1 الكتاب وإطاره:
يعد كتاب من الانجازات المغربية الهامة في مجال التعريف بمواويل ذاكرتنا الملحونية وفيض وجداننا التراثي به وبشيوخه، تتويجا لاهتمامات أخرى رائدة مثل اهتمام كل من عباس الجراري، ومحمد الفاسي، والشيخ احمد سهوم، وعبد الله حسوني، وعبد الله شقرون، وعبد المجيد فنيش وآخرون…
صدر هذا الكتاب في طبعته الأولى عن مطبعة سجلماسة بمكناس سنة 2021 م، بتقديم وترصيف العلاّمة والمبدع المغربي الأستاذ عبد المجيد فنيش. ويقع في خمسمائة صفحة من الحجم المتوسط.
2 زاوية اهتمامي بالكتاب:
ونظرا لغنى محتوى هذا الكتاب، ولكثافة حمولته التراثية، وتعالقاته المعرفية واحالاته، فانه بالإمكان ان يفتح شهية العديد من التخصصات والاهتمامات ومناهج التحليل، وإذا كان هناك مداخل كثيرة يمكن ان ندخل منها لابراز عوالمه وجواهره، فإنني فضلت، في هذه المداخلة، عدم الاهتمام بالمداخل واخترت فقط الوقوف، مقابل ذلك، على المخارج، أي على الدلالات والرسائل التي يحملها والمعاني التي يستضمرها. أما عن مدخلي اليه من قبل فلم يكن سوى مدخل القلب، حيث لم ادخله سوى عاشقا ومتولها بغواية الملحون سيد الفنون، بواسطة نور الدين شماس الفاتن المفتون، او طفل الشمس كما يحلو لي ان أسميه، وطبعا، ليس للشمس من مرادف بالنسبة اليه سوى أمه الحاجة هنية رحمها الله.
3 في دلالات هذا الكتاب ورسائله:
لكتاب “شيوخ الملحون السلاويون جواهر في ذاكرة التراث المغربي المكنون” دلالات ورسائل كثيرة، حسب ما ستطيعه العين القارئة وبصيرة القارئ، من بين هذه الدلالات استطعت الوقوف على تسعة دلالات و هي: الدلالة السيميوـ أنثروبولوجية، و دلالة الولاء و الاعتراف، ودلالة الحُلم و الاشتهاء، و الدلالة التراثية، و الدلالة التحقيبية التاريخية، و الدلالة الاكاديمية، و الدلالة الوطنية، و الدلالة التكاملية، و الدلالة العصامية.
3 ـ1 الدلالة السيميوـ انثربولوجية:
هي دلالة تستمد مرجعيتها من علمين هما: السميولوجيا والأنثروبولوجيا، و اقصد هنا بهذه الدلالة المعاني و الإشارات التي تتيحها لنا الرموز والإشارات، و نحن نتقصى الآثار و الأصول، للوصول الى جوهر الأشياء، مادية كانت او لا مادية، و لعله السبب الذي جعل الأستاذ الباحث نور الدين شماس يختار تأتيت الواجهة الأولى لغلاف هذا الكتاب بلوحة تتضمن ابلغ الرموز والآثار دلالة على هوية ذلك التراث، ألا و هو باب المريسة او دار الصنعة الذي يستدعي مباشرة للدخول الى المآثر العمرانية التي كانت تأوي كل شيوخ ديوان الملحون السلاوي، فضلا هما ترمز اليه السفينة التي كانت تقل الابطال السلاويون المجاهدون الى عياب المالح المطلق، لإتمام صولة الديوان بحرا، بعد ان فاضت به الاسوار شعرا. وأية رسالة أبلغ من هذه، تصل الوعي الحاضر للأجيال بتراث ماضهم؟
