د. مهدي عامري (المادة الفكرية والمعرفية)
ضحى أمقران وشيماء مختوم (الكتابة والتوضيب)
ما زلنا نخرج من وباء كورونا بعدد هائل من الدروس. ما زال الفيروس موجوداً في الطبيعة، و ما زالت الأزمة مستمرة، و ما زلنا نشاهد في وسائل الإعلام، سواء في المغرب أو خارج المغرب، بل في العالم أجمع، العدد المتزايد من الوفيات، و من الإصابات، و العدد الكبير من الناس الذين يصابون بهذا الوباء.
أنا لا أريد أن أسميه شخصياً الوباء المستجد لأنه منذ شهور طويلة وهذا الوباء يفتك بأرواح الملايين من البشر ويسبب خسائر وانتكاسات على عدة مستويات؛ على مستوى الاقتصاد، على مستوى التنمية، على مستوى التعليم و التعلم، و هناك عدة نتائج سلبية لهذا الوباء.
كيف يمكن اذا أن ندير مواردنا بشكل أفضل في زمن كورونا ؟
للإجابة عن هذا السؤال، يجب أن نرجع إلى خصوصيات الجائحة العالمية.
أحدثت هذه الجائحة التي ضربت العالم منذ نهاية 2020 زلزالاً بالمعنى الحقيقي للكلمة على المستوى الاجتماعي، على المستوى السياسي، على المستوى الاقتصادي أيضاً، لأن هناك مجموعة من الاقتصادات العظمى التي شارفت على الانهيار والتي عرفت ركوداً كبيراً في الشهور الأولى لتفشي الوباء، ابتداءً بالولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي و الدول التي ننتمي إليها في شمال إفريقيا و الشرق الأوسط.
و ما نعيشه الآن في الفترة الراهنة هو امتداد لهذه الأزمة؛ وإذا رجعنا إلى تعريف الأزمة، فإن أي أزمة من الأزمات سواء كانت هذه الأزمة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، تحمل في طياتها فرصة أو مجموعة من الفرص.
هذه هي النقطة الأولى التي أريد أن أركز عليها و هي كون الأزمة تحمل فرصاً، تحمل تحديات، تحمل رهانات، تخاطبنا جميعاً، دون استثناء في جميع دول العالم، وتبعث لنا رسائل قوية مؤداها أن هذه الأزمة هي فرصة ذهبية، فرصة ذهبية للعودة إلى الذات، لإعادة التفكير في نمط وأسلوب حياة هذا الإنسان المعاصر الذي لوث الطبيعة، الذي دمر الطبيعة، الذي أنفق ومازال ينفق المليارات من الدولارات في التسلح وفي المشاريع المتعلقة بالفضاء و ما إلى ذلك.
هناك اقتصادات عظمى ودول عظمى كنا نحسبها إلى حد قريب استثمرت بما فيه الكفاية في ميادين نعتقد أنها حيوية وأكثر من حيوية وهي الصحة والتعليم؛ وتفاجأنا، مثلاً، أنه في الولايات المتحدة الأميركية و في فرنسا و بريطانيا و الهند و البرازيل و في دول عظمى أخرى كان عدد الإصابات هائلاً وعدد الوفيات أيضاً، و تثبت آخر الدراسات العلمية المستجدة أن نسبة التعافي من هذا الوباء، ولله الحمد، مرتفعة؛ ولكن في دول عظمى مثل الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وبريطانيا على سبيل المثال، كانت حصة الوفيات ثقيلة جدا.
هذه إشارة إلى أن هذه أزمة بالمعنى الحقيقي للكلمة، وهذا يطرح سؤالاً على مستوى إدارة الموارد.
كيف يمكن أن ندير مواردنا في عز هذه الأزمة ؟
عندما نتحدث عن الموارد فإننا نتحدث عن البدن، نتحدث عن النفس، نتحدث عن الروح، نتحدث أيضاً عن الفكر، نتحدث عن كل هذه الموارد مجتمعة. و إذا رجعنا إلى التركيبة الفريدة للكائن البشري يمكن أن نجد أن أي إنسان مركب من النفس و البدن و العاطفة و الروح. يجب أن نستفيد من هذه الأزمة، فالكثير من الناس الذين قابلتهم والتقيت بهم في الأيام و الأسابيع الأخيرة التي تلت فترة ما بعد الحجر، قالوا لي حرفياً (لقد تعلمنا الكثير، ولقد خرجنا بدروس كثيرة و عظيمة من أزمة كورونا).
