لوبوكلاج. د. مهدي عامري / احسان بنسعدان ( المادة الفكرية و المعرفية / الكتابة و التوضيب)
نريد أن نتحدث عن موضوع مستجد ينبثق من قلب الثورة الرقمية العالمية التي نعيشها اليوم.
ثمة كم هائل من البيانات يغمرنا من كل جانب، و يجعل الإنسان المعاصر محاصرا من جميع الجهات بطوفان المعلومات.
إن وفرة المعلومات و سيلانها اللامنتهي ادخلنا بقوة إلى عصر تقني و رقمي سائل ضاع معه الانسان و المعنى.
ماذا نفعل بهذا الجيش العرمرم من المعلومات الغفيرة و الوفيرة التي افقدت الانسان حريته و بساطته و لوحت به في عالم من الفراغ و التمزق النفسي و التشرذم الروحي ؟
لا نحتاج البتة الى هذه الوفرة المخيفة من البيانات. انها تسلبنا فطرتنا.
الوفرة تساوي الفراغ.
ان الثورة الرقمية تطرح أسئلة فلسفية وجودية و ايثيقية على جمهور الطلاب و الباحثين و الأساتذة و المفكرين ناهيك عن المتابعين البسطاء لتحولات و تحورات الرقمنة العابرة لزمكان ما بعد الإنسان.
قبل عقود قليلة لم يكن هناك أحد يتحدث عن الذكاء الاصطناعي أو صحافة الخوارزميات أو الاعلام الرقمي. كل هذه المفاهيم / المدارس لم تكن موجودة.
إن طوفان الرقمنة غير حياتنا و فتحها على مجموعة من الامكانيات الهائلة.
دعونا نتكلم عن أسلوب جديد من الحياة أصبح فيه مستهلك المعلومة منتجا لها في الوقت نفسه.
في مجال الصحافة مثلا ظهرت مصطلحات و مفاهيم جديدة : الصحفي المواطن، اعلام اليوتيوب، صحافة السوشيال ميديا، المؤثرون الذين يملكون وسائل تقنية بسيطة جدا و لكنهم أصبحوا ينافسون الصحافي في تغطية الأحداث و التعليق عليها و تقديمها بشكل مبسط الى الجمهور.
لقد برزت في الآونة الأخيرة صيحات رقمية من نوع فريد و خاص، و هكذا اصبحنا نشاهد الملايين من المسافرين الذين يغطون الأسفار التي يقومون بها و يضعون صورها و تفاصيلها الدقيقة في فيديوهات شعبية تحظى بنسب عالية من المشاهدة في اليوتيوب، هذا بالتوازي مع الأشخاص الذين يضعون باستمرار رويتنهم اليومي و تجاربهم و قصصهم التعليمية و الترفيهية على مختلف المنصات الرقمية.
ان اعلام 2022 مختلف كثيرا عن الاعلام الذي عشناه في ثمانينات أو بداية تسعينيات القرن العشرين الماضي.
و اذا كان القرن الماضي قد شهد الموجة الأولى من الرقمنة و التي أسميها شخصيا موجة 19/90 ، و التي تزامنت مع تسويق الانترنيت منذ بداية تسعينيات القرن الماضي فاننا نعيش مع الوباء العالمي الموجة الثانية من الديجيتال، و هي بالتحديد موجة 20/20.
انها دون شك الموجة الأكثر ضراوة و الأكثر قسوة والأكثر قوة باعتبار أن شعار الجيل الخامس هو : لا شيء دون انترنيت.
و تقوم فلسفة الجيل الخامس على أن يصبح العالم كله مترابطا اكثر فاكثر بالانترنيت.
ماذا يعني ذلك ؟
لا تعليم و لا مستقبل و لا تعلم دون انترنيت.
لا شراء و لا سداد و لا تسوق دون انترنيت.
لا عمل دون انترنيت.
لا سفر و لا ترفيه دون انترنيت.
دعونا نلق نظرة خاطفة على تجربة الدول الرائدة في التكنولوجيا و من بينها الصين على سبيل المثال.
ففي عز وباء كورونا، بلغت نسبة التسوق الالكتروني في ووهان 100% و هذا ما اسال لعاب المتحكمين في الاقتصاد الصيني بل العالمي و دفعهم الى تقوية أسلوب التسوق على الأنترنيت و تعميمه في المزيد من اقطار و بقاع العالم.
و في هذا السياق ثمة طائفة من الخبراء يؤكدون أن المستقبل القريب للانسان في كل مكان هو تحديدا ما يسمى بالاقتصاد دون نقود (cashless economy).
ان فلسفة الترابط الشامل و الكامل للجيل الخامس هي نفسها التي يقوم عليها الذكاء الاصطناعي.
ان هذا الأخير لم يقترن فقط بقدرة الآلات على محاكاة أنظمة العمل البشري و تسريع الانتاج و الانجاز في جميع المجالات ( الصناعة، الفلاحة، التجارة، الاعلام، الطب، التعليم، الخدمات…) – و هذا شقه الايجابي الواعد – و لكنه كان لصيقا الى حد كبير بنظريات المؤامرة التي حامت و لا تزال تحوم حوله، الى درجة أن بعض ناشطي اليوتيوب يزعمون أن الانسان المعاصر دخل في سباق جنوني مع الآلة و أن المعارك المقبلة في تاريخ البشرية ستدور رحاها بين الانسان و الروبوتات.
ان هذا الكلام ليس ادعاء صرفا و لكنه قريب جدا الى الحقيقة.
