” العالم يبتلع الموهوبين و يحطمهم، و لكنه يرفع الحمقى على الأكتاف.”
– تشارلز بوكوفسكي
- كيف تعمد الكثير من الدول حول العالم لإخفاء الفشل خلف الأوهام ؟
- كيف ينزلق العالم الحقيقي دائمًا نحو الجحيم، على راي شارل بودلير، بينما نضحك ونسخر من أنفسنا و نحن نعيش في حالة سقوط دائم ؟
منذ قرون طويلة كانت و لا زالت الرياضة تمثل جزءًا لا يتجزأ من الحياة الاجتماعية والثقافية في معظم المجتمعات حول العالم. فهي توفر وسيلة للترفيه والتعبير عن الهوية الوطنية وتوحيد الشعور الجماعي. ومع ذلك، عندما يتحول الاحتفاء بالإنجازات الرياضية إلى هوس مفرط لا يمكن كبح جماحه، ويتم تضخيمها لتغطي على الفشل في القطاعات الحيوية الأخرى، مثل الاقتصاد و التعليم والصحة والبنية التحتية، فإن ذلك يشير إلى مشكلة أعمق.
في هذه السطور، سأبين بالحجة الدامغة و البرهان الساطع كيف أن الدول الفاشلة غالبًا ما تبالغ في الاحتفاء بالإنجازات الرياضية، وخاصة الكروية، للتغطية على فشلها في القطاعات الحيوية التي تمس الحياة اليومية للمواطن.
- الرياضة كغطاء للفشل السياسي والاجتماعي
في الدول التي تعاني من مشكلات سياسية واقتصادية واجتماعية عميقة، غالبًا ما تلجأ الأنظمة إلى استخدام الرياضة كأداة لتشتيت انتباه الجمهور عن القضايا الحقيقية التي تواجهها البلاد. و غالبا ما يتم تضخيم الانتصارات الرياضية وتحويلها إلى مناسبات قومية يُحتفى بها بشكل جنوني، في حين يتم تجاهل الأزمات الحقيقية التي تعصف بصحة المجتمع و استقراره، مثل البطالة، وتدهور الخدمات الاجتماعية و الصحية، و تدني مستوى التعليم و تفشي التبعية و انتشار الفقر و البؤس.
عندما نسقط هذه الصورة القاتمة على الخلفية الايديولوجية لزعيم فلاسفة العبث ألبير كامو، الكاتب و المفكر الفرنسي اللامع، و الذي عُرف بكتاباته حول العبثية والتمرد، نجد حتما أن هذا النوع من الاستراتيجيات يعكس تفاهة الوضع الاجتماعي و السياسي -لا اتحفظ و اضيف : في اغلب دول العالم-.
فكما ان السياسيين بارعون في بناء قصور الوهم – حسب علاء الاسواني- ليخفوا فيها عجزهم عن حل المشاكل الحقيقية، فان الدولة التي تفشل في توفير أساسيات الحياة لمواطنيها تحاول أن تغطي على هذا الفشل بالتركيز على النجاحات الوهمية أو الثانوية : ميدالية ذهبية هنا، انتصار كروي هناك، الخ.
و لفهم هذه الظاهرة من المفيد ان نرجع الى التاريخ.
فتاريخيًا، لطالما استخدمت الأنظمة الشمولية والديكتاتوريات الرياضة كوسيلة للتلاعب بالجماهير، و هنا يحضرني مثال حي صارخ الا و هو الألعاب الأولمبية في برلين عام 1936، حيث حاول النظام النازي استخدام الرياضة لتلميع صورته وإظهار قوة الدولة الألمانية.
و على الرغم من أن الدول اليوم قد لا تلجأ إلى نفس الأساليب الفجة، إلا أن الاستخدام المفرط للرياضة كوسيلة لتوجيه الرأي العام ما زال قائمًا، خاصة في الدول التي تعاني من ضعف في البنية التحتية والخدمات الأساسية.
و من خلال الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، يتم تضخيم الانتصارات الرياضية وتحويلها إلى إنجازات قومية كبيرة. و الامثلة هنا لا حصر لها :
* يتم تصوير اللاعبين كأبطال وطنيين،
* يصبح الفوز في مباراة كرة قدم، على سبيل المثال، مصدر فخر وطني كبير،
* و في نفس الوقت، يتم تهميش الحديث عن القضايا الحيوية مثل الغلاء الفاحش، و الفقر المستشري، و الخصاص في الماء و الغذاء.