ولحسن حظي و لسعادتي البالغة أني أنا بدوري أتفق تماما مع هذا الكلام.
سوف أبدأ بدروس الوباء المتعلقة بالجانب البدني، وأهم هذه الدروس إقبال العديد من الشباب في محيطنا الاجتماعي على الرياضة.
أتذكر أنه في فترة الحجر كان الكثير من الناس، بمختلف أعمارهم ومستوياتهم الاجتماعية، عندما يضيقون من الجلوس لساعات طويلة في البيت، بحكم احترامهم للحجر، فإنهم يصعدون إلى سطوح المنازل ويبدؤون في المشي وفي ممارسة الرياضة في أوقات مختلفة؛ وعندما خرجنا من فترة الحجر التي استمرت مدة طويلة، مائة يوم من الحجر، مائة يوم من العزلة، لاحظت نفس السلوك الجيد الذي بدأ يكتسبه ويمارسه ويفعله الكثير من الناس في الحياة اليومية. فالرياضة عنصر أساسي لصحة البدن و النفس. الرياضة أساسية و لا تقبل التأجيل أو الإلغاء.
أعتقد أن الدرس الأول الذي يمكن أن نستفيده من أزمة كورونا هو الاهتمام بالبدن، الاهتمام باللياقة البدنية، الاهتمام بتغذية هذا البدن بالرياضة، لأنه كما تغذيه بالأطعمة والأغذية، وكما تغذي الفكر والروح بالثقافة والفنون و جميع الأنشطة المتعلقة بالإشعاع الروحي وما إلى ذلك، فيجب أن يتمّ تغذية هذا البدن بالرياضة و هي مصدر أساسي يمدّه بالطاقة وبالرغبة و التمسك بالحياة.
هناك دروس أخرى مستفادة من أزمة كورونا على مستوى إدارة الوقت، هذا العنصر المهم في حياة الإنسان.
و في هذا السياق يقول أنتوني روبنز أحد كبار مدربي التنمية الذاتية في العالم : (إذا لم تملك كل يوم 5 دقائق لنفسك فإنك لا تملك الحياة).
هذه المقولة تحيلنا بشكل مباشر إلى تمرين التأمّل؛ و تمرين التأمل في منتهى الأهمية سواء في زمن كورونا أو غيره.
الملاحظ أن هذا الفيروس سوف يستمر طويلاً. و تشير الكثير من الدراسات والأبحاث العلمية المستجدة أن وباء كورونا قد يمتد في عالمنا لسنوات طويلة. هذه المسألة واردة جدّاً، و رغم سباق العديد من الشركات في العالم أجمع (هناك أكثر من 168 شركة عالمية كانت تتسابق وتخوض معركة حرب اللقاحات في الشهور الأولى لانتشار الوباء)… رغم هذه السباقات وهذه التحديات، فقد يدوم الفيروس في الطبيعة لمدة طويلة ولزمن طويل. فالمطلوب الرجوع إلى ذواتنا و إلى فطرتنا أيضاً وممارسة التأمل للتغلب على مشاعر الكآبة و الخوف الوجودي جراء استدامة الوباء.
أتذكر أنه في الأسابيع و الأشهر الأخيرة التي سبقت وقوع هذه الجائحة، كنت أمارس تمرين التأمل مع مجموعة من المتدربين الذين أشرف عليهم في هذا المجال. و هذا التمرين بسيط جدّاً.
ان تمرين التأمل يقتضي، كل صباح، عندما تستيقظ من النوم، أن تغمض عينيك وتتنفس بعمق وتستحضر جميع النعم، جميع العطايا، جميع المزايا، جميع النعم والهدايا التي جاد بها الخالق عليك.
