لاَ بُدّ أن أؤكّد، بادئَ ذي بدءٍ، ضرورةَ فهمِ السّياقِ التّاريخيّ والفلسفي لرواية” الغريب”، إحدى الرّوايات الأكثر ترجمة وقراءةً عبر العالم وهي على سبيل الذِّكْرِ أوّلُ عملٍ روائيّ يكتبهُ “كامو” Camus.
شاهدتُ على اليوتوب مجموعةً من الفيديوهات الّتي تحاولُ أنْ تُقدّمَ تحليلا وتأويلاً للرّواية، لكنَّ جُلَّها لاَ يعدو أن يكونَ تحليلا سطحيّا يفتقر إلى أبسط شروط التحليل الفلسفي والرّوائي.
هناك من بدأ بتقديم نقدٍ ضعيف وهو لم يقرأ الرّواية أصلا بل ما يعرفهُ عنهَا مُجرّد تَمثّلاتٍ كَوّنَهَا من خلال ما سمعه هنا وهناك، وآخرون يشتكُون من خُلوّ الرّوايةِ من أيّة شخصياتٍ رئيسةٍ وثانويّةٍ وكذا من الحدثِ المفاجئِ والعقدةِ والحلّ؛ أي أنها لا تَحتكمُ إلى النسق السّردي الكلاسيكي الّذي سار عليه الأدباءُ الرّومانسيّون ك” فكتور هوكو”Victor Hugo و” ألفريد دي موسي” Alfred de Musset والواقعيّون ك ” غوستاف فلوبير” Gustave Flaubert و ” بلزاك Balzac و أصحابُ المذهب الطّبيعيّ ك” زولاَ Emile Zola. وهذه ملاحظةٌ جليٌّة، إذ أنّ ” كامو” لا يودُّ من خلال روايتهِ أن ينتقدَ سلوكا مجتمعيّا معلوماً أو ظاهرة معينة أو أن يدافع عن قضيّة سياسية أو اجتماعيّة؛
فعبثيّةُ” كامو” ليست مجرّد سردٍ مُتسلسلٍ تُحرّكهُ أحداثٌ وشخصيّاتٌ في قالبٍ روائيّ له بدايه ونهايةٌ. عبثية” ألبير كامو” فكرة جديدة، لذلكَ كان من المنطقيّ والمُنتظرِ أن تكون غريبة ومُستعصيّة الفهم و لا يُمكنُ البتّة أن تُوضع في قالبٍ سرديّ كلاسيكي لأنّها ليست قصّةً معروفٌ مُستهلُّهَا ومُنتَهاهَا، بل فكرة فلسفيّة خصّص لها ” كامو” رواياتٍ ومسرحيّاتٍ وكتاباتٍ نظريّة ليشرحهَا قليلاً.
كان من الطبيعيّ أن يَخلقَ قالباً روائيّا جديدا وغريباً كَجِدَّة وغرابةِ الفكرة الفلسفية التي أَوجَدها.
سمعتُ أيضا مُقدّمَ محتوى على اليوتوب يقول إنّ رواية الغريب( L’ Étranger ) روايةٌ لا فائدة تُرجى منها ، والغريبُ أنّهُ استنتج هذا وهو لمْ يقرأ منها إلاّ بضعَ صفحاتٍ. وهنا يقعُ في الفَخ! فكما يقول صديق ” كامو” ورفيقهُ في النّضال وقريبهُ في الفكر الوجوديّ ” سارتر” فإنّ القارئ ما إنْ يُلقِي نظرةً على الرّواية حتّى تصدمهُ طريقة الكتابة فيخرجُ بنتيجة مفادها أنّ الرّوايةَ غريبة وهذا بالضبط هدفُ” كامو” ألا و هو أن يُحسّ القارئ بغرابة الرّواية وخروجها عنِ النّسق الفكريّ والسّردي المألُوف(L’ étrangeté de l’écriture choisie par Camus)
هذه هي بالذّات الخطوةُ الأولى ليغوصَ القارئ في مفهوم العبثيّةِ التي هي أساس فلسفةِ ” كامو” ( L’ Absurdité )
أعود وأقولُ أنّ من يقرأ أيّ عملٍ أدبيّ وفلسفيٍّ خارجَ سيّاقهِ التّاريخيّ فقد ارتكب خطأً منهجيّا فظيعاً؛ فكما أن الكلامَ لا يَأْخذُ معناه الحقيقي إلّا داخل سياقٍ تواصليّ مُحكَم، فنفس الشّيء ينطبقُ على الأعمال الأدبية والفلسفيّة التي يجبُ أن تُقرأ في سياقها وإلاّ فإنّنا سنصدرُ في حقّهَا حُكماً غيّابيّا ظالماً.
بعد أن وضعتِ الحربُ العالميّة الثّانيّة أوزارها، وَجدَ الإنسان نفسه تائها وسط خرابٍ مادّيّ ونفسيّ يُمزّقهُ تمزيقاً، هذا الخرابُ الذي خلّفهُ طُغيانُ الإنسانِ ووحشيّتُهُ دفع بإنسانٍ ما بعدَ الحربِ إلى طرحِ تساؤلات وُجوديّةٍ وميتافزيقيّةٍ عميقةٍ كمحاولة منهُ لفهمِ واستيعاب أسباب هذا الخرابِ ومصير الإنسان الذي يرضخ تحتَ وطأتهِ. بعد الحربِ، وجد الإنسانُ نفسه في مواجهة عالمٍ بئيسٍ خالٍ من أيّ معنى، عالم أُوتوقرَاطِيٍّ تحكمهُ العبثيّة ويُسيطرُ عليه التّيهُ والضّياعُ. من هذا المنطلقُ ففلسفة ” كامو” بصفة عَامّة ورواية” الغريب” بصفةٍ خاصّة تُجَسّدُ بعمقٍ فلسفيّ وفي قالبٍ سرديّ- وصفيّ لاَفت للِنّظر هذه العبثيّة التّي وقعَ ضحيّتها إنسانُ ما بعدَ الحرب، حيثُ أنّها كانتِ السبب الّذي تساءلَ بمُوجبه عن معنى الحياة و مصير الإنسان وعن جدوى الإله.
” مورسو” Meursault يُجسّدُ في رواية ” “الغريبِ” ذلكَ الإنسان الغريب ليس عن مجتمعه فحسب بل عن نفسه أيضا، لكّنهُ مثالٌ للإنسان الرّافضِ لقيودِ المُجتمعِ وصُورهِ النّمطيّة وقواعدهِ الجاهزةِ الّتي يجبُ أن يسير على منوَالهَا؛ الإنسان الثّائرُ الّذي فهمَ أنّ الحياةَ عبثيّة ولاَ معنى لها إذا استسلمنا وخضعنا للمعنى الّذي أُريدَ لنَا أن نعيشَ بهِ الحياةَ؛ أما إذا فهمنَا واستوعبنا أنّ الحياةَ لها معنى واحدٌ وهو ذلكَ الّذي نَخلُقهُ بأنفسنا ولِأنفُسنَا، إذّاك نكونُ قد فهمنا الحياةَ. فلسفة كامو ترتكز على العبثيّة وعلى الثّورة و” كامو” قسّمَ فلسفته إلى مرحلتين( يمكن أن نقول ثلاث مراحل ) ؛ مرحلة العبثيّة ومرحلة الثّورة، وروايةُ “الغريب” تندرجُ ضمن المرحلة الأولى من مشروعهِ الفلسفيّ (Cycle de l’Absurde et Cycle de la Révolte)