خلد التراث الأدبي العربي أسماء شعراء استسلموا لسلطان العشق والهوى، وجادت قرائحهم بأبيات شعرية لازالت ترددها الألسن وتبوح بأسرارها كتب ومؤلفات كثيرة. وفي مدونة الشعر العربي، اشتهرت قصائد ومعلقات تنتمي لضرب من ضروب الشعر اصطلح عليه باسم “شعر الغزل “، والذي يجسد شوق الحبيب /الشاعر لمعشوقته ومدى تعلقه بها وما يجوس في ذاته من أحوال الصبابة والهيام والعشق.
1-نشأة القصيدة الحسانية:
كان ياما كان وسط جبال من رمال، حيث الخيام ترمي بأوتادها كي لا تنال منها الرياح العاتيات، والإبل تسرح وصغارها تاركة خلفها الأثر كلافتات إرشادية.
هناك تجد أشابة من نساء يتناولن كؤوسا من الشاي الصحراوي ويتراقصن على أنغام موسيقية مشحونة بالشوق والشجى، تبدو في الوهلة الأولى غريبة عن الأذان، الى هنا الوضع هادئ، لكن إذا أمعنت النظر ستلمح أن النساء هن من تتلون أشعارا من قبيل: بالِ نُوَصِيكْ … لاَ تَبْغِ يَكون ألْيَبْغِيكْ.. إنه التًبْرَاعْ ديوان الحسانيات.
هكذا تحولت المرأة من موضوع القصيد الى الموسيقي التي لا تشبه تأمل اللوحة ولا قراءة الرواية، لقد صارت شاعرة بكل المقاييس ترعى الالهام والابداع في دواخلها، حتى نما هذا الابداع الشعري وأخذ يكبر كبر حجم الانسان الذي هو عليها، وكيف لا ومن النمر الجائع والمرأة العاطفية: لا هروب ولا نجاة، صدق أنيس منصور.
بادئ ذي بدء وجب البحث عن أصل الشعر الحساني قبل الغوص في فن التًبْرَاعْ كَبِتْكة منتمية الى هذا الشعر، يقول الباحث: احمدو ولد اجريفن: ” ان الباحث في نشأة الشعر الحساني عليه ألا يتطلع ببساطة الى الخروج من بحثه بتاريخ محدد لميلاد هذا الشعر حيث انه يمثل ظاهرة إنسانية مرت بمراحل من التطور عبر العصور حتى وصلت الى صورتها الحالية….
” ذلك ان إشكالية ولادة الشعر الحساني تعود الى سببية عدم نشأة دوحته بشكل أنضج، وانما نمت من بذرة الأزجال الهلالية وسمدت بالموشحات الأندلسية وأصابها وابل الأوزان المحلية ثم أتت أكلها في أواسط القرن الثاني عشر، ما جعل من غير المعروف زمنيا متى ظهر التًبْرَاعْ ، فاختلف فريقان فمنهم من يرى أنه وجد الى جانب الشعر الشعبي في القرن 12 الهجري و بين من يؤكد أنه جاء نتيجة للكبت الذي كانت تعاني منه المرأة الصحراوية و الموريتانية على وجه الخصوص في مرحلة مجتمعية همشت فيها صورة المرأة في مختلف نوادي الفن و الابداع في ظل مجتمع إسلامي محافظ …
ورغم اختلاف المجتمعات العربية و تمايزها الثقافي، يعتبر المجتمع الصحراوي في موريتانيا و الصحراء المغربية و جنوب المغرب الأقصى و أقصى الجنوب الغربي بالجزائر من أكثر المجتمعات عربيا و افريقيا محافظة على منظومة الأعراف و التقاليد المقدسة، و لا جرم ان الشعر الحساني شكل تعبيري يتضمن أغراضه الشعرية التي يدخل في نطاقها التًبْرَاعْ باعتباره فضاءا لتصريف الخلجات الغزلية التي تنتجها مشاعر المرأة الصحراوية.