عندما تتأمل و لو لمدة دقيقة أو دقيقتين أو ثلاث دقائق هذه النعم وهذه المزايا؛ فإنك سوف تصل إلى حالة من الإشباع الروحي، وحالة من الإشباع العاطفي، وسوف تصل أيضاً إلى مقام من المقامات النفسية والروحية ذات الأهمية القصوى وهي التقبل. التأمل دائما يرافقه التقبل. تقبل ماذا ؟ تقبل ما هو موجود ومحبة ما هو كائن، فهذا الفيروس انتشر في الطبيعة، و سقط معه المئات و الآلاف بل الملايين من الناس كالذباب، و مات منهم الكثير في عز الفتوة و الشباب… ومن هنا نترحم على جميع ضحايا هذا الوباء، ونترحم أيضاً على جميع الأحياء و الأموات…
عندما نتأمل هذه المسألة، فإن احدى الاستراتيجيات الذهنية المهمة للتعايش مع ما هو موجود، للتعايش مع هذا الوباء هي التقبل. التقبل هو أن نقبل هذا الوباء كما هو، أن نتعايش معه؛ هنا أتذكر أنه في بداية الجائحة، تقريباً في الأسبوع الأول أو الثاني من مارس 2020 كانت هناك العديد من الأصوات تتعالى في العالم العربي بنظريات المؤامرة (هذا الفيروس غير موجود، هذا الفيروس فعل فاعل، هذا الفيروس لا نراه بالعين المجردة، هذه مؤامرة.. هذا مخطط الحكومة العالمية الخفية للتحكم في البشر و هلم جرّاً…).
هذا الكلام بالنسبة لي ليس مهما و ليس ذا مصداقية علمية؛ المهم هو الخروج بدروس من هذه الجائحة وتفعيلها في الحياة اليومية.
و هنا نطرح السؤال. هل استفاد المواطن سواء داخل المغرب أو خارجه من هذه الدروس و هل حاول أن يدير بفاعلية موارده بالشكل الذي يجعله يثمن هذه الجائحة ؟
أعتقد أنه لا يهمنا، بطريقة استعجالية، تقديم عناصر الإجابة عن هذا السؤال، ولكن إثارة النقاش حوله وتقديم بعض الاستراتيجيات وبعض الحلول مع رصد و ملاحظة ما هو موجود هو الأكثر أهمية.
هل استفدنا من الجائحة ؟
نعم، استفدنا. أقولها بكل تفاؤل و أضمّ صوتي إلى أصوات جميع المتفائلين وجميع صناع الأمل في غمرة جائحة كورونا.
الاستفادة موجودة و حاصلة. سأعطي مثالاً بسيطاً، ففي الشهور الأخيرة، عندما كنت أخرج إلى الفضاء المفتوح و أمارس الرياضة، كل صباح في وقت مبكر، سواء المشي أو رياضة أخرى.. كنت ألاحظ، في الفضاء المفتوح تدفق المزيد من الأسر التي تخرج للمشي و لممارسة الرياضة أكثر من جميع السنوات الماضية. و هذه في حد ذاتها استفادة عظمى.
ثمة دروس أخرى يمكن أن نخرج بها من هذه الجائحة على مستوى التضامن والترابط والتآزر والتراحم. ليس في كلامي أي شكل من أشكال الدعاية، لكن.. انظر إلى الكم الكبير من الأموال التي تم جمعها وضخها خلال الشهور الأخيرة بالمغرب في صندوق كورونا ؛ ان هذا الفعل إن أعرب عن شيء فإنه يعرب عن كرم هذا الشعب، هذا الشعب ما زال يتسم بحب الخير، ما زالت فيه بصمة البركة، ما زالت هناك قيم التضامن والتآزر والتراحم و التغافر حاضرة و بقوة في هذا الوطن و هي جزء أساسي من المعدن الأصيل لشعبنا المغربي العظيم.
ان صناعة الأمل و تفعيله هو دورنا جميعا للخروج من عنق زجاجة الأزمة.
و الأمل لا يولد فقط من رحم الأزمات، و لكن أيضا من عقول الأمم المتمسكة، رغم كل الصعاب بالمعرفة و التعليم و التعلم.
