إذا كان المنتخب الجزائري قد فاز بلقب بطولة كأس العرب 2021 بجدارة واستحقاق، فإن دولة قطر قد إنتصرت في هذا المونديال الكروي العربي المصغر من جميع النواحي، وأكدت لعشاق المستديرة، أن العالم سيكون على موعد مع استضافة استثنائية لكأس العالم 2022، في أول ظهور لتنظيم عربي لهذا المحفل الكروي العالمي، بل هي الٱن تقدم إشارة لمن سيأتي بعدها، وترفع السقف عاليا، وهذه ليست إلا ” بروفا تدرببية” أما ما سيأتي في المونديال العالمي، فمن المؤكد أنه سيكون ضربا من ضرب الخيال، وجاز للعرب الافتخار بهذا النموذج والاقتداء به، لأنه يؤكد أننا عندما نريد، فإننا نستطيع، كأفراد وكمؤسسات .
يحتار كاتب هذا المقال مثلما يمكن أن يحتار المحللون والمتخصصون في اختيار زاوية تعداد زوايا النجاح في هذه التجربة الفريدة، قطر ” الدولة الصغيرة” جغرافيا، التي أكدت أنها ” مفخرة” كبيرة في جديتها، واحترافيتها، ونجاحها المؤكد في استراتيجية بناء الإنسان لبناء الوطن.
من المشاريع الأساسية التي أطلقتها الدولة القطرية قبل أعوام، إعادة إعمار وبناء الدولة، بالاعتماد على الطاقات البشرية القطرية، أي بالاعتماد على الإنسان القطري، وهذا التوجه أكدت من خلاله أن الامكانيات المادية ليست كافية لوحدها لتحقيق النجاح، وإنما تلك السياسة الحكيمة والارادة الجماعية، والجدية في القول والفعل، والاستثمار في الإنسان، كلها مفاتيح إلى جانب أخرى، مهدت لبناء صورة جديدة لدولة قطر في مختلف المجالات ومن بينها مجال الرياضة .
بناء الإنسان قبل بناء الملاعب، أكدته الدولة القطرية في التعليم والصحة والاقتصاد، وفي جانب بناء الملاعب، إعتمدت على كفاءات قطرية كونتهم على مدى سنوات في الداخل والخارج، عكس ما نراه في بعض الدول من هجرة الكفاءات واستقطاب الادمغة، قطر قلبت القاعدة رأسا على عقب، واستثمرت في كفاءاتها، وعندما تستقطب فإنها تستقطب وتستقبل أفضل الكفاءات في مختلف المجالات، وتعاملهم أحسن معاملة، وبشهادات عدة، يؤكد المقيمون في قطر أنهم لا يحسون أبدا أنهم في بلد مستضيف، لا غربة في قطر، وفي الهندسة والمعمار، استطاعت بهذه الرؤية بناء تحف معمارية رياضية بخلفية ثقافية أصيلة، وبقواعد هندسية تمردت فيها على المألوف، فلم يكن عنصر الإبهار هنا صنيع الصدفة العابرة، وإنما صنيع التخطيط المحكم والعمل الفردي والجماعي الجدي .
في التنظيم، وكما يقال، عندما تكون الصورة ناطقة فلا معنى للوصف والتعليق والتحليل، قطر قدمت صورة مثالية تغنت بها الجماهير الحاضرة في البطولة، والجماهير التي تابعت المباريات عن بعد، سواء في مشهد الافتتاح الأسطوري، الذي مزج بين الحداثة والبساطة، بين العراقة والحاضر والمستقبل، أو في المباريات أو في الأنشطة الموازية للمباريات في المدن القطرية .
في النقل التلفزيوني، استفادت قطر من التجربة الإعلامية القطرية الكبيرة لقناة بيين سبور، وقناة الكأس وقنوات أخرى ووضعت كاميرات في كل زوايا الملعب، وساهم هذا النقل الاحترافي في تسويق صورة مثالية عن البطولة من جهة، وعن الامكانيات الهائلة التي ستوفرها قطر في تنظيم مونديال العالم، بل فتحت بث هذه المباريات بشكل مجاني على قناة بيين سبور، وباقي القنوات، لتصل الرسالة والصورة لأكبر عدد ممكن، وكانت المؤسسة الإعلامية والإنسان القطري في خدمة الدولة وفي خدمة الوطن، هي مقاربة نحتاج إليها بشدة في أوطان أخرى.
سياسيا ورياضيا في ذات اللحظة، حاولت قطر التقريب بين الشعوب العربية المتباعدة أو المختلفة سياسيا، ودافعت عن أحقية هذه الشعوب في وجود بطولة تمثلهم تحت مظلة الفيفا، وقدمت للفيفا بحضور رئيسها الأسس الشرعية لهذا المطلب، بعيدا عن من يراها بطولة عرقية من زوايا ضيقة جدا، بل كانت مفتوحة لكل الأعراق في الوطن العربي، لكل الألوان ولكل الأديان، ولم يرفض الاتحاد العربي لكرة القدم أي لاعب نظير عرقه الأمازيغي مثلا، او نظير دينه المسيحي مثلا، او نظير أي شيئ خارج عن الرياضة، ولذلك وضعت الفيفا في موقع حرج في المستقبل إذا ما رفضت اعتماد هذه البطولة وإعادة النظر في قانونها الذي يرفض مثل هذه البطولات، ما دامت النوايا حسنة، والأهداف راقية، وهذا مقام يحتاج لوحده لمقال خاص به.
كرويا، قدمت المنتخبات المشاركة في هذه البطولة أطباقا كروية نارية، ومن راهن على فشل البطولة من هذا الباب، عاد خائب الرجاء، فرغم أن جل المنتخبات لم تلعب بمنتخباتها الرئيسية بما فيها المنتخب البطل، ومنتخب المغرب وتونس ومصر والامارات والسعودية، إلا أن المتعة كانت حاضرة باستثناء بعض المباريات القليلة، وذلك التلاقح بين عرب آسيا وعرب إفريقيا أعطى نكهة خاصة للبطولة، وعلى رأسها مباراة نصف النهائي بين الجزائر وقطر، بطل قارة آسيا وبطل قارة إفريقيا.
في الختام، يمكن التأكيد مرة أخرى أن هذه مجرد ” لحظة تدريب بالنسبة لقطر”، كان فيها شعار ” ممنوع الخطأ” حاضرا، وكان النجاح حليفا لمن وضعوا هذا التصور في السنوات الماضية، أما ما سيأتي في المونديال يجعلنا متشوقين له كعشاق للمتعة، كعشاق لكرة القدم، وأمام كل هذه الإيجابيات وغيرها مما غاب عني في هذا المقال، أقف مدهولا أمام من يرى هذه البطولة من زاوية عرقية ضيقة، او يحاول التأكيد عن عدم فائدة إقامتها، ومن المؤكد أن هذا ينبع من تفكير أناني او تفكير عنصري مريض، فحتى لو لم تكن تروقك هذه البطولة، فيكفي أن ترى الفرحة في الوطن العربي بمختلف ألوانه، عرب وعجم وأمازيغ واندلس وموريسكيين وغيرهم، وترى هذا التواصل بين مختلف الألوان بمختلف أشكاله، ويكفينا فخرا أن يكون منظم هذا العرس المميز والناجح بكل المقاييس ينتمي إلينا، وإسمه دولة قطر، التي تصنع التاريخ وتقدم الدروس والعبر لمن يريد أن يفهم ويتعلم ويعتبر .