فإذا كان تاريخ شعر العرب حافلا بالمقدمات و النصوص المنتقاة وفق بحور جزيلة، يتغزل فيها الرجل بالمرأة، ففي الشعر الحساني يتحول الرجل الى الموضوع المراد التغزل به، تحت مسمى التًبْرَاعْ بوصفه امتدادا للغزل و النسيب في القصيدة العربية التقليدية.
2- في الجذر اللغوي:
المناخ أو الطبيعة عامة مصدر الهام للإبداع الشعري لدى الانسان، لكن هذا الطرف لم و لن يستطيع التستر على الطرف الداخلي الأعمق لدى الانسان ذاته وهو الوجدان، جوهر المشاعر كلها ، في هذه العناصر تتركب شروحات تدخل ضمن سطور قاموس الشعر الحساني الذي ما يزداد يكبر بعد كل تجديد و إعادة صياغة، و من المفردات نجد : لْغْنَا، اسم يطلق على حالة الشعر بالحسانية، ويحيل على الغناء في اللغة العربية، هو شعر بأشطر، يملك وزنا وعروضا خاصا به مع بقائه منتميا لنفس القصيدة العربية من نفس النمط، التباين يكمن في أن لْغْنَا ذو قواعد وأقانيم معقدة بما يكفي لمنح المتعة لأناس مرهفي الإحساس، في ثقافة يعتبر فيها فن إتقان اللهجة ميزة عالية،
لكنها في واقع الأمر بسيطة، رغم كل تلك التذبذبات، بحيث يمكنني ويمكنك خوض غمار التجربة دونما خوف من ارتكاب المغالطات على خلاف ناموس شعر العربية الفصحى، التيم لا تختلف بين لْغْنَا و الشعر، لأنه في كلتا الحالتين يرتبط الامر أساسا بالتغني بالناس و الوقوف على الأماكن و المدح و البكاء.. دونما نقاش أو مواربة.
التًبْرَاعْ، جاء في لسان العرب دالا على البارع والبراعة، في الفضيلة والجمال والتفوق.. توصف به المرأة والبارع الذي فاق أصحابه في السؤدد.. والبريعة امرأة فائقة الجمال والعقل …أما في معجم اللغة العربية المعاصرة فإن البراعة توأم الفصاحة، وهي تدل على الثلاثي: – مصدر بَرَعَ وبَرُعَ، 2- فصاحة سلامة الكلام من التعقيد، وملكة الخلق والابتكار، 3- مهارة، تفوق.
واصطلاحا يحيل على شعر نسائي يمكن المرأة من التعبير بصدق ودقة عن احساسها من خلال الاكتفاء ببيت شعري واحد من شطرين موزونين على القافية نفسها، وبالتالي لا وجود للقصائد في التًبْراعْ عامة، وإذا كان الرجل الصحراوي بحاجة دائمة الى مقطوعات شعرية طويلة لإبلاغ الرسالة المرادة، فإن المرأة تكسر رتابة الحياة في الصحراء، وتنتقي الأنسب بين أوقاتها لنظم الشعر والقائه في تجمعات شبيهة بالصالونات الثقافية، جلسة شاي كفيلة بتجلي المعنى وتبليغ الرسالة.
اما في اللهجة الحسانية، فكلمة تًبْرَاعْ محلية عند مجتمع (البيضان) وتعني تغزل المرأة بالرجل، والإفراط في وصف مفاتنه أحايين أخرى..
لكن أليس للمرأة/الشاعرة مشاعر و أحاسيس هي الأخرى تترجمها شعرا يفوح بأسمى عبارات التعلق بمحبوبها ؟… .
لست أدري إن كان في التراث الشعري العربي قصائد من هذا القبيل ، لكن في التراث الأدبي الحساني ظهر جنس أدبي تدلي المرأة من خلاله بمكنونات قلبها، وهو فن “التبراع ” . و لايعني وجود مثل هذا الغرض الشعري “تحرر ” المجتمع الصحراوي في زمن البداوة والترحال ، بل كانت السمة الغالبة على هذا المجتمع ذي الهوية المغربية الأصيلة التقيد بالقيم والعادات المحافظة ، و كان مجتمعا أبيسيا تهيمن عليه الذكورية ، فيما تحيط بالمرأة أسوار ضرورة الإلتزام التام بالحشمة والوقار و تجنب البوح بالمشاعر و مكنونات القلب مخافة الإتهام بالفضيحة والعار .
