دخلت الأحزاب المغربية، خاصة تلك التي لها امتدادات وتنظيمات عبر الخريطة الوطنية، من خلال مكاتب وفروع محلية وإقليمية، وأذرع نقابية وإعلامية و شبابية و مهنية.. تابعة لها..سباق التنافس سواء من أجل إحياء أو استرداد مواقع قديمة لها أو البحث عن أخرى جديدة لتعزيز وجودها..
بالنسبة للأحزاب الكبرى ـ الكبرى بحُكم الأقدمية وليس بأيّ شيء آخر ـ فإنها تعيد طلاء خطابها ووجْهها بدُهُون جديدة من شأنها إعطاء نضارة مفقودة أو في طريق فقدانها ،علْماً أن هذه الأحزاب الكبرى فقدت ،فعلا، الكثير من نضارتها ومن حيويتها وجاذبيتها وحتى مصداقيتها.
إن حزب استقلال علال الفاسي أو امحمد بوستة ، ليس هو نفس الحزب في عهد عباس الفاسي وحميد شباط ونزار بركة . ليس هناك أي وجه شبَه أو مقارنة. في عهد علال الفاسي ،كان للحزب قوة ومنَعَة ظلت مستمرة إلى غاية ولاية بوستة..حزبٌ كان له حضور بمعنى الكلمة ؛ كان “يخلع” مَن في كرشه عجين؛ كانت قواعده وتنظيماته الشبابية والنسوية والنقابية..قائمة على أُسُس تُضفي عليها “التعادلية” حصانة فكرية، إنْ لم نقل إيديولوجية، تقيها من شرِّ ما حسد.. بدليل أن هناك عددا غير قليل من الاستقلاليين لا يعرفون “التعادلية” ؛ وهناك أعضاء في المجلس الوطني للحزب ،وفي اللجنة التنفيذية، وبرلمانيين استقلاليين لم يقرأوا كتابا اسمه “النقد الذاتي”…
كل هذه القوة والمنَعَة ،التي كانت تقف بالمرصاد لتيار ودُعاة الانتهازية والوصولية والنفاق، ستبدأ بالتفكُّكِ ،إن لم نقل الانهيار، بالتدريج ،ابتداء من ولاية عباس الفاسي ؛ لكن هذا التفكُّك سيختفي ، مؤقّتاً، مع غوغائية وشعبوية شباط التي ،لسوء حظه، ستتزامن مع غوغائية وشعبوية أكبر للإسلامي بنكيران ،مما سيكون سببا في اضمحلال وخُفُوت غوغائية وشعبوية شباط ، وهو ما سيمكّن جمعية “بلا هوادة” بقيادة عبد الواحد الفاسي من رصُّ صفوفها لإبعاد شباط من زعامة الحزب..وهو ما حدث. لكن قوة شباط ،التي سمحت له بأن يصبح زعيما للحزب ،كانت تكمن في أنه عرف من أين تُؤْكل الكتف ، معتمدا في ذلك على بعض “المناضلين” الذين كانت لهم تطلعات أكبر من حجمهم ، كأنْ يصبحوا وزراء أو سفراء أو مسؤولين في قطاعات حكومية..هذه القوة ذات الطبيعة الانتهازية ،التي استطاع شباط أن يجذبها ويُقَرِّبُها إليه، من خلال تبادل المصالح.. هي التي ستساعد شباط ليصبح، بين يوم وليلة، زعيما لحزب علال وبوستة ..بل كانت له تطلعات ليصبح رئيس الحكومة. وَلِمَ لا ما دام أنه زعيم حزب عتيد مُثْقَل بالأمجاد … و” اذهب أنت وربُّك فقاتِلاَ إنّا هاهنا قاعدون”.
