واجهت منظومة التربية والتعليم في المغرب ولا زالت تواجه عدة صعوبات وإكراهات، تحول دون الإصلاح التربوي الناجع المتوخى من كل البرامج التعليمية التي يتم تحديثها كل مرة، وبالتالي لم تحقق الأهداف التي سطرت لها؛ إذ بالرغم من توالي البرامج الإصلاحية للتعليم، إلا أنها لم تأت بأية إضافة نوعية، بسبب غياب تشخيص حقيقي لأسباب فشل كل برنامج سابق.
العنف المدرسي، الغش في الامتحانات، الهدر المدرسي، ضعف المردودية التربوية، الإدمان على المخدرات وترويجها بأبواب المؤسسات التعليمية وجنباتها، تفشي الرداءة والتفاهة داخل الأوساط المدرسية والجامعية… كلها ظواهر سلبية تظهر بجلاء فشل المنظومة التعليمية والتعلمية بالمغرب …
وصحيح كذلك أن منظومة التربية والتكوين ببلادنا خضعت لتحولات عميقة ولأزمات قوية حاولت من خلالها التخلص من مخلفات عهد الحماية والاستعمار، الا أنها مازالت تعاني من اختلالات حقيقية تحول دون النهوض بهذا القطاع الحيوي.
الأستاذ والمفتش السابق عبد الرزاق بن شريج سيتولى الإجابة عن أسئلة الجريدة باعتباره كان ولايزال يعتبر ممن خبروا ميدان التربية والتعليم بالمغرب ويعرفون خباياه و يدركون تماما مشاكله و صعوبات إقلاعه نحو آفاق جديدة واعدة.
أستاذي الكريم، بحكم تجربتكم واهتمامكم بالشأن التربوي، والسياسة التعليمية بالمغرب نعرض عليكم لمحاولة الإجابة والإفادة الأسئلة الآتية:
- إذا كان الجميع يقر بوجود أزمة في النظام التعليمي المغربي، فما هي طبيعتها؟ ومن المسؤول عن هذه الأزمة؟
إن أزمة المنظومة التربوية أزمة مركبة ومعقدة، اختلط فيها التربوي بالسياسي فالاقتصادي والاجتماعي، مما يتطلب العمل على تفكيك مكوناتها من أجل الدراسة الدقيقة والعلمية، لقد أشرت في العديد من الكتابات أن أزمة التربية والتكوين بالمغرب أكبر من وزارة التربية الوطنية،
فرغم أن الوزارة تمثل الحكومة، فالأزمة تبقى معقدة ومتداخلة، فالسياسة التعليمية غير واضحة المعالم بالنسبة للمفكرين والمنظرين، باعتبار أن التنزيل يكون دائما مناقضا لما رسم سلفا من طرف اللجن ومنظري المشاريع الإصلاحية، و هذا طبعا منذ أول مشروع إصلاح سنة 1957 (اللجنة العليا لإصلاح التعليم) إلى الآن، ويمكن تأمل المشاريع الفرعية المكونة للرؤية الاستراتيجية التي تشتغل عليها الوزارة حاليا ومقارنة التنظير بالتطبيق ليتضح الفرق الشاسع بينهما؛
- ماهي – في نظركم- إذن، أهم العراقيل التي تقف في وجه تطور منظومة التربية والتعليم؟
كل مشروع مهما كان شكله وقيمته ومبتغاه سيحتاج ميزانية لتنفيذه، وسيحتاج استراتيجية لتنزيله، وسيحتاج إيديولوجية أو لنسميها مبادئ تربوية تؤطره، أو الغايات والمرامي الكبرى التي تبرره، وبلغة أخرى القيم والمقاصد من ورائه، وبالتالي فالدولة التي تعتمد على القروض مثل المغرب ستلجأ كالعادة للصناديق الأجنبية،
وهنا لا يخفى عليك مدى تدخل هذه الصناديق في كل كبيرة وصغيرة انطلاقا من الموارد البشرية وصولا إلى مضامين البرامج التعليمية والتربوية التي يجب أن تعتمدها الدولة، لتمكينها من القرض، وبالتالي فموضوع التعليم في كل الدول موضوع معقد،
مع ضرورة الإشارة إلى أن الدول التي جعلته مدخلا للتقدم والتطور نجحت في تخطي حواجز القروض الأجنبية وتمكنت من اكتساب هامش من السيادة و الاستقلالية فيما يخص القرار التربوي.