اختصت المرأة “البيضانية ” عموما /نسبة لمجتمع البيضان أو المجتمع الحساني / بهذا الغرض الشعري دون غيره تنثر من خلاله تفاصيل شعورها لمن تعلقت بها شغاف القلب و سكن الوجدان والعقل.
وغالبا ما تكون “التبريعة” كلاما موزونا باللهجة الحسانية بأسلوب رشيق و خفيف و بأبعاد أكثر عمقا وثراءا ، لكنه مجهول المصدر في الغالب الأعم بحيث تتخفى صاحبة الإبداع و تبقى الرموز و الكلمات خير رسول بينها وبين من تهوى ، والذي لن يخطئ المعنى و يوفق حينها في فك شفرة الرسالة و أسرار المضمون .
3- تعبيرية الشعر ودربة الأذن الموسيقية:
لا تقتصر النظرة الموسيقية المتأملة الى النص الشعري على طبيعة الإيقاع المتواتر بل يجب ان تتجاوزه الى إدراك اللحن، فيه تماما شأن نظرتنا المتأملة للعمل الموسيقي المتنوعة أشكاله وميزاته:
1-الأشكال:
• التبريعة وهي فن أدبي صعب، قوامه بيت شعري واحد مكون من شطرين فقط لا غير مع ضرورة استيفاء المعنى فيهما، فلا توجد قصائد تبراع في الثقافة الحسانية، بل توجد تبريعات أو أبيات التًبْرَاعْ، كما ووجب أن تكون التبريعة واضحة المعنى ومباشرة في التعبير عن العاطفة.
• يمتاز البيت الشعري، بالبساطة والوضوح التي لا تخلو من الصور البديعية، وتسهم قلة كلماته في جعله سهل الحفظ والاسترجاع.
• الطلعة أي الصعود في الحسانية وهي قصائد من ستة أبيات تشترك أبياتها، الثلاثة الأولى والخامس، في القافية ويتميزون عن قافية البيتين الرابع والسادس، والسبب في تسميتها بالطلعة يرجع الى البيتين الأولين من نفس القافية التي تشكل مرتفعا أو هضبة، قبل الرباعية التالية المتطابقة مع الكاف. ولنظم قصائد أطول، يستخدم الكاف والطلعة أيضا كأشكال مقاطع شعرية STROPHIQUE، حيث يمتلك الشعراء الحرية في الجمع بين الرباعي QUATRAIN(S) والسداسي SEXTAIN(S).
ب- الخصائص:
◊ شعر بصيغة المؤنث: في مجلس نسائي خالص تبدع النساء الحسانيات، انشاد التبريعات من خلال المسامرة فيطلقن العنان للعواطف والمشاعر تجاه من اختاره القلب قبل العقل.
◊ الاعتراف ثم التحليق: ذلك الفضاء هو ما يتيح لها العيش في جو من الحرية، فتتنفس وتعبر وتنطلق في الأفاق ولو افتراضيا.
◊ – الرواية الشفوية والحضن الاجتماعي: تنتشر التبريعة في الجسد الاجتماعي عن طريق الرواية والمشافهة، ما يجعل الأمر مفتوحا ومطلبا مرغوبا كمعطى اجتماعي محمي ومحتضن.
◊ الجرس الموسيقي: ترتبط اللهجة الحسانية أشد الارتباط باللحن والموسيقى المعتمدة في المجتمع الصحراوي.
