
في مسألة الفكر والمفكرين، هناك فرق عظيم بين التقديس والتقدير والتحقير. فالأول مكروهٌ، لأنه يدفع صاحبه إلى اعتناق المثاليّة المطلقة التي تُلغي الحسّ النقدي.
أما الثاني فهو محمود ومطلوب، لأن لكل مجتهد نصيب؛ لذلك يجب تقدير جهود المفكرين الذين سهروا الليالي الطوال، وحمّلُوا أنفسهم وأبدانهم مشَقّة وعُسراً طلبا للعلم وطمعا في سبر أغواره واستكشاف مجاهله.
أما الثالث، فهو مرفوض ومذموم ومنبوذ، لأنه لا يقيم للفكر ولا لأصحابه وزناً ويبَخّس كل شيء لا لشيء سوى لغرض التبخيس ذاته.
أما في مسألة النقد، فالنُّقاد أصناف ثلاثة. الأول لا ينتقد إنما يكتفي بالإجلال والتكبير إلى درجة التقديس، ويعزى هذا الأمر إلى أن هذا الصنف يعمل بقاعدة هي” أن من أصاب في شيء فقد أصاب في كل شيء “، وهو الأمر الذي ينتج عنه الإلغاء التام لمَلَكة النقد البنّاء القائم على الجدل والمساءلة والمباحثة.
الصنف الثاني مختلف تماما لأنه أولا لا ينتقد الأشخاص إنما ينتقد الافكار؛ وبما أن الافكار لا تأتي من فراغ فمن اللازم إذن أن يُبنى نقدُ الافكار على أسُسٍ مَتينة، أوّلها القراءة المُعَمّقة لتلك الأفكار، وثانيها كشفُ مواطن القوّة والصواب ثم مكامن الضعف والانزلاق فيها، وثالثها يكمن في تقديم تلك الأفكار بغية المُضيّ قُدماً بحركيّة الفكر.
هؤلاء هم النّقاد الحقيقيّون الذين يُسْهمُون في ضمان دوران عجلة الفكر، لأن من نقدهم البنّاء ذاكَ، يُولد فكرٌ جديد، لا شكّ ولابدّ أنه سيُنتقدُ بدوره حينَ سيجدُ نقاداَ حقيقيّين، نقاداً عمليين يمارسون نقد النقد قصد توسيع دائرة الأفكار وإعادة البحث فيما بحث فيه الأولُون. والبحث فيما لم يبحث فيه أحدٌ من ذي قبل ، بعيدا عن النمطيّة والمنواليّة والتقاعس والتناكص وباعتمادِ الجدليّة الهيجليّة- دياليكتيك هيجل -(La dialectique hégélienne

أما الصنف الثالث فإنه لا ينتقد إنما يُسفّه ويبخس لأنه لا يمتلك أدوات النقد التي يمتاز بها الصنف الثاني. هذا الصنف لا ينتقد إنما يسعى الى الهدم ، حتى وان تمكن من ذلك ، فما استطاع هدمه لن يكون إلاّ فكراً هشيشَ البنيان بُنيّ على شفا حفرة بلا ركيزة منهجيّة ولا أساس فكري محض. لا يقدس المفكرين سوى من لا يريد الاستفادة من فكرهم ومن ليست لهم القدرة والنفس الطويل لقراءة فكرهم بعين ثاقبة. ولا يحتقر هم إلا متعصّبٌ، متحجرُ الرأي، قليل القراءة ، كثير الكلام. ويقدرهم العقلانيّون الذين ينتقدُون أفكارهمْ باعتماد التفسير والتحليل لغرض تقويم الاعوجَاجات وتصحيح الانحرافات. كل ذلك من أجل غاية إنسانية نبيلة: ضمان ديناميكية الفكر وحركيّة النقد وتطوير نقد النقد