بالنسبة لعباس الفاسي ،كان وجوده على رأس الحكومة على حساب وجوده على رأس الحزب؛لأن مسؤوليات ومهام وأجندة رئيس حكومة أثْقل وأصعب وأكبر من مسؤولية رئيس حزب..من هنا كان هناك شبه فراغ ..تزامنَ مع حصول وَهَنٍ بدأ يدبّ في جسد الحزب..أضف إلى ذلك اتّساع رقعة الغاضبين من توجُّه الحزب، ومن المتطلعين لحقائب وزارية أو دبلوماسية، الذين لم يستطع عباس تلبية رغباتهم جميعا ، و…و…وهو ما سينعكس، إجمالا، على الذراع النقابية للحزب :الاتحاد العام للشغالين ،وعلى باقي المنظمات الموازية للحزب ..وأيضا على إعلام الحزب الذي وصل إلى وضعية يُرْثَى لها….وكان الأمل مع توَلِّي نزار بركة زمام قيادة الحزب..من أجل إعادة الروح لحزب علال.. وبُذِلت جهود لإنعاش الحزب .. ولا أحد يعرف كيف ولا إلى أين ستصل هذه الجهود، علما أن الأمر يتطلب تغييرا عميقا في دواليب الحزب.. وهذا لا يمكن أن يتم بين عشية وضُحاها..أمام وجود جيوب مقاومة التغيير، خاصة للذين لهم تطلعات ذاتية تفوق حجمهم ومستواهم…إلى جانب وجود من يستغلون طيبوبة نزار بركة ..ويعتبرونها ضعفا…
نفس الأمر، مع تفاوتات، ينطبق على أحزاب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، التقدم والاشتراكية وثالثهما منظمة العمل الديمقراطي الشعبي..فالتحوّل هنا سيكون بنسبة 280 درجة .. من أحزاب يُقام لها ويُقْعد وما عرفته من خنق وتضييق وقمع وسجن…في صفوفها ..إلى أحزاب تكاد لا تجد فرقا بينها وبين أحزاب محسوبة على اليمين..أولا أصل أو صفة لها..
أحزاب ذات توجّه اشتراكي ديمقراطي، ونفَسٍ نضالي كبير، وذات ثِقْل ومصداقية.. أصبحت أوْهَن من بيت العنكبوت ،خصوصا بعد الاختراق الفظيع والانقلاب الأفظع على قائد في حجم بن سعيد آيت يدر، وبعد رحيل عبد الرحيم بوعبيد وعلي يعتة .لذلك ،لا أحد يناقش أو يجادل، حتى من بين مناضلي الاتحاد الاشتراكي، ومنظمة العمل، والتقدم والاشتراكية ، في أن حزب القوات الشعبية، في فترة الستينيات وبعد المؤتمر الاستثنائي والتقرير الإيديولوجي لعمر بنجلون ..والمنظمة في عهد قادتها الكبار و عودتهم من المنفى بعد حصول المنظمة على الشرعية القانونية ..والتقدّم والاشتراكية الذي كان زعيمها علي يعتة يشكّل لوحده مكتبا سياسيا متنقّلا.. هي ما عليه الآن في عهد ادريس لشكر ومحمد نبيل بنعبد الله.فرْقٌ كبير وبَوْنٌ شاسع ،لا من حيث النضالية ،ولا من حيث المصداقية.
إن هذه الأحزاب الثلاثة التي كانت تُزلزل الأرض ، انطلاقا من مقرات صغيرة ، تكفي، بِالْكاد، لاجتماع أعضاء مكاتبها السياسية بقيادة عبد الرحيم بوعبيد ، بنسعيد آيت يدر وعلي يعتة ..ليست هي نفس الأحزاب الآن التي تلتقي قيادتها في أرقى بناية في قلب حي الرياض الأنيق ، ويأتون إليها في أفخم السيارات ،وليس بواسطة سيارات أكل الدهر عليها وشرب أو حتى بواسطة دراجات نارية ،أو مشيا على الأقدام..؟؟
لا غرابة أن تحصد الأحزاب المذكورة الخيبات والانتكاسات والتراجعات ..بسبب ما جنَتْه أيديها وسياساتها وتوجّهاتها… وأصبحت لا فرق بينها وبين ما يسمّى أحزاب المخزن أو الأحزاب الإدارية..لدرجة أن المواطن العادي لم يعد يجد أو يلمس فرْقاً بينها وبين حزب اسمه “الأصالة والمعاصرة”، الذي دخل به “الوافد الجديد” إلياس العماري ،الساحة السياسية على متْن جرّار ،وفي فمه ملعقة من ذهب ،ويُمنّي النفس بالحصول على أغلبية في الانتخابات التشريعية تسمح له برئاسة الحكومة..قبل أن ينقلب السحر على الساحر..؟؟؟
هذه الوضعية تدفع إلى القول أنه لا يوجد وجْهُ شبه، بل أدنى شبَه، بين عبد الرحيم بوعبيد .وبن سعيد ،وآيت يدر…وكل القياديين الذين كانوا معهم..وقيادات اليوم في الاتحاد الاشتراكي، واليسار الموحّد وغير المُوَحَّد، والتقدم والاشتراكية؟ هل هناك نفس “الكاريزما” لهؤلاء وأولئك؟؟ لن تجد داخل هذه الأحزاب قيادات تذكِّرك بعبد الرحيم ،ومحمد عابد الجابري ،محمد جسوس، مصطفى القرشاوي..آيت يدر..أو علي يعتة..وغيرهم ..