( هل من الضروري الاشارة الى ان هذه القصة من وحي الخيال و ان كل تطابق لاحداثها مع بعض يوميات القراء من باب تشابك الاقدار و تخاطر الافكار و تواشج الصدف ؟)
لن اطيل عليكم.. اليكم القصة :
أحببته حتى الموت.. و في حضرته خبرت المعنى العميق للحب :
الأكبر في الأصغر،
الموت في الآخر،
انصهار الحبيب مع المحب،
انهمار النور،
توقد النار..
اشتعال الحب في القلب.
ما زال حيا يرزق. لقد نيف على التسعين، لكني انا ابنه الخمسيني يخامرني الجنون و أتمنى في أعماق قلبي أن أموت قبل أن يموت و أن أرحل قبل أن يرحل..
أحببت عظام وجهه البارزتين و عينيه الغائرتين و حنانه السائل بينهما كشلال أسطوري لا يكف عن التدفق..
كان أبي يجد صعوبة بالغة في التعبير عن مشاعره..
اذا نجحت في مشروع ما يقول لي دون عناء تفكير : الله يرضى عليك
اذا أخفقت في أمر ما يردد على مسامعي : الله يرضى عليكلا
اذا ظفرت بنصف نجاح أو ربع فشل، فاللازمة هي نفسها، لا تتبدل : الله يرضى عليك آ ولدي..!
كان أبي يجد في كل مرة نتحادث فيها صعوبة هائلة في التعبير عما يصطلي في قلبه من مشاعر متناقضة متباينة حد التعارض الكامل و الشامل : الفرح و الحزن، اللذة و الألم، الشك و اليقين، العذاب و الهناء. السلم و الندم…
في كل مرة كنت أرى بعين القلب لهيب الألم المشتعل في عينيه عندما لا يحالفني الحظ في صفقة ما أو حينما أفشل في تحقيق بعض الأحلام.
و عندما أهديته كتابي الاخير # العشاء الأول لحضرة المحترم # لمحت بريقا عجيبا يتراقص في عينيه، و لكنه لم يستطع يومذاك أن يعبر عما يجيش في قلبه من مشاعر فخر الأب المربي بفلذة كبده..
لقد تربى أبي في بيئة تقليدية حتى النخاع، في أسرة عريقة تمجد لدى الرجال عدم التعبير عن العواطف، فالرجل اذ يفصح عن مشاعره ينتقص من رجولته..
أنظر الى أبي.. أتملى وجهه البهي المطبوع بالإيمان و رضا الوالدين، فأخالني قد رأيت النبي، ” سيدنا النبي”..
أرهف السمع لحكاياته التي لا تنتهي عن والديه أو عن ذكرياته الرائعة المبهرة في ورش البناء، فلا أنبس ببنت شفة، و أتركه مسترسلا في كلامه ما شاء أن يسترسل.
لا اقاطعه تبجيلا له..
و عندما تجاوز أبي السبعين، صرت ألمح في عينيه بعضا من نظرات العتاب. و كان لا يتفوه بكلمة واحدة من عتابه المقروء في عينيه العسليتين الغائرتين، و لكن نظرات عينيه كانت تهتف :
. لماذا تأخرت في شراء بيت خاص بك و لا زلت مصرا على اهدار أموالك في شقق الايجار ؟؟؟
. لماذا تصر على سلوك نهج الزهد و البساطة في العيش رغم أن مولانا قد أفاض عليك من خيراته و بركاته ؟؟؟ [ و أما بنعمة ربك فحدث]
. لماذا لا تلبس بذلة رسمية و ربطة عنق كل يوم و تتخلى عن مظهرك الرياضي الشعبي ( الأنيق حتما) الذي لا يليق بأستاذ و كاتب روايات مرموق وطنيا و عربيا.. الذي لا يتناسب بتاتا مع كاتب لامع أفنى شبابه في السرد الراقي و تشنيف آذان قرائه و محبيه بأجمل و أعذب الحكايات ؟؟؟
و كان في عينيه المتوقدتين بنيران حب الأب اللامشروط لابنه الوحيد.. كان فيهما كلام كثير آخر و رسائل لا تنتهي بعدد رمال البحر و نجوم السماء بل و ذرات الكون..
و ذات يوم راسخ في ذاكرتي كالوشم القديم في الجسد، أهديتك نسخة فاخرة من روايتي الاخيرة # العشاء الاول لحضرة المحترم#، فلمحت للتو عينيك تتوهجان بنور الفرح. كدت تموت فرحا، لكنك لم تعبر عن الفرح.
و ضم أبي الكتاب اليه بيديه و ألقى عليه نظرة طويلة عميقة و حانية. و شرع يقلب صفحاته و يقرأ كيفما اتفق، دون أن يهمس، مقاطع من الكتاب، و بين لحظة و أخرى يشرق وجهه بالرضا و يومض بالفرح..
ها هو ذا يداعب الكتاب بأصابعه النحيلة و عينيه اللماعتين مداعبة الأب لصغيره الملفوف في القماط، لكنه لا يعبر بكلمة واحدة عن فرحه الطاغي بالكتاب / الابن..
فما جدوى الكلم في حضرة الهمس و اللمس ؟؟
الرجال لا يتكلمون.. الرجال يتحركون..
أبي، دعني أعترف لك أن مجد الكاتب لا يساوي عددا ضخما من القراء أو جماهير غفيرة من الشرق الى الغرب تواكب و تطالع جديد اصداراته في العلم أو الأدب..
ان المجد العظيم و النجاح المبهر أن تصبح أعمال الكاتب مفخرة لوالديه و ارثا يتركه لأبنائه قبل أن يرحل..
أبي، سامحني ان أخطأت يوما في حقك أو قللت من واجب الاحترام لشخصك المبجل..
سامحني ان لم ألتزم كما يجب بفروض الطاعة و طقوس الولاء و التشريف لشخصك الكريم المعطاء..
أبي.. ان املاء النظر الى وجهك البهي المطبوع بنار الحب و نور الايمان.. ان النظر الى وجهك الذي لم يطحنه قطار الزمن و عينيك الغائرتين العسليتين الذين يتألق فيهما حب يتخطى حدود الكون.. ان النظر الى وجهك الطيب البشوش لمثل انعام النظر الى وجه النبي.. الى وجه ” سيدنا النبي”.
* كاتب و استاذ باحث
المعهد العالي للاعلام و الاتصال، الرباط