- أستاذي الفاضل من موقعكم كمتدخل في الحقل التربوي تدريسا وبعدها تأطيرا وتقييما وبحثا، ما تصوركم لمستقبل المدرسة العمومية في ظل هذه الأزمة التي تتخبط فيها المنظومة التعليمية؟
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فما لم تتغير العقليات و تنتقل بنا من النزعة الفردانية إلى المبادئ الجمعية التكاملية، لن يتغير أي شيء، وما لم يتم الحسم فيما يخص إسناد المسؤوليات بناء على الكفاءة والاستحقاق وبعدها المساءلة والمحاسبة فلن يتغير أي شيء، ولا يجب أن ننسى في هذا السياق أن العالم اليوم يعيش فترة الرداءة والفوضى “الخلاقة” التي لا أخلاق لها في حقيقة الأمر،
فالعالم اليوم يعيش عصر انحطاط، ولن يخرج المغرب عن هذا في كل القطاعات الحكومية وحتى الخصوصية، فلا يحتاج المرء أدنى مجهود ليدرك هول طغيان المحسوبية وغيرها من أساليب المفسدين وعديمي الكفاءة والضمير في إسناد المهام والمسؤوليات،
الآن نعيش زمن أشباه العلماء وأشباه المتخصصين وانزواء العلماء وأصحاب الكفاءات أو انعزالهم واكتفائهم بالمناصب الدنيا، إنه عصر الانحطاط، بعد أن أصبح الشباب المدمن على المخدرات يحلم بواسطة “الحشيش” والعقاقير المهلوسة و يهرب من الواقع بشتى الممنوعات والمحرمات؟ أهناك انحطاط بعد هذا الذي نحن فيه إذ أصبحت قوارب الموت يقتنيها الشباب بأموال يتدبرونها بمشقة رغبة في الانتقال إلى الضفة الأخرى؟
لقد انتقل النظام الرديء منذ زمن إلى نظام آخر منحط، وبتنا نخشى الانتقال إلى زمن الجحيم حيث الحياة تمنح برخصة من الحاكم الواحد القهار، ورغم ذلك سنبقى على درجة من التفاؤل ونتمنى تخيير المستقبل إلى الأحسن، مستحضرين التغيرات العالمية من حولنا، لأن العالم أصبح قرية والكل يتأثر بمستجداته السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والحربية؛
- من بين المستجدات في منظومة التعليم الابتدائي، ما يسمى بالأنشطة الاعتيادية، هل ستصلح ما أفسدته السنين في منظومة التعليم؟
هذه الأنشطة قديمة، واشتغلنا بها في الثمانينات بشكل اختياري، كنا نستعملها على الخصوص في المستويين الأول والثاني من التعليم الابتدائي لتجاوز صعوبات تعرف بعض الحروف وبعض الكلمات، وتهدف إلى دعم المتعثرين،
و تحفيزهم بشتى الطرائق و الوسائل للانخراط في التعلم و طبعا دون الإخلال بالزمن المدرسي المخصص لباقي المواد، وهي اجتهادات فردية لنساء ورجال التعليم في تلك الفترة (مفتشين، وأساتذة)، ولم تكن معممة أو مقررة رسميا من طرف الوزارة، اليوم وفي إطار استيراد مناهج وطرق التعليم من الدول الأجنبية،
مهما كانت قيمة تلك الدول من حيث التربية والتكوين، فالوزارة مثلا استوردت وصفة جاهزة من الهند، لكن ما مدى قدرة منظومتنا على ضمان نتائج إيجابية لهذا الاستنبات المتسرع لطرق و مقاربات لا يعتمد تبنيها على دراسات علمية حقيقية؛