و عندما نتكلم عن التعليم و التعلُّم عن بعد الذي كان و لا زال في عدد من الدول السمة المميزة لعالم كورونا، فإننا نتكلم عن ثورة حقيقية نحن نعيش في ظلها. هذه الثورة أحدثها هذا الوباء، و هي من مُفرزات ومن نتائج هذه الجائحة العالمية.
هنا أود الإشارة إلى الفرق بين مصطلحين اثنيْن يعتقد البعض أنهما يؤديان المعنى نفسه، ولكنهما يختلفان : التعليم والتعلم.
التعليم يساوي الحضور الكلاسيكي للطلبة أو التلاميذ مهما كانت مستوياتهم في الأقسام والفصول الدراسية وانكبابهم على التحصيل العلمي بهدف الانتقال من مستوى إلى مستوى؛ هذا هو التعليم.
بينما التعلُّم هو كل ما يتعلق بمهارات الحياة، فلذلك نحن نقول في كلامنا اليومي (مدرسة الحياة.. تعلّمت الكثير من مدرسة الحياة)…
هذه هي الإشارة الدقيقة التي أود أن أفتتح بها هذا الجانب المتعلق بالوباء و التعليم عن بعد.
وأود أن أشير إلى أن هناك دعوة عالمية إلى رقمنة المضامين والبيداغوجيا وطرق التعليم أي الرقمنة الشاملة. و هذه الدعوة العالمية، لا يمكننا أن نصم آذاننا إزاءها، فيجب أن ننخرط في هذا التيار العالمي للرقمنة. و لكن مع ذلك، أود أن أشير إلى أن التكنولوجيا الرقمية لها دور تكميلي للأستاذ. فهناك من يتوهم أن من يمتلك أدوات وتقنيات ومهارات لصناعة الدروس و المحتويات الرّقمية ووضعها على الشبكة أو السوشيال ميديا… هناك من يعتقد أن من يمتلك هذه الترسانة من الأدوات و المواد الرقمية فهو قد امتلك كل شيء. و الحال أن هذه الفكرة نسبية جداً جداً.
لماذا ؟
لمجموعة من الاعتبارات؛ أولها أن الأستاذ هو الأساس ولا يمكن بتاتاً أن تعوض التكنولوجيا الأستاذ. فالحضور الفيزيولوجي للأستاذ الذي يشجع طلبته و يبث الحماس داخل قاعة الدرس – لا أقول أن الأستاذ يجب أن يعطي المعرفة لأنه ولى ذلك الزمن و لكن الآن الأستاذ يساعد على اكتساب المعرفة ويرشد الطلبة إلى الطريق و يضع المتعلم على السكة الصحيحة – هذا الحضور أساسي و غير قابل للتعويض. و لكن رغم كل شيء فالتكنولوجيا لها دور تكميلي فقط؛ ولكن إزاء هذا الوضع، أي إزاء هذه الجائحة العالمية التي تزجُّنا زجّاً في طريق الرقمنة الشاملة يبقى التحدي كبيراً بالنسبة للمنظومة التعليمية ككل.
ما هو هذا التحدي ؟
تجويد المضامين… فيجب أن تكون المضامين والمحتويات سواء تعلق الأمر بكبسولات أو محاضرات أو دروس تطبيقية على الانترنيت أو فيديوهات تعليمية وما إلى ذلك.. يجب أن تكون ذات جودة عالية جدا.
ان تحدي التعليم عن بعد كبير جدا و يقع على عاتق الأستاذ أن يشتغل أكثر فأكثر على التفاعلية و على انتاج المواد القصيرة. لا يمكن أن نقبل بتاتاً محاضرة مدتها ساعتان والأستاذ يتكلم على منصة من المنصات والطلبة يتابعونه بالكاميرا و يدونون منه رؤوس الأقلام.
هذه المسألة متجاوزة….
هناك من يعتقد أن الرقمنة هي تحويل ما هو غير رقمي إلى المنصات الرقمية. و الحال أن الأمر ليس كذلك.