3 ـ2 دلالة الولاء والاعتراف:
أَصْدُرها هنا، في استلهامي لهذه الدلالة، عن أطروحة مفادها ان المعرفة بدون اعتراف وولاء هي معرفة محكومة بالاجتثاث والخواء، ودليل ذلك ان قيمة العلماء والأدباء والفقهاء تتأكد بمدى انتسابهم الى شيوخهم ومدارسهم واعترافهم بذوي الفضل عليهم، والأستاذ الباحث نور الدين شماس يجسد هذه الروح العلمية، روح الاعتراف والولاء، سواء بالنسبة لزاوية الملحون وشيوخه بشكل عام، أو تجاه شيخ من أولائك الشيوخ، وهو شيخ عايشه ورافقه واستقى منه سقياه، ألا وهو الحاج احمد سهوم رحمه الله. وذلك بَيِّنٌ في اهدائه الذي يتضمنه تقديمه لهذا الكتاب، وكذا من الواجهة الخلفية لغلافه، في تواشج وجداني، واعتراف بالولاء المتبادل بينه وبين شيخه الذي دون له اهداء مؤثرا جاء فيه وبخط يده وتوقيعه جاء فيه: (الى الذي استرخص القيم والنفس من اجل المساهمة معني في رفع مستوى الملحون بين الفنون، والى الذي احبنا وأحب ملحوننا بصدق، والى الذي يتبع خطواتنا باستمرار ومن دون كلل ولا ملل، الى نور الدين شماس، أقدم هذا الإنجاز كتكريم لشخصه الكريم، او كاعتراف ببعض افضاله على حضيرة الملحون).
3 ـ3 دلالة الحلم والاشتهاء:
أحيل في هذه الدلالة الى مفهوم الكتابة بهذا باعتبارها حلما يشتهي إعادة تشكيل الواقع والوعي به، وإذا كانت الكتابة بهذا المفهوم، إما حلما بالمُحايِث المعلَّق، او حلما بالمستقبل المأمول، أو بالماضي المشرق، أو ما يسمى في التحليل النفسي بالحلم الاسترجاعي، فان الحلم الذي راود الأستاذ نور الدين شماس واحتل وجدانه وكيانه الباطني، لم يكن مجرد حلم باسترجاع مخزون ذاكرة فردية، بقدر ما كان حلما باسترجاع مخزون ثقافي صميمي لذاكرة مدينة بأكملها (سلا) وأمة بجميل اشتهاءاتها واحلامها بواسطة الملحون.
وهي الأحلام التي اشتغل عليها الباحث من اجل استرجاع خيوطه، ويَظْهرُ ذلك من الجملة الأولى لهذا الكتاب حيث صرح الباحث الحالم قائلا: “ان الكتابة عن مدينة سلا حلم أكبر من الاحلام ذاتها، وقد راودني منذ نعومة اظافري، وهي مدينة كنت ولا أزال، اراها بألف عين وعين نمت وكبرت معي، استوعبت كل الاعمار التي مرت بها، ولا ولن تنتهي ابدا من استيعاب أحلام الحالمين مثلي، وكذا الحالمين بعدي“.
حقا هناك الكثير والكثير ممن كتبوا عن مدينة سلا، من مؤرخين مغاربة وأجانب، وادباء، ورحّالة، وسياسيون ودبلوماسيون ومهتمون بالصناعات والحرف التقليدية، أرّخوا لسيرتها على هذا المستوى او ذاك. لكن كتابة الباحث نور الدين شماس عنها اتجهت مباشرة الى الجوهر، الى اشتهاءات وامتدادات سلا، بواسطة الملحون ديوانِها الأثيل.