من منا شاهد أفلام الخيال العلمي كأفلام التيرميناتور و الماتريكس التي صورت لنا في نهاية التسعينيات بعضا من هذه المشاهد ؟
أتذكر الجزء الاول من رباعية الماتريكس و أتذكر معها بطل الفيلم Neo الذي كان يفعل أشياء خارقة بهاتفه الذكي.
كان يستطيع الطيران.
كان يستطيع اختراق الجدران.
كان يستطيع السفر في الزمن.
كان يستطيع النجاة من الموت.
كان يستطيع تحقيق أشياء خارقة و مفارقة لقوانين الفيزياء.
و كل ذلك بفضل هاتفه الذكي.
و في 2022، و في ظل ازدهار الرقمنة و تطبيقات الذكاء الاصطناعي أصبحت الكثير من الخوارق أشياء ممكنة. فاذا سافرنا في الزمن و استقدمنا شخصا من القرن الرابع عشر أو الخامس عشر و شاهد بأم عينيه هذا التقدم التكنولوجي الهائل فمن المؤكد أنه سيصاب بالجنون .
ان من ثمرات الرقمنة الانفجار المعرفي الحاصل في كوكبنا الأرضي، و الكثير من الاحصاءات تؤكد بالاجماع انه في الثلاثين سنة الاخيرة انتج الانسان كمية من المعارف و البيانات تفوق بقدر هائل ما أنتجته البشرية في الثلاثة آلاف سنة الأخيرة.
و بناء على هذا فإن انفجار المعارف و المعلومات يعقد مهمة القراءة السليمة الموجهة و التنقيب عن المعلومات الصحيحة. هنا، مسؤولية المستقبل تتمثل في توخي المزيد من الحذر حتى لا يتحول الى مستهلك سلبي. كما يجب عليه أن يدرب نفسه على مهارات تلقي المعلومات و هذه المسؤولية هي العظمى في زمن أصبحت تتناسل و تتقاطر فيه الشائعات و الأخبار الزائفة من كل حدب و صوب.
نريد الآن أن نربط الانفجار المعرفي بالذكاء الاصطناعي و اضافاته النوعية لمهنة الصحافة. في هذا السياق، نشير أن الذكاء الاصطناعي يساعد على انتاج عدد كبير جدا من الروبورتاجات و من القصص المصورة بفعل السرعة الهائلة و بفعل الكم الضخم من البيانات العملاقة و التي تسمح للصحافي بكتابة عدد كبير من التقارير في زمن قياسي، مع توفير أقصى عدد ممكن من الروابط التشعبية لتجميع الأخبار ذات الصلة و المقالات ذات الصلة، و هذا انجاز اعلامي خارق لم يكن متوفرا سابقا، فالذكاء الاصطناعي يضيف على هذا الأساس الكثير من الحيوية للعمل الصحافي، و هكذا تنجز التطبيقات الذكية الكثير من الأعمال الشاقة التي كان ينجزها الصحفي سابقا، و نتيجة لذلك سوف يعمل الصحفي في ظروف مريحة و يحول لا محالة مهنة المتاعب الى مهنة الملاعب.
ان إدماج الذكاء الاصطناعي في العمل الصحفي معناه أن الدور الأساسي للاعلامي هو مراقبة عمل الآلات و تسيير التطبيقات، أي الروبوتات المنتجة للاخبار و الروبورتاجات و الاستطلاعات و ما الى ذلك.
و سواء في الاعلام أو في غيره من المجالات، فإن الذكاء الاصطناعي يسهل انجاز جميع الأعمال، لأنه يؤدي الى أتمتة المهن، فيصبح العمل اوتوماتيكيا أكثر ، و سريعا اكثر، و تفاعليا أكثر…
نعود الآن الى الصحافة…
أغمض عينيك و تخيل معي أنك على شاطئ البحر، و الساعة تشير الى الواحدة ليلا ، و أنك تقضي إجازة و تريد كصحافي أن تعد روبورتاجا قصيرا حول أعماق البحار..
أنت لا تستطيع حتما الغوص في أعماق البحر سواء في الواحدة ليلا أو في أي ساعة غيرها، لكنك إذا أرسلت آلة غواصة و برمجتها على الغوص في أعماق البحر لمئات الأمتار، فإنها ستصور الحياة الليلية في هذه الاغوار بمنتهى الدقة، ملتقطة عددا هائلا من التفاصيل، و سوف ترجع إليك الآلة الغواصة بمجموعة هائلة من البيانات و المعلومات و الأسرار و العجائب، و تضعها رهن اشارتك.
في نهاية المطاف، من السيد و المتحكم في الأمور ؟ أنت أو الغواصة ؟ أكيد ، أنت.
أنت كصحافي تسود على هذه الآلة الغواصة و على كل آلة أخرى أو تطبيق تبرمجه بالشكل الصحيح، و هنا يجب الاشارة الى أن نظرية المؤامرة التي تزعم أن الذكاء الاصطناعي سوف يدمر الانسان و يجعله يفقد كينونته و انسانيته… هذه النظرية غير صحيحة اطلاقا.
فمنذ مئات السنين استعان الانسان بالآلات في المعامل و المصانع (اختراع العجلة في الألفية الرابعة قبل الميلاد يعتبر على هذا الأساس ترجمة للذكاء الاصطناعي). و كل هذه الآلات، نضيف، اسهمت في صناعة الحضارة و تحقيق رفاهية الانسان ولعل الذكاء الاصطناعي جزء لا يتجزا من هذه الرفاهية.