لعلك مثلي قد تناهى الى علمك عبر منصات الاعلام انه في الشهور الاخيرة من عام 2023 قد تمكن كاتب روايات امريكي من تاليف ازيد من 90 رواية في ظرف اقل من ستة شهور و ذلك استنادا على الذكاء الاصطناعي !!

اكثر من ذلك، تمكن حضرة كاتبنا المحترم من بيع جزء كبير من رواياته التي استند في كتابتها على الذكاء الاصطناعي التوليدي Intelligence artificielle generative .. اوضح : باع نسخا كثيرة جدا من هذه الاعمال على موقع امازون محققا ارباحا خيالية..!
اي نعم.. ليس الامر خرافة او من الشطحات المعرفية التي اود ان املا بها راسك..
هذه السابقة في الكتابة الادبية السريعة قد تمت بالفعل، و يمكنك استقاء المزيد من التفاصيل حولها بنقرات سريعة و ببحث بسيط على محركات البحث !
و الان دعني اطرح عليك التساؤلات التالية :
- في خضم التطورات المتسارعة و اللامحدودة في مجال الذكاء الاصطناعي، هل يمكن ان تعوض الربوتات الاديب و تتحمل عنه مسؤولية الكتابة ؟ هذه الكتابة متعددة المخرجات و الاجناس.. يمكن ان يتعلق الامر بالشعر او الخاطرة او المقال الفلسفي او القصة، او حتى الروايات التي نتحدث عنها في هذه السطور..
- هل الذكاء الاصطناعي التوليدي المتمثل في النماذج اللغوية العملاقة (تشات جيبتي، كلود، جميني…) قادر ان يستبدل الإنسان و يعوضه في مجالات إبداعية بحتة مثل كتابة الاشعار و القصص و الروايات ؟
- اذا كان الذكاء الاصطناعي في الاعوام الاخيرة قد اثبت قدراته في مجالات عديدة أخرى، مثل كتابة الأخبار وتلخيص النصوص و تحرير مقالات الراي ناهيك عن كتابة الخواطر و التغريدات و السيناريوهات، فان الجدل – و الى حدود كتابة هذه السطور – لا يزال قائماً حول إمكانية اعتماده بشكل كلي و مطلق في كتابة الأعمال الروائية.
دعونا نشرح لماذا…
من منظور فلسفي جمالي، تُعد الرواية فناً إنسانياً عميقاً يتطلب فهمًا دقيقًا للنفس البشرية و غوصا في اسرارها و متاهاتها و تفاصيلها الغامضة الواعية و اللاواعية، علاوة على المشاعر و الدوافع و التجارب المعقدة لهذه النفس / المعجزة…
و من المؤكد انّ كتابة رواية ناجحة ليس بالامر الهين. ان الامر ليس بلعبة، و لا مجال فيه للارتجال. انه يتطلب مهارات إبداعية استثنائية، مثل القدرة على استحضار الالهام في اوقات شح الافكار، و القدرة على نسج حبكة الرواية و خلق شخصيات حية و نابضة تمشي على الورق، و اهم من هذا و ذاك القدرة على استخدام اللغة و تطويعها بشكل إبداعي متميز ، بهدف خلق تجربة حسية ذوقية غامرة للقارئ..
و في هذا السياق، يمكن ان نلاحظ ان الذكاء الاصطناعي يواجه حتما صعوبات حقيقية تمنعه من تحقيق هذه المتطلبات. فبينما قد يتمكن من تحليل كميات هائلة من البيانات اللغوية، وتعلم قواعد اللغة والنحو، يفتقر إلى القدرة على فهم المشاعر الإنسانية بعمق.
ماذا نعني بالضبط ؟
إنّ مشاعر الحب و الحزن و الخوف
و الفرح ( على سبيل المثال) هي لبّ التجربة الإنسانية، وهي ضرورية لخلق شخصيات روائية واقعية وقابلة للتواصل مع القارئ.