ان هذا التوجه الشمولي في الحكامة ليس وليد السنوات الاخيرة، فهو قديم جدا، و لعل خورخي لويس بورخيس، الكاتب الأرجنتيني المعروف، كان قد أشار إلى هذا الاتجاه في أحد مقالاته، حيث اعتبر أن الهوس بالإنجازات الرياضية هو أحد أساليب السيطرة على الجماهير وتحويلهم إلى “قطعان” تستهلك فقط دون أن تفكر.
لست الوحيد الذي يؤيد هذا الطرح، و لكن هذا الاخير منتشر في مجتمع المفكرين الغيورين على قضايا البنيان و الانسان اينما كان.
إن الإغراق في الحديث عن الإنجازات الرياضية يخلق شعورًا زائفًا بالنجاح والتقدم، و يجعل ،كما جاء على لسان فرانز كافكا، كل شخص يسعى إلى الهروب من الكابوس الذي لا يستطيع الاستيقاظ منه، ليقع في النهاية في فخ من الاوهام اعمق و اظلم. و بالتالي ينتفي النقاش الحقيقي حول القضايا المهمة.
و نصل الى ادنى مستويات التضليل، مما يعني حرفيا : فشل المجتمع في مواجهة تحدياته الحقيقية.
دعونا نتفق على فكرة محورية : ان الدول التي تتفاخر بإنجازاتها الرياضية بشكل مفرط غالبًا ما تكون هي نفسها الدول التي تفشل في تحسين جودة الحياة لمواطنيها.
- الإعلام كأداة للسيطرة على الوعي الجماهيري
من الثابت ان الإعلام يلعب دورًا حاسمًا في تشكيل وعي الجماهير وتوجيه اهتمامهم نحو قضايا معينة. ففي الدول الفاشلة، يتم استغلال الإعلام لتحويل الانتباه من القضايا الحقيقية إلى الانتصارات الرياضية. كما يتم تحويل المواطنين إلى جماهير تستهلك الأخبار الرياضية والبرامج الترفيهية دون أن تكون لديها فرصة للتفكير النقدي أو التحليل العميق للأحداث.
ان هذا النوع من التدجين ليس عفويا و لكنه مدروس بدقة، و هو يثير حفيظة مجتمع الكتاب و المفكرين الكبار في عالم بات يحكمه اللامعنى و العبث. و في هذا الاطار استحضر غابرييل غارسيا ماركيز، الكاتب الكولومبي الحائز على جائزة نوبل، الذي تحدث كثيرا عن تأثير الإعلام على الجماهير وكيف يمكن أن يؤدي إلى تشويه الوعي الجماهيري. ففي إحدى مقالاته، أشار ماركيز إلى أن الإعلام يمكن أن يكون أداة قوية في يد الأنظمة للتحكم في الشعوب، من خلال توجيه اهتمامهم نحو قضايا ثانوية وتحويل النقاش عن القضايا الحيوية التي تؤثر بشكل مباشر على حياتهم اليومية.
و على صعيد اخر، يمكن ان نسوق عددا من الأمثلة الواضحة و الدالة على تضخيم الإنجازات الرياضية، و من ضمنها ما يحدث خلال الألعاب الأولمبية. ففي العديد من الدول، يُنظر إلى الحصول على الميداليات الأولمبية على أنه مسألة شرف وطني، وإذا كانت الغلة قليلة، فإن ذلك يُعتبر إخفاقًا كبيرًا. ولكن في الواقع، هذا هراء و سخافة ما بعدها سخافة.
لماذا ؟
بكل بساطة لان تواضع الغلة الأولمبية لا يعني نهاية العالم، فاستخدام الرياضة كمعيار للتقدم الوطني هو اختزال ضيق للنمو الاجتماعي والاقتصادي والثقافي.