التبراع …العشق المكتوم
تحاط قصائد التبراع بقيود السرية والكتمان و الحرص على عدم الإنتشار والذيوع بين عامة المجتمع بفعل طبيعة المجتمع الصحراوي ، والتي تجنح أكثر نحو قيم المحافظة و تعدد الطابوهات و الطقوس المرتبطة بهيمنة الحشمة و الوقار خصوصا في زمن البداوة والترحال
. الباحث المغربي ابراهيم الحيسن –وهو من أبناء الأقاليم الصحراوية و له مؤلفات عدة تخص مجال الثقافة الحسانية – يرجع في كتابه “مجتمع البيضان / النسق الثقافي ونمط العيش” أسباب انتشار فن “التبراع ” بالصحراء ” لرقابة المجتمع وسلطة الطابوهات المحظورات الكثيرة التي جعلت منه كياناً وعالماً داخلياً يملأ انشغال النساء الصحراويات بالحب والتعبير عن العواطف والأحاسيس تجاه الرجال أثناء جلسات المسامرة والمؤانسة، أو تحت ضوء القمر المتلألئ، أو بين كثبان الصحراء ” .
تكتم المرأة الصحراوية عشقها ، ولا تبوح به إلا نادرا أو في جلسات خاصة مع صويحباتها المقربات و مع بنات جيلها و ذوات الثقة المتبادلة .
و لا تعدم المرأة الوسيلة لتبليغ الرسالة ، بحيث تحرص على أن يصل إلى مسامع المعشوق ما جادت به قريحتها وذائقتها من أبيات شعرية باللهجة الحسانية ، ولذلك يبقى انتشارها محصورا على نطاق محدود بشكل يسمح ببلوغ الرسالة و توصيلها عبر ممرات و طرق آمنة لمن يهمه الأمر.
البوح الموزون ….
فن التبراع جنس أدبي تختص به النساء يتكون من تافلويتين لهما نفس الوزن ولهما عدد متحركات مختلف، و يعتمد على كثافة المعنى و سلاسة الأسلوب و رشاقة الكلم الموزون .
“التبريعة” لا تتجاوز تافلويتين – و التافلويت يقابلها في الشعر الفصيح “الشطر”، والكاف الحساني يقابله البيت، ويتكون من أربع أشطر، أي أربع تِفَلْوَاتَنْ. والطلعة، أي القصيدة، لا تنقص عن ست تفلواتن. و ببنيته الخاصة يخالف فن “التبراع ” البنية الرباعية للشعر اللهجي الرجالي من خلال الإعتماد على قالب يتجسد في بيت ثنائي مزدوج المصراعين في القافية .
و يعتبر هذا الغرض الشعري بمثابة مذهب النساء “البيضانيات ” عموما في الحب و العشق بعيدا عن قيود المجتمع و طابوهاته الكثيرة .
و تقلب المبدعات المعادلة حين يكون الرجل موضوع التغزل و منطلقا لوصف محاسن الجمال و الصفات الجسدية والمعنوية، خلافا لما هو معهود و مألوف في التراث العربي الأدبي بحيث يتخذ شعر الغزل من المرأة كموضوع للوصف و ذكر محاسن الجسد والروح . لقد تفوقت المرأة الصحراوية في تلك الفترة في فتح ثغرة في سور التقاليد المحافظة كسمة بارزة للمجتمع المحلي من خلال البوح بمشاعرها المكتومة و التعبير عن أحاسيسها اتجاه من تحب وتهوى –و إن كان في نطاق محدود و وسط دائرة من الصعب إختراقها و هتك أسرارها و كواليسها الخفية .
ليست هناك حدود لتعبير الشاعرة العاشقة عن أحاسيسها مادامت لحظة الإبداع تبقى سرية ، و من غير الوارد أن يتم الكشف عن مبدعة التبريعة ؛ لأن معرفة مصدر الإبداع الشعري تبقى محصورة على نطاق ضيق جدا .
بيد أن الذاكرة الجمعية تحفظ الكثير من التبريعات ذات المعاني و الدلالات العميقة بأسلوب رشيق و سلس يجسد طبائع و عادات وتقاليد المجتمع المحلي في مراحل ماضية . تعبر إحداهن –مثلا- عما وصلت إليه من عشق لحبيبها يفوق حب قيس بن الملوح لليلاه: “قيس ابن الملوح/ أطم آن منو واشح”. و أحيانا يأتي التبراع خاليا من تعابير العشق و الوله ؛ بل يحمل تنبيها أو تقريعا أو معاتبة توجهه المرأة /الشاعرة بأسلوبها الخاص :
– مَانَكْبَلْ لِهَانه * وَشْكَالْ مْعاهَا خِيانَه
(لا أقبل الإهانة فكيف إذا اقترنت بالخيانة).