الرقمنة مجموعة تحديات : تجويد المضامين، الاشتغال أكثر على التفاعلية، الاشتغال على الكبسولات التعليمية القصيرة.. يعني يمكن أن تكون هناك محاضرات من 10 إلى 15 دقيقة و هذه مدة كافية جداً..
ان الرقمنة مهمة لكنها لا يمكن أن تحل محل الأستاذ كيفما كانت، و يجب أن يكون هناك مزج ذكي و مزاوجة سلسة بين مادية الأستاذ و لامادية التوجهات و التقنيات المعاصرة للديجتال.
الأستاذ يجب أن يرقمن نفسه، كل أستاذ… في الإعدادي أو الثانوي، أو التعليم الجامعي. الأستاذ يجب أن يرقمن نفسه، وأن ينخرط في هذه المنظومة لأنها تفرض نفسها، لأن هناك تحديات، لأنه في الآونة الأخيرة بدأنا نتحدث كثيرا في الإعلام عن الذكاء الاصطناعيِ و البيانات الضخمة و هناك تجارب رائدة في دول اسكندنافية، مثل فنلندا وبعض دول أوروبا الشمالية… تجارب تقوم على وضع الإنسان الآلي، أي وضع روبوتات في أقسام وهذه الربوتات تلعب دور الأستاذ في القاء المحاضرات و توزيع التمارين و مراقبة و تصحيح الامتحانات.
هذه تجارب رائدة في التعليم الآلي في أزمنة الوباء لكن هناك بعض الأصوات المتشائمة التي تقول أن هذا ينذر بموت الأستاذ، وأنا أقول (لا. هذا غير صحيح)، لأن التكنولوجيا تقدم إضافة نوعية و تفتح آفاقا شاسعة في مهنة التدريس دون أن تلغي الحضور الجسدي للأستاذ داخل الفصل الدراسي.
فإذا كان الأنترنيت مثلا قد تم تسويقه في بداية تسعينات القرن 20 و أحدث ثورة معرفية منذ التسعينات إلى اليوم، فإننا نعيش الآن في عصر الذكاء الاصطناعي ، هذا العصر الذي نعيشه نجده حاضرا في جميع الميادين. في الآونة الأخيرة هناك شركة من كبريات شركات الإعلام في العالم قامت بتسريح جزء من العمالة وعوضتهم بروبوتات قادرة على كتابة ليس فقط برقيات وكالات الأنباء، لكن أيضا المقالات و المضامين التحليلية، فالعالم الذي نعيش فيه الآن، عالم 2021 هو عالم تخترقه التكنولوجيا ، هو عالم الإنسان النصف آلي و النصف بشري ، انه عالم السايبورغ و الواقع المعزز.
عالمنا تخترقه التكنولوجيا في كل شبر من أجزائه و المطلوب منا أن نتعايش و نتكيف معه. لا مجال لمقاطعة تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي ،أعتقد أن التحدي الأكبر هو التعايش مع هذه التكنولوجيات وهذه التطورات.
و بالرجوع الى تجربة التعليم عن بعد نستطيع أن نقول أن التعليم عن بعد يقدم مجموعة من الحلول البديلة و مجموعة من الخيارات التي لا تكون دائما متاحة في العلاقات التواصلية الوجاهية ، فتجربة التعليم عن بعد هي تجربة أكثر من رائعة.
لماذا؟
لمجموعة من الاعتبارات لأنها تسمح أيضا للأستاذ بأن يخاطب ويتواصل مع الطلبة تقريبا في أي وقت أو في الوقت الذي يتفقون عليه فمن الممكن أن يكون هذا التواصل في الليل المتأخر، أو الصباح الباكر جدا، فالتعليم عن بعد يكسر هذه الرتابة، وهذه القيود الموجودة في التعليم الحضوري، و هذه ميزة أساسية من ميزات التعليم عن بعد.