هل يستطيع الذكاء الاصطناعي ان يحب و يحزن و يخاف و يفرح بشكل طبيعي، تماما مثل الانسان ؟
لا يستطيع..
مستحيل !!
اسمعني جيدا : مهما علا كعبه و زادت قدراته يظل الذكاء الاصطناعي مفتقرا إلى الإبداع الحقيقي. فبينما قد يتمكن من إعادة صياغة النصوص الموجودة أو إنشاء فقرات و شذرات مشابهة لما سبق كتابته، فانه يفتقر إلى القدرة على ابتكار أفكار جديدة وحبكات أصلية لانه سجين ما برمج لاجله…
إنّ الإبداع هو الجوهر الاول و الاصلي للفن، وهو ما يميز الرواية عن مجرد سرد للأحداث. و يُضاف إلى ذلك، أنّ كتابة الرواية تمثل عملية شخصية للغاية، اذ انها تعكس عصارة تجارب الكاتب و رؤيته المتميزة و المتفردة للعالم. و اذا تمكن الذكاء الاصطناعي من كتابة نصوص موضوعية ، فانه يظل قاصرا غير قادر على نقل المشاعر والخبرات الشخصية الحقيقية و التي تُضفي على الرواية عمقها و قيمتها الفنية الجمالية.
إنّ كتابة رواية عظيمة مثلا يندرج في سياق مشروع فكري فيه الكثير من الصبر و التمهل و الشك و تدبيج الفصول و ربما المسودات الاولى للرواية و تمزيقها في لحظات الجنون و الغضب، و العودة لاحقا الى الكتابة للاحتفاظ باجود الافكار و افضلها… ان كتابة رواية حقيقية يتطلب أكثر من مجرد معرفة لغوية ومهارات تقنية. انه يستدعي روحًا إبداعية و خيالًا خصبا واسعًا، و فهمًا عميقًا لخبايا النفس البشرية. ان محمد شكري مثلا حينما كتب ” الخبز الحافي”، لم ينطلق من الفراغ او من الهلوسة الفكرية.. و لكنه وضع في هذه الرواية العالمية جزءا عظيما من الروح و المعاناة و التجربة الشخصية؛ تجربة بؤس الفرد المقذوف به في عالم لا يرحم..
يجب ان نفهم من كل ما سبق أنّ الذكاء الاصطناعي قد يُستخدم كأداة مساعدة للكاتب لتزويده بمخطط العمل و امداده بعدد كبير جدا من الافكار الابداعية ، إلا أنه لن يتمكن بتاتا من كتابة رواية عميقة حقيقية صادقة و حمالة لفرح او بؤس العالم…
و خلاصة القول انه و لحدود مطالعتك لهذه السطور من الواجب ان تتمثل في ذهنك الافكار الاساسية التالية :
- يفتقر الذكاء الاصطناعي إلى القدرة على فهم المشاعر الإنسانية بعمق، وهي ضرورية لخلق شخصيات روائية واقعية و قابلة للتواصل مع القارئ.
- الذكاء الاصطناعي غير قادر على الإبداع الحقيقي، وهو ما يميز الرواية عن باقي الاجناس، لان الرواية اكثر من مجرد سرد مسطح و روبوتي للأحداث، فهي تجربة وجود و انغماس في العالم..
- تظل كتابة الرواية عملية شخصية للغاية لانها تعكس خلاصة تجارب الكاتب و رؤيته للعالم، وهو ما لا يستطيع الذكاء الاصطناعي نقله. و بالتالي، فبينما قد يُستخدم الذكاء الاصطناعي في كتابة بعض مقاطع و اجزاء الرواية، مثل البحث عن المعلومات أو التدقيق اللغوي، إلا أنه لا يمكنه استبدال الكاتب المبدع، الذي يتمتع بفهم عميق للنفس البشرية وقدرة إبداعية استثنائية، بادوات و ربوتات الذكاء الاصطناعي.
* خبير الذكاء الاصطناعي
المعهد العالي للاعلام و الاتصال، الرباط، المغرب