المذكرة الإطار رقم 067/22 بتاريخ 23 شتنبر 2022 في شأن إدراج الأنشطة الحركية الاعتيادية بمؤسسات التعليم الابتدائي، والمذكرات المتفرعة عنها مثل المذكرة رقم 068/22 بتاريخ 30شتنبر 2022، في نفس الموضوع ، والمذكرة رقم 073/22 بتاريخ 5 أكتوبر 2022،
في موضوع تنظيم الأنشطة الاعتيادية لحصص القراءة والرياضيات بمؤسسات التعليم الابتدائي، تؤطر إدماج هذه الأنشطة و ترسيمها، لكن الجواب العلمي عن السؤال المحوري في هذا الشأن يبقى هو: هل ستُصلِح هذه الأنشطة على قلتها و ضآلة مددها الزمنية ما أفسدته السنين؟،
الأمر يتطلب الانتظار لتقييم ذلك، ولكن الجواب المبني على التجربة والتوقعات المبنية على دراسة الساحة التعليمية المشحونة بالتوترات والإضرابات وأزمات الثقة بين أغلب مؤسسات الدولة والمواطنين عامة ونساء ورجال التربية والتكوين خاصة يسمح لنا بالقول إن إصلاح المنظومة أكبر من وزارة التربية الوطنية فبالأحرى الاعتماد على تجارب مستوردة لا تتوفر على التربة المناسبة.
- ماهي – في نظركم – سبل النهوض بمنظومة التربية والتكوين وإمكانيات تجاوز الأزمة؟
في جملة واحدة ودون تفاصيل، للنهوض بالتربية والتعليم مدخل أساس هو المدخل السياسي والدستوري، المنطلق سيكون من توحيد التعليم والحفاظ على الاختلاط المجتمعي وضمان تكافؤ الفرص، وبالتالي، أقول بتعميم ومجانية التعليم بما فيه التعليم الأولي وإجباريته والاشتغال على تجويد المنظومة، بجدية و صدق،
و ذلك بتوفير كل متطلبات جودتها بما في ذلك البنيات التحتية وفضاءات الاستقبال لتصبح فضاءات نشر قيم الحرية والمساواة، وتمكين الفتيات في المناطق القروية والجبلية من الوصول للتعليم واستكمال أسلاكه ومتابعة المسار بالتعليم العالي بجميع شعبه دون تمييز، وعلى الحكومات الإيمان بأن التعليم قاطرة فعلية للتنمية الشاملة، وأن تطور البلد رهين بتوفر الإرادة السياسية للإصلاح الفعلي،
بل هي حجر الزاوية، فمهما كانت الاستراتيجيات القطاعية المعزولة لن تغير من وضع المنظومة، فكيف ينجح الإصلاح دون التعبئة المجتمعية الوطنية، وكيف تكون التعبئة المجتمعية دون إرادة سياسية، وكيف تكون الإرادة السياسية إن لم يكن البلد في أمن غذائي، ومائي، وسياسي، وصحي، أمن استراتيجي، وأمن طاقي، كل هذا يحتاج إلى دمقرطة الدولة والمجتمع؛
كل ما سبق يطرح السؤال الأزلي أيهما أسبق الدجاجة أم البيضة، وهو نفس السؤال حول أيهما أسبق المدخل التربوي التعليمي أو المدخل السياسي، وبصيغة أخرى هل ينطلق الإصلاح من إصلاح المنظومة نفسها والاشتغال على مكوناتها من موارد بشرية ومضامين وبرامج ومناهج وميزانية وبنية تحتية؟ وبالتالي نربي نساء ورجال المستقبل على قيم مجتمعية ودينية بناءة ومتوازنة، أو ينطلق الإصلاح من السياسة وكل مكوناتها وأدواتها ومؤسساتها لضمان نجاح إصلاح المنظومة التربوية؟