“كل إنسان لديه ثلاث حيوات: الحياة العلنية، و الحياة الخاصة، و الحياة السرية” – غابرييل غارسيا ماركيز
لا تزال تلك اللحظة السرية عالقة في ذاكرتي بوضوح؛ لحظة عودتي إلى الكتابة بعد انقطاع دام أكثر من سبع سنوات.
كان ذلك في نهاية شهر أغسطس من عام 2013 ، وكنت أجلس في منزلي الريفي الهادئ في مدينة إفران، حين شعرت بأن الإلهام بدأ ينساب إليّ بشكل مفاجئ. أمسكت القلم، وشعرت وكأن طاقة خفية تحركني، و تدفعني للكتابة بلا توقف.
كان الأمر أشبه بشعور مهيب يتغلغل في كياني و يتملك جسدي وعقلي، و كأن كل تلك السنوات من الصمت كانت تجهزني لهذه اللحظة بالذات.
ولكن الغريب في الأمر هو أن تلك اللحظة لم تكن مجرد نتاج للصدفة. فقبل أيام قليلة من تلك الليلة، كنت أرى في أحلامي أنني أجلس على مكتبي وأكتب دون توقف، وأرى السجلات تتراكم أمامي كما لو أني أسابق الزمن لأكتب كل ما يختلج في داخلي. و كانت تلك الأحلام متكررة ومكثفة، إذ زارتني على الأقل ثلاث مرات / ليالي خلال أسبوع واحد.
وفي إحدى الليالي، رأيت نفسي جالسًا في مسجد فسيح، ألقي الخطب تلو الأخرى، وحشود المؤمنين ملتفة حولي تستمع بشغف لما أقول. و كان الحلم قويًا ساطعا ناصعا بشكل غريب، وكأن هناك رسالة خفية تتخلق منه في سماء الغيب.
و بعد استرجاعي لتلك الأحلام، تبين لي انها اكثر من ذلك، فهي كلمات مفعمة بالالهام و بالحياة، و تذكرت هنا عملاق الادب العربي حنا مينة حين قال: “كل كلمة لا تحمل في جوفها زفرة إنسان فهي كلمة ميتة”.
صدقت ايها الاديب الكبير و كلامك يزلزل كياني و يدعوني الى الفعل.
و كانت مقولة مينة تتردد في ذهني بلا توقف و معها كنت اشعر بحاجة ملحة للتفكير والتأمل في عميق معناها كأن دبيبًا غامضًا يسري في قلبي، فأيقنت أن هذه الأحلام تفيض بالمعنى .
و في كل مرة كنت أستيقظ من نومي، أجدني أتمتم لنفسي: “هذه أكثر من مجرد أحلام، هناك شيء عظيم يتشكل في أفق القدر”.
و كان هذا الإحساس الغريب العجيب يدفعني للتواصل مع والدتي، حيث حكيت لها بالتفصيل عن تلك الأحلام التي كانت تستبد بي.
و كانت والدتي، كعادتها، تمتلك تلك القدرة الفريدة على فهم الأمور بمنظور حكيم و بقدر عظيم من الفراسة و التبصر.
و استمعت لي باهتمام، ثم قالت لي بنبرة تشجيع: “ما يحدث لك ليس فيه مثقال ذرة من العبث، سيكون لك شأن عظيم بإذن الله ورحمته. آمِن بقوة أحلامك، ولا تتوقف عن الكتابة”.
و لكم ان تتخيلوا قوة كلماتها التي كانت بمثابة الزاد الذي غذى طموحي وأحلامي، وأعطاني القوة التي احتاجها للمضي قدمًا دون تردد.
و بعد حديثي مع والدتي، عكفت على الكتابة ليلًا ونهارًا مستحضرا روح و طقوس استاذي الاول في الكتابة :
“نحن نكتب لأننا نحب الحياة، ونريد أن نحافظ عليها، ونريد أن نعيش أكثر من حياة”. – نجيب محفوظ
و كان القلم بين يدي مدرارا مطواعا سيالا، ينساب بسهولة وسلاسة بفضل و توفيق من الله. و شعرت وكأني قد عدت إلى ذاتي، إلى مكاني الطبيعي. و لم يكن الأمر مجرد نشاط أو هواية، بل كان تعبيرًا عميقًا عن نفسي، وعن كل ما كان يعتمل في داخلي طوال تلك السنوات من الصمت.
و مرَّت الأعوام، ووجدت نفسي قد أصدرت نصف دزينة من الكتب باللغة العربية في أقل من خمس سنوات.و كانت تلك الفترة مليئة بالتحديات والإبداع، ولكن بفضل الالتزام والاصرار، تمكنت من تحقيق ما كنت أطمح إليه.
ومع الوقت، بدأت كتبي تلقى قبولًا حسنًا في العالم العربي، حيث تفاعل معها القراء بشغف واهتمام. و اكتشفت في ذلك الوقت بالتحديد أن الكتابة ليست مجرد موهبة أو مهارة، بل هي نعمة إلهية خالصة.
لقد أدركت من خلال هذه الرحلة أن الكتابة ليست مجرد أداة للتعبير، بل هي “طريقة متميزة لحلول الروح في العالم” كما يقول اميل زولا. و تبين لي انها ايضا وسيلة لملء الفراغ الداخلي، وإحياء القلب والروح.
و كانت الكتابة بالنسبة لي أشبه بعلاج نفسي، اذ تقي من الكآبة وتبعث على الراحة والسكينة. و في كل مرة كنت أجلس فيها لأكتب، كنت أشعر بأنني أحرر نفسي من قيود الحياة اليومية، وأفتح أبوابًا جديدة من التأمل والخيال.