3 ـ4 الدلالة التراثية:
أصدرُ في إبراز أهمية هذه الدلالة عن أطروحة مفادها أن التراث عموما، يُتعبر روح الأمم والشعوب، وذاكرتها الحية، ونسغها الانطولوجي، الضامن لاستمرار اخضرارها. والأمم التي تُضَيِّعُ روحها ذاكرتها نسغها غالبا ما تصاب بالاجتثاث، هذا إن لم تصب قبل ذلك بالجنون، ولذلك فمن اسرار دوام اليناعة والاخضرار والحياة للأمة المغربية دوامُ عناياتها بتراثها، ومما لا شك فيه ان الملحون المغربي هو جوهر عقدها التراثي، المتميز بقيمته وغِناه، سواء على مستوى ايقاعاته، وغنائياته واحتفاليته، او على مستوى مضامينه وقضاياه. ومن هنا بالذات تأتي أهمية المملكة المغربية في اهتمامها بهذا النوع التراثي في العديد من منابرها الإعلامية الاكاديمية، ودعمها لأعلامه وشيوخه واهتمامها بمنجزاتهم، في إطار السياسة الثقافية العامة للمغرب. وخير دليل على ذلك ما جاء في الرسالة الملكية الموجهة للدورة السابعة عشر للجنة الحكومية الدولية لصون التراث الثقافي غير المادي تحت إشراف منظمة اليونيسكو بالرباط مؤخرا يوم 28 نونبر 2022، والتي دعا فيها ملك المغرب محمد السادس نصره الله الى إحداث مركز وطني للتراث الغير المادي.
ومن خلال هذه الدلالة التراثية الحاضرة في رهان هذا الكتاب، يأتي اهتمامه برواد فن الملحون عموما، والسلاوين منه على وجه الخصوص، بحيث يمكن اعتباره حلقة هامة من حلقات هذا المشروع الثقافي الاستراتيجي. ويمكن اعتبار هذه الندوة المباركة حول تراث الملحون تنزيلا مباشرا لمقتضيات التوجيهات الملكية السامية.
3 ـ 5 الدلالة التحقيبية التاريخية:
إن حضور المرجعية التاريخية التحقيبية في هذا المنجز حول تراثنا الملحوني يعطيه دلالته التعليمية البيداغوجية التي قد تساعد اَلْأخلافَ على تمثل حياة هذا التراث المغربي الأصيل للأسلافْ. وتأتي أهمية هذا الكتاب من كونه يغطي حقبة تاريخة مهمة من حياة ديوان المغاربة في مدينة سلا، تناهز حوالي قرنين ونصف من تاريخه، وبالذات منذ سنة 1748م الى طلائع هذا القرن الذي نعيشه، قسمها الباحث إلى مرحلتين أساسيتين، خصص لكل منهما فصلا خاصا هما:
ü مرحلة شعراء الملحون السلاوييين الموسومة بمرحلة “صابة لشياخ” الممتدة من حكم السلطان مولاي عبد الله (1748م ـ1757) الى حكم السلطان سيدي محمد بن عبد الرحمان (1859م ـ 1873).
ü والمرحلة الثانية هي مرحلة التجديد في خطاب شعر الملحون، وهي المرحلة الممتدة من حكم السلطان مولاي الحسن الأول (1813م ـ 1894) الى حكم سيدي محمد السادس نصره الله.
3 ـ 6 الدلالة الاكاديمية:
أقصد بالدلالة الاكاديمية، كون أن استرجاع هذا الحلم لدى الكاتب، لم يكن مجرد استرجاع معرفي كيفما اتفق، وإنما جاء محكوما بتأطير يراعي الابجديات الاكاديمية والعلمية المتعارف عليهما في أوساط البحث المسمى أكاديميا. وقد تجلت اكاديمية هذا المنجز على ثلاثة مستويات وهي:
ü مستوى البناء المنهجي للبحث، من مقدمته الى خلاصاته واستشرافاته، مرورا بفصوله ومراصده، في تكامل نسقي وظيفي تترابط فيه مكونات هذا البحث ببعضها، بحيث تتحدد فيها كل خطوة بسياقتها، وتَفْتح على لاحقتها.