– نَوْفَ مَاهَبَّاس * لَعَلَّ نَتْخَطَّ لَقْياس
(سأتوقف عن هذا الحب، لا أريد أن أتجاوز المعقول).
نماذج كثيرة من فن التبراع أصبح بالإمكان الإطلاع عليها والإلمام بها عبر النص المكتوب من خلال إهتمام عدد من الباحثين و المختصين بالثقافة الحسانية و إصدارهم لمؤلفات تعنى بالتعريف و تسليط الضوء على هذا الغرض الشعري.
الباحثة الصحراوية العالية ماء العينين أصدرت عددا من المؤلفات حول فن التبراع : “التبراع…نساء على أجنحة الشعر ” ؛ “التبراع الشعر الحساني النسائي المفهوم –السياق – الثقافة” .
و إعتبارا لأهمية الثقافة الحسانية كجزء لا يتجزأ من الهوية المغربية الأصيلة ، أشرفت أكاديمية المملكة على إصدار كتاب شامل حول فن التبراع بعنوان : “التبراع … الشعر النسائي الصحراوي “. و يعد هذا الكتاب ثمرة مجهود جماعي لعدة باحثين ، من خلال جمع القصائد أو المقطوعات الشعرية أو تصنيفها ، ثم ترجمتها و إخراجها في قالب موسيقي
5- الطريق الى التجديد المستقيم:
تعتبر الرقابة الاجتماعية من الأسباب الرئيسية في انتشار جنس التًبْرَاعْ الشعري وتداوله في قفار الأراضي المغاربية، والذي اتخذته النساء الصحراويات عالما داخليا، كيانا يخزن ويفرغ تلك المشاعر المليئة بالحب والشوق وغيرها…
وفي هذا السياق نظرت القوى المختصة الى ضرورة تحرير شعر التبراع الراسخ في الأدب الحساني من سلطة الرقابة وأسست عددا من الجمعيات بهذا الخصوص، منها ما يعنى بمهمة التعريف بهذا الجنس الشعري باعتباره جزءا لا يتجزأ من الثقافة الحسانية كتلك التي تأسست بمدينة السمارة جنوب المغرب، وأخرى عملت على إخراج هذا الجنس من السر للعلن كجمعية الساقية الحمراء الوطنية النسائية للتبراع وتنمية الابداع.
مؤخرا، سطع نجم كتاب جديد، بدعم من أكاديمية المملكة المغربية، يضم بين سطوره تبريعات، مترجمة الى اللغتين العربية والفرنسية، كما وتمت اتاحة الولوج اليه رقميا بعد تسجيله في سياق صون الموروث الشعري الحاضر بصحراء البلاد، موسوما بعنوان التبراع الشعر النسائي الحساني..
وقد عُد هذا الكتاب ثمرة مشروع جماعي يرمي الى تجميع وتدوين وترجمة وتسجيل متن شفاهي لشعر ” التبراع”، تم إنجازه من طرف فريق متمكن وذلك بانتقائه مائة تبريعة وتبريعة..
وقد أشار البروفيسور رحال بوبريك المشرف على التنسيق العلمي للمشروع في تصريح للبوكلاج : ( لقد شارك في العمل مجموعة من المختصات و المختصين، بدءا من عملية تجميع المتن من أفواه النساء التي قامت بها الأستاذة عزيزة عكيدة و انتقاء المائة تبريعة و تبريعة مع وضع شرح مقتضب بالفصحى لكل تبريعة.
تلى ذلك عملية الترجمة الصعبة التي تكلفت بها الشاعرة و الكاتبة الموريتانية عيشتو أحمدو ، و التي أسهمت مشاركتها في تمتين الروابط و المشترك اللغوي و الثقافي كعامل للتقارب بين شعوب المنطقة الصحراوية ، وقدمت هذا العمل الأستاذة كاترين تين الشيخ ،الباحثة بالمركز الوطني للأبحاث العلمية ، و ساعدتنا الشاعرة خديجة لعبيد من السمارة في الالقاء رفقة العازف على التدنيت لغظف الجنحاوي ، اما عملية التسجيل فكانت تحت اشراف و تنسيق الموسيقار العبقري حسن عيديد و قد ضم الكتاب أيضا مجموعة صور انجزها الفوتوغرافي هرفي نيكر .