وفي الوقت نفسه، كنت أرى في محيطي الكثير من الناس الذين يعيشون حياة رتيبة، لا يفعلون شيئًا سوى العمل و الأكل والنوم ومشاهدة مباريات كرة القدم في المقاهي. و كنت أتساءل في كل مرة: هل هذه هي الحياة التي يجب أن نعيشها؟ هل هذه هي الغاية من وجودنا؟ وفي خضم تلك الأسئلة، كنت أعود إلى الكتابة، وكأنها كانت الوسيلة التي أجد من خلالها إجابات على تلك التساؤلات الوجودية.
و كانت الكتابة بالنسبة لي وسيلة للتواصل مع العالم، و اكتشفت في لحظة من الاشراق انها مثلما يؤكد ارنست همنغواي ” ليست سوى القتال المستمر مع الذات، و الذي لا ينتهي إلا بالموت”.
و كنت اؤمن و لا ازال ان الكتابة افضل وسيلة لمشاركة الأفكار والمشاعر والتأملات مع الآخرين. فما قيمة الحياة إذا لم تكن ضاجة بالتفكير والتأمل ومشاركة العواطف مع الآخرين؟
و تذكرت في تلك اللحظات بعض الكتاب العظماء الذين ألهموني، مثل نجيب محفوظ وباولو كويلو، وكيف كانوا ملتزمين بشغفهم في الكتابة.
فبالنسبة لكويلو، كان الالتزام بالكتابة جزءًا لا يتجزأ من حياته. و كان يعتبر الكتابة وسيلة للتواصل مع الروح والعالم الخارجي، وسعى دائمًا لنقل رؤيته وفلسفته عبر كلماته. أما نجيب محفوظ، فكان يعتبر الكتابة وسيلة لتصوير الواقع والتعبير عن هموم المجتمع.و كانت كتاباته تعكس تجارب الناس اليومية، وتفتح أبوابًا للتفكير والتأمل في واقع الحياة
و في ضوء تجربتي مع الكتابة، أدركت أنها ليست مجرد نشاط إبداعي، بل هي وسيلة للتحول الشخصي. لان الكتابة تحمل في طياتها قوة تحويلية هائلة قادرة على تغيير الإنسان من الداخل، و مساعدته على فهم نفسه بشكل أعمق، و جعلع يتجاوز التحديات النفسية والروحية.
ومع مرور الوقت، أصبحت الكتابة لي ملاذًا أعود إليه كلما شعرت بالضياع أو الانفصال عن العالم.
و بالنسبة لي، لا تقتصر الكتابة على كونها وسيلة للتحول الشخصي أو تنفيسًا عن الروح، بل تتجاوز ذلك لتصبح قوة مؤثرة في المجتمع مصداقا لقول فيودور دوستويفسكي :
“إن المرء إذا خسر قلبه لا يمكنه أن يبدع، فالكتابة الحقيقية تأتي من القلب”.
اي نعم.. صدقت يا فيودور : الكتابة الحقة تنبع من اعماق القلب فهي ترجمان العواطف و صوت الفؤاد.. فمن خلال الكلمات المكتوبة، يمكن للكاتب أن يُحدث تحولًا في حياة القراء، و يفتح أمامهم آفاقًا جديدة من الفهم والتأمل، ويمنحهم فرصة لرؤية العالم من زوايا جديدة لم يكونوا ليفكروا بها من قبل. فكلمات الكاتب ليست مجرد حروف تُسطر على الورق، بل هي تجارب حياة، وهي وسيلة لتوجيه الأفكار والتأثير في الآخرين.
و ختاما، ما زلت حتى اليوم أمسك بالقلم وأكتب، بتوفيق و مدد من ربنا و مولانا الكريم، مستحضرا هذه الكلمات الرنانة لرولان بارت : ” الكتابة عبارة عن رحلة، وكل صفحة هي خطوة جديدة نحو اكتشاف المجهول”.
و كل يوم أكتشف شيئًا جديدًا عن نفسي وعن العالم من حولي. فالكتابة هي الرحلة التي لا تنتهي، و هي سفر مليئ بالاكتشافات والتأملات، وهي السبيل الذي يقودني إلى أماكن لم أكن لأصل إليها لولا قوة الكلمات و عبق الإلهام.
و في نهاية المطاف، تتجلى أهمية الكتابة ليس فقط في كونها وسيلة للتعبير، بل أيضًا في كونها أداة للتغيير، والفهم، والإبداع. فالكتابة تمنحني الفرصة لتوسيع مداركي، و لفهم نفسي والآخرين، ولتقديم رؤيتي الخاصة للعالم. و هي بلا شك ملاذي الذي أعود إليه في كل لحظة من لحظات الشك والتساؤل، وهي السبيل الذي يمكنني من خلاله أن أترك أثري الخاص في هذا العالم.
فعندما أكتب، أكون قادرًا على خلق عوالم جديدة، وفهم واقع الحياة بشكل أعمق. فالكتابة تمنحني القوة لتحدي الزمان والمكان، ولإبقاء أفكاري وتجربتي حيّة في ذاكرة الآخرين، وهي وسيلتي لمقاومة النسيان.
ان هذه الرحلة المستمرة هي التي تجعل من الكتابة أكثر من مجرد نشاط إبداعي، بل هي حياة بحد ذاتها، حياة مليئة بالمعاني والدلالات التي لا تنتهي.