نحن نعتقد دون ادنى شك ان المقياس الاول لتقدم المجتمعات هو الاقتصاد القوي . و قبلنا بثمانية قرون اشار ابن خلدون، المؤرخ والفيلسوف العربي، إلى أهمية التركيز على تطوير المجتمع والاقتصاد والتعليم كوسيلة لتحقيق النهضة. اذ لا يمكن لأمة ما أن تحقق تقدمًا حقيقيًا بالاعتماد فقط على الإنجازات الرياضية، بل يجب أن تكون هناك استثمارات في القطاعات الحيوية التي تضمن تحسين جودة الحياة للمواطنين.
ان جميع الدول الفاشلة في العالم تهمش مواطنيها و تضع بين افواههم “قطعة من الحشيش” اسمها الولع بالرياضة.
ان التركيز على الرياضة لا يمكن أن يخفي فشل العديد من الدول حول العالم في القطاعات الحيوية مثل التعليم والصحة والبنية التحتية. و من المؤكد ان هذه القطاعات هي التي تؤثر بشكل مباشر على الحياة اليومية للمواطنين، حيث ان فشلها يؤدي إلى تدهور مستوى المعيشة وانتشار الفقر والبطالة. و ربما يكون الشعور بالسخط والمرارة الذي يظهر مرارا و تكرارا بين الجماهير (حالة الجماهير داخل ملاعب كرة القدم) ليس مرده إخفاقات رياضية بحد ذاتها، بل هو ناتج بالاساس عن الشعور بأن الدولة تركز على القضايا الثانوية وتغض الطرف عن المشاكل الحقيقية التي يتخبط فيها المجتمع.
- كيف يتم تحويل الجماهير إلى قطعان مستهلكة ؟
ان تحويل الجماهير إلى قطعان مستهلكة هو أحد الأساليب التي تستخدمها الأنظمة للسيطرة على الشعوب. و في هذا السياق يصبح الإعلام الأداة الرئيسية في تحقيق ذلك، حيث يتم تقديم الأخبار الرياضية والبرامج الترفيهية بشكل مستمر لإبقاء الجماهير مشغولة دون أن تفكر أو تنتج.
و قبل بضعة عقود من لحظة تلاوتك لهذه الكلمات اشار غابرييل غارسيا ماركيز إلى نفس النقطة، حيث رأى أن الانشغال بالغرائز والاهتمام الزائد بالرياضة والمهرجانات الفاحشة هو أحد الأسباب التي تؤدي إلى انحدار الأمم وتسريع انهيارها. فإذا كانت الأمة منشغلة بالقفز في الملاعب والرقص في الحلبات والغناء الفاحش في المهرجانات، فانذاك من سيتولى مسؤولية بناء الوطن؟
ان هذا الوضع المعيش كارثي و لا مجال للمبالغة بشانه. و في هذا السياق، يمكننا الرجوع إلى أفكار ابن خلدون الذي رأى أن الأمم تزدهر عندما تكون قادرة على التعامل مع التحديات، اما إذا كانت الأمة غير قادرة على تحقيق التقدم في المجالات الاساسية، فإنها ستواجه خطر الانهيار، حتى لو كانت تحقق انتصارات رياضية.
و ختاما، نعتقد ان الاحتفاء المبالغ فيه بالإنجازات الرياضية، خاصة في الدول التي تعاني من مشكلات سياسية واجتماعية واقتصادية، هو ظاهرة تعكس محاولة الأنظمة لتغطية فشلها في القطاعات الحيوية التي تمس الحياة اليومية للمواطنين.و من البديهي ان هذا الاحتفاء قد يتحول إلى هوس يؤدي إلى تشويه الوعي الجماهيري وتحويل المواطنين إلى جماهير تستهلك فقط دون أن تفكر في التحديات الحقيقية التي تواجهها البلاد.
و اخيرا، من المهم أن ندرك أن تواضع الإنجازات الأولمبية أو الرياضية ليس نهاية العالم، وأن التقدم الحقيقي لا يُقاس بعدد الميداليات أو البطولات، بل بقدرة الأمة على تحسين جودة حياة مواطنيها وتطوير قطاعاتها الحيوية.
و في هذا الاتجاه، يجب أن تكون هناك جهود مستمرة لتوعية الجماهير بأهمية التركيز على القضايا الحقيقية والتحديات التي تواجه المجتمع، بدلاً من الانشغال بالقضايا التافهة التي لا تسمن و لا تغني من جوع.
* كاتب، استاذ باحث، خبير الذكاء الاصطناعي و الرقمنة