6- الموقف الموسيقي:
و هذه مختارات من قصص الود والغرام، خلدت في التاريخ حتى صارت موروثا وطنيا لا غنى عنه، يخط بعناية تعابير الثقافة الإنسانية بين صدور أشعار نظمتها ثم روتها نساء عبر التًبْرَاعْ وفيما يلي بعضها:
۞ تقول إحداهن: كْلَامَكْ ذً السكران *** نْصومْ عْلِيهْ عْشَرْ عِيمانْ
» ومعنى التبريعة ان الفتاة ستصوم عشر سنوات مقابل كلام معشوقها الذي يشبه حديث السكارى.
۞ في حين تكتفي أخرى بالتلميح قائلة: انَا ودًلالْ *** نْسَيَنْ لْعْمامْ أُلْخْوالْ
» بمعنى انها وحبيبها قررا تجاهل الأهل
۞ وفي خطاب أكثر وضوحا تقول الشاعرة: وَانا فُؤادِي*** طَاري لُو شِي ما هو عَادي
» ومعناها ان الفتاة تشعر أن فؤادها على غير عادته فماذا أصاب الفؤاد يا ترى؟
جيل “الواتساب ” و التراث
في ظل الثورة الرقمية التي تعيشها البشرية في الوقت الراهن ، و في زمن ظهور عادات و أنماط تواصلية قربت البعيد و أضفت نوعا من “الخصوصية ” على لحظات التواصل و لو في أكثر مواقفها حميمية ، يبقى الحديث عن تداول مثل هذا الجنس الأدبي –بطابعه القديم – أمرا متجاوزا بفعل إنفتاح المجتمع المحلي –مثل باقي المجتمعات المغربية – و تأثره بمتغيرات العصر الرقمي و سرعة إختراقه لأسلوب حياتنا خصوصا على مستوى إنتشار الهاتف الذكي ، و ما أحدثه من تغييرات جذرية على أنماط التواصل لدى الإنسان الصحراوي عموما .
و لا يعني ذلك البتة إندثار هذا الغرض الشعري ؛ بل لا يزال له جمهوره الخاص و يضم مجتمعا من المبدعات ينثرن ما جادت به قرائحهن كلما سنحت الفرصة ، و إن إختلفت شروط و بيئات الإبداع و طبائع المجتمع عن ذي قبل
الثورة الرقمية أحدثت جيلا جديدا أطلق عليه إسم “الجيل الرقمي ” أو الرقميون الأصليون ” Digital Natives ، وله قواعده و أنماطه الخاصة في إستهلاك المحتوى بكل أنواعه بما فيها المحتوى الأدبي لمن له ميولات و إهتمامات بالشأن الثقافي بصفة عامة .
و الأمر ينطبق كذلك على مختلف الأجيال؛ فحسب العديد من الدراسات والأبحاث ، يقضي المرء جل أوقاته في علاقة متواصلة بالعالم الرقمي ، و غالبا ما يكون الهاتف النقال خير جليس و لو في لحظات تواصل إجتماعي مباشر مع أفراد عديدين .
و بالتالي السؤال الذي يفرض نفسه بقوة حاليا يرتبط بمدى وعي و إدراك المبدعين الحسانيين لهذه المستجدات و مدى مواكبتهم و مسايرتهم لهذه المتغيرات .
إن تبني نظرة واقعية تمتح من متغيرات العصر و إختلاف متطلبات و إهتمامات المتلقي بات ضرورة قصوى للحفاظ على الموروث الثقافي الحساني، جزء أساسي لا يتجزأ من الهوية المغربية الأصيلة ؛ و لا يمكن تحميل المسؤولية فقط للمبدعين ، بل هي مسؤولية مشتركة تجمع العديد من المتدخلين بما فيها الجهات المعنية بالشأن الثقافي محليا و وطنيا .