ü مستوى التوثيق والتحقيق، بحيث استند الباحث في بناء الوحدات المعرفية لبحثه إلى مصادر ومراجع ووثائق متنوعة يتكامل فيها المنشور بالمخطوط، والمكتوب بالشفوي، ويتبين ذلك من خال لائحة المصادر والمراجع التي استند اليها.
ü مستوى الوعي بالصعوبات والعوائق والاجتهاد في تجاوز بعضها، وتأجيل ما يحتاج الى المزيد من التحقيق والتدقيق والمراجعة.
من خلال هذه المواصفات الاكاديمية نؤكد بان هذا المنجز يمكن ان يغني الخزانة الوطنية والجامعية واسعاف مختلف الباحثين في هذا التعبير التراثي، من متخصصين وطلبة.
3 ـ 7 الدلالة الوطنية:
يمكنني ان أجزم من خلال هذه الدلالة ان هذا الكتاب جاء زاخرا بالروح الوطنية العالية، بحيث ابى الا ان يربط بين حياة وتاريخ ومجد الملحون بحياة وتاريخ ومجد وسيادة الدولة العلوية الشريفة، مقدما شواهد ملموسة متعددة على عناية سلاطينها وملوكها بهذا النوع من التراث المغربي الأصيل. وقد بلغت هذه العناية أوجها مع كل من المغفور له الحسن الثاني وجلالة الملك محمد السادس نصره الله وايده، حيث انتقل الملحون من وضعية الرواية والعنعنة والانشاد الى الحضور والانتشار عبر الإذاعة الوطنية، والتلفزة في العديد من البرامج، فضلا عن جعله يحتل مكانة بارزة في اكاديمية المملكة المغربية عبر لجنة أشرفت على تحقيق ونشر العديد من دواوين شيوخ الملحون. وتجدر الإشارة كذلك الى الدور الهام الذي أصبحت تحتله الرابطة المغربية لجمعيات الملحون بالمغرب، التي يترأسها الباحث نور الدين شماس نفسه، الى جانب عضويته في لجنة موسوعة الملحون بأكاديمية المملكة.
كما يتعين التذكير بان هناك مظهرا آخرا للدلالة الوطنية في خطاب الملحون تتجلى في تغنيه من حيث المضمون بالعديد من القيم الوطنية في مختلف المناسبات. بهذا المعنى يمكن الحديث عن الملحون باعتباره تراثا مُوَاطِنا ووطنيا.
3 ـ 8 الدلالة التكاملية:
واقصد بها ان هذا الكتاب يتميز في قراءته لحياة وحركة الملحون السلاوي عبر تلك الحقبة، ومن خلال كل ذلك الكم الهائل من الشيوخ، بخاصية التكاملية حيث يتقاطع فيه التاريخي بالاجتماعي والسياسي والثقافي، ليس فقط من حيث السياق، ولكن أيضا من حيث المضامين والقضايا التي حضرت في خطاب الملحون.
3 ـ 9 الدلالة العصامية:
وأقصد بها حجم المجهود الذي بذله الباحث نور الدين شماس، وأبان فيه عن عصامية مثالية وخلاّقة، اذ ان عملا كهذا لا يمكن ان يتأتى الا بفريق بحث مدعوم بدعم مؤسساتي وأكاديمي، ولكن الأستاذ الباحث نور الدين شماس دخل غمار هذه المغامرة منفردا محفوفا فقط بدعم معنوي من أصدقائه المقربين، ومن شيوخه الاحياء الذين أمدوه بما لم يمدوا به غيره.
واعتقد ان مشواره البحثي لم ينته مع هذا البحث وانما لا يزال مزودا بعزيمة قوية لمواصلة الاهتمام بعوالم الملحون بعد ان استحضر مادته الأولية، ليتنقل الى البحث في معجمه ومرماته وقياساته وتقاطعات لغته مع اللغة العامية من جهة، ومن جهة ثانية مع غيره من التعابير الشعبية الأخرى.