي – المعهد العالي للاعلام و الاتصال، الرباط