أحبّ العربيّةَ وأحبّ أنْ أكتبَ بها، بل وإنّي أكتب بها ما لا أكتبه بالفرنسية او بالإنجليزيّة. أحبّ ما تنفردُ به من مقوّماتٍ تركيبيّةٍ وجماليّة، وأحبّ ما لٍلفظِها من لذاذةٍ في السمع وعذوبةٌ واحبّ كيف يمكن أن تُحمّلَ اعظمُ المعاني على أبسطِ المباني وأيسرِهَا. احبّ كذلك سُلطة الحركات وكيفَ أنّها تتحكم في إعرابِ الكلمة و في معناها. لكن في طفولتي، كانَتْ شبحاً!
ولجتُ المدرسة الإبتدائيّة في بلدتي” تمساهلت” في أعماق الجنوب الشرقي، بلسانٍ أمازيغي ّ صِرف، ولم يكن من السهل على أطفالٍ، فراخ زغب الحواصل، أنْ يندمجوا بيُسرٍ في الفصل، ذلكَ أنّنا لم نكن نفهم ما ينطق به المعلّمُ الذي لم يكن أمازيغيّ اللّسان.
كانَ ينتظرُ منّا انْ نطلبَ إذنهُ للخروج من القسم بلسانٍ عربيّ مبين، أو على الأقلّ بالدّارجة. وبغيَةَ تجنّب الإحراج أو سخط المعلّم، كانَ من الضّروري انْ نبذلَ مجهودا في تركيب الكلماتِ العربيّة تركيباً عشوائيّاً نرشّه برذاذِ كلماتٍ أمازيغيةٍ.
منذُ أنْ وطأتْ أقدامُنا الفصل، ونحن أبناء ستّ سنوات، وأكبرنا لمْ يكن يتجاوز عمره سبع سنوات، ونحن نحاول انْ نعبر بالعربية ما استطعنا إلى ذلك سبيلا .
وكانَ المعلّمُ ينتظرُ منّا منذ البداية أنْ نفهم ما يقولهُ. وأمام عجزنا وخوفنا، لم يكن بمقدورنا سوى تحريك رؤوسنا تعبيراً عن رضانا عن كلّ شيء يُقال. كثيراتٌ هي الحالات التي تشهدُ على معاناة المتعلّم الأمازيغي مع معلّمٍ لا يفهم الأمازيغيّة.
ومن بين تلك الحالات التي سارتْ بِذِكرها الرّْكبانُ قصّة معلّم رسمَ على السّبورةِ ضفدعاً فطلبَ من المتعلّمين أنْ يُسمّوا الكائنَ المرسوم على السّبورة؛ فعمّ صمتٌ مظلم سرعانَ ما شتّته متعلّمٌ نطقَ قائلاً” Agrou”. ثارت ثائرةُ المعلم وانتفخت أوداجُهُ فصعقَ الطفلَ بصفعةٍ مدويّة اهتز لوقعها جسمهُ الضعيف. أعاد شرح السؤال وقال له إنّ اسم المخلوق ” ضفدع ” ؛ لكن الطفل لا يعرف إلاّ ” Agrou “.
إنّ الطرائقَ البيداغوجية التي كانت تُدَرّس بها اللغة العربية لغير النّاطقين بها مهلهلة الأركان، ذلك أنّها لم تكن تراعي البنية الذهنية للمتعلّم ولا تأخذ بعين الاعتبار الوسط الاجتماعي-الثقافي- الذي نشأ فيه.
كنّا آنذاك ننتظر فقط متى ندرس عند مُعلم أمازيغيّ يفهمنا. مرّت السنوات وحاولنا قدر المستطاع انْ نتعلمَ العربية، ولمْ أجدْ، وأنا في سن المراهقة، أفضل من الأفلام الوثائقيّة التي تُعرض على بعض القنواتِ. كنتُ احفظُ عن ظهر قلب توقيتَ كل واحدٍ منها. ومع مرور الوقت، تعلّمت الكثير من العبارات الجذّابة والكلمات المتينة التي كنت أستعملها في حصص التعبير والإنشاء وفي مواضيع التاريخ في المرحلة الإعدادية.
وحينما انتقلتُ لدراسة المرحلة الثانوية بمدينة مراكش، كانَ أحبّ شيءٍ إلى نفسي المكوث في دار الثقافة اقرأ أشياء أفهمها وأخرى أقف أمامها حائِراً مستغرباً. لكن حتى وإنْ لمْ افهم المعنى الفلسفي أو الأدبي الذي يخفيهِ نصّ ما، فلا شكّ انّي كنتُ أستفيدُ من لغتهِ وأسلوبه… ولا ضير !
وإلى يومنا هذا، ما زلنا نحاول أنْ نغوص في بحورها لنظفر ببعض الدُّرَرِ…