التعليم عن بعد له ميزات و إيجابيات كثيرة من ضمنها التفاعلية و السرعة في الأداء ، و هناك أيضا جانب آخر مهم و هو أنك تكلم الطلاب والمتعلمين بلغتهم، انك تخاطبهم بلغة التكنولوجيا، فهؤلاء الشباب الذين ندرسهم متمرسون مع التكنولوجيا أكثر منا، و هم ولدوا مع التكنولوجيا. ان جميع هذه الأجيال التي ولدت في الثلاثين سنة الأخيرة، لديهم نوع من الريادة و القيادة التكنولوجية، ونحن كأساتذة مخضرمين نتعلم منهم… صحيح أننا جيل مخضرم عاش جزءا من حياته في فترة ما قبل الأنترنيت والجزء الآخر في فترة ما بعد الأنترنيت. و بالنسبة لنا التعليم عن بعد يفتح عدة إمكانيات لا يوفرها التعليم الحضوري.
و في هذا السياق نتساءل. ما هو الإنسان الذي نحتاجه في 2021 و في أفق السنوات القادمة ؟ هل نحتاج إلى نفس النوعية من المواطنين و بنفس العقلية ، بنفس السلوكيات ، بنفس التصرفات، بنفس العادات، و بنفس طرق التفكير؟
لا أعتقد…
من الواجب أن تكون الأزمة الوبائية فرصة فريدة للنهوض أي فرصة للإقلاع السريع و الحقيقي.
هنا أضرب مثالا مستنبطا من التاريخ المعاصر ، و يتعلق الأمر بتجربة ألمانيا واليابان، بعد الحرب العالمية الثانية..
أشرنا في بداية درسنا إلى مفهوم الأزمة و قلنا أن الأزمات فرصة للإقلاع الحقيقي، و هنا أستذكر تجربة اليابان و تجربة ألمانيا هاتين الدولتين اللتين وصلتا الى درجة كبيرة من التقدم و الرقي و الازدهار، فهمتا كيفية بناء الوطن المنهار بعد الحرب العالمية الثانية. فعندما ألقيت القنبلة على اليابان في ناكازاكي و هيروشيما، كان الملايين من الناس في العالم أجمع يعتقدون أن هذه هي نهاية اليابان والحال أنها لم تكن النهاية، بل كانت البداية ، كانت بداية التقدم و بداية الإقلاع الاقتصادي ، فالإنسان الذي نحتاجه في 2021 و في أفق السنوات القادمة هو إنسان يعتمد على نفسه.
المغربي الذي نحتاجه في 2021 و في أفق السنوات القادمة هو مغربي يعتمد على نفسه، هو مغربي يأكل من عمل يده ، هو مغربي على درجة عالية من المسؤولية و الوعي، و إذا لم نخرج من هذه الأزمة – من جائحة كورونا – بدروس حقيقية حول تحمل المسؤولية الكاملة دون إلقاء اللوم على الآخرين ، فان كل ما عانيناه و نعانيه في أزمنة الوباء لا قيمة له.
و في نهاية هذا الدرس يبقى تواصلي معكم مستمرا لكني أختم بملاحظة أخيرة..
هناك الكثير من المواطنين من إخواننا في المغرب دائما ما يلقون اللوم على السلطات ، و على الحكومة و لا يقفون أمام المرآة لمشاهدة أفعالهم و مراقبة ضمائرهم و سلوكياتهم ، و أنا أعتقد أن كل شخص في هذا الوطن العزيز ينبغي أن تكون له هذه القدرة على فحص الذات وعلى نقدها الشجاع. و ان طال الزمن أو قصر فان الوباء عرضي و زائل إن شاء الله.
ان هذا الوباء – الذي دوخنا جميعا – لا قيمة له دون مشروع بناء إنسان ما بعد الوباء.
ان الإنسان الذي نحتاجه الآن و غدا ليس إنسانا اتكاليا و خاملا ، ضعيفا أو جاهلا. نحتاج انسانا مسؤولا. نحتاج انسانا لديه القدرة على التعلم من الأزمات و لديه القدرة على التعلم من الخوف… و لعل الخوف الذي يصاحب هذه الأزمة ينبغي أن يرافقه الوعي بأهمية الاحتراز من الوباء مع تدريب النفس على تقبل محدودية و هشاشة الحياة.