* قصة قصيرة
-“اغمض عينيك وتخيل مفاجآت سارة، فما ستراه في مخيلتك هو ما ستحصل عليه في الواقع”، قال العفريت لصاحب الخاتم الذي خرج منه توا.
لم يصدق المعطي أن الخاتم الذي اشتراه بخمس دراهم من سوق المتلاشيات سيكون بداخله عفريت يسكنه… خاتم جميل، مظهره بديع، مرصع بحجر اللبان الحر، لفت انتباهه من بين كل الأشياء البالية والمستعملة المعروضة للبيع على قارعة الرصيف. وبمجرد ما إن وقعت عيناه عليه حتى وقع في غرامه وقرر شراءه. وحينما أخبره البائع بثمنه، عجوز سبعيني، قسىا عليه الزمن وقسم ظهره، لم يكن في جيب المعطي سوى خمسة دراهم، هي كل رأسماله، قبلها منه العجوز رغم أنه طالبه في البداية بعشرين درهما ثمنا للخاتم. خمسة دراهم هي كل ما تبقى للمعطي من أجرته الشهرية كأستاذ متعاقد للتعليم الإبتدائي. كغيره من أبناء الطبقة الوسطى، تضرر المعطي كثيرا من الغلاء الفاحش، وكل يوم يشعر بنفسه يتقهقر وينزلق نحو الطبقة الفقيرة.
-“لا بأس نحن في آخر الشهر”، قال المعطي في خلده.
المعطي غير متزوج، فلو كان لديه زوج وأبناء لما استطاعت أجرته أن تعمر أكثر من أسبوع واحد، ولاختفت بسرعة ذوبان الملح في الماء الدافئ.
بمجرد ما لمس المعطي الخاتم لأول مرة، ووضعه في بنصره، حتى خرج منه العفريت قائلا له بصوت جهوري:
-“شبيك لبيك عفريتك بين يديك!”.
ارتعدت فرائص المعطي خوفا ورهبا، والتفت يمينا ويسارا، ثم حدق مليا في البائع، ثم في المارة… يبدو أن لا أحدا يبالي بما حدث، فقال له العفريت:
-“لا تخف لن يمسك مني ضير، فأنا خادمك، ولا تقلق فلا أحد يراني سواك“.
-“ما اسمك؟”، سأله المعطي.
تعجب العفريت من سؤاله، لم يكن يتوقعه. أجابه قائلا:
-“اسمي العفريت شبايشا سكرو كودان، سلطان ممالك البحار السبع… نادني فقط بشبايشبا“.
-“إن كنت حقا ملكا، فلماذا أنت مسجون في خاتم؟”، سأله المعطي مرة ثانية.
-“لقد عاقبني الملك شلومو بأن ألقى علي تعويذة أصابتني بلعنة، ثم احتجزني على إثرها في خاتم، وبعثني مع طائر الهدهد إلى أقصى مكان في المعمور، يقع عند مغرب الشمس“.
-“وهل المغرب هو أقصى مكان؟“،
-“نعم، إنه كذلك في زماني… فقد كان سجن مولاي شلومو يرسل إليه العصاة من المردة والعفاريت، والجن، وحتى الشياطين أبناء إبليس، الذين رفضوا الخضوع له، لم يسلموا من عقوباته الحبسية“.
ليس كما اليوم فقضاء الملك سليمان لم يشوبه الفساد، مجاني وغير مكلف، لم يتحول إلى تجارة؛ إذ كان سريعا، فعالا وعادلا، لا يحتاج إلى تعقيد وسائل الإثبات وتكرار استدعاء الشهود ولا إلى ترافعات المحامين، ولا حتى إلى استئناف الأحكام، إلخ.
لطالما ردد المعطي على نفسه سؤالا محوريا، يتدلى منه عدد من الأسئلة الفرعية التي لا يستهان بها، دون أن يجد لها جوابا: من تكون زوجة إبليس؟ ما اسمها؟ فإذا كنا نحن ننحدر من آدم وحواء، مِن مٓن تنحدر الشياطين؟ من تكون أمهاتم الأولى؟ ثم كيف، انطلاقا من أب واحد مشترك هو إبليس، تطور نسله الى أصناف مختلفة، فهناك الشياطين والجن والعفاريت والمردة وقُرَنَاء؟
حينما طرح المعطي هذه الأسئلة على شبايشبا، تلقف منه بتعطش كبير الجواب التالي، لكنه صدم جدا من مضامينه:
-“لقد خرجت توا من سجن قضيت فيه ما يقارب الثلاثة آلاف سنة، بلا أكل ولا شرب ولا جنس، ورأسي يؤلمني… أشعر بالجوع… أشعر بالعطش… أشعر بالغضب، فلا ترهقني بأسئلة لن تفيدك أجوبتها في شيء“.
تأسف المعطي لحاله، واقتسم معه ما كان في كيسه من مؤونة، شكره العفريت على تصرفه النبيل، ثم قال له:
-“غذاؤنا يختلف عن غذائكم… نحن نتغذى على خطاياكم،”، ثم قصفه بوابل من الأسئلة من قبيل:
هل زنيت مؤخرا؟ هل أنت عاق بوالديك؟ هل أكلت مال اليتيم؟ هل حرمت أختك من الميراث؟ هل اختلست أموال الشعب؟ هل شهدت بالزور؟ هل خنت الأمانات؟ هل تعتدي على زوجتك وتسوء معاملتها؟ هل أنت من أتباع قوم لوط؟ وعن كل سؤال يجيب المعطي بالنفي القاطع.
-“إذن لن تستطيع إشباعي… سأظل صائما إلى حين”، قال له العفريت.
صمت شبايشبا قليلا، قبل أن يردف قائلا:
-“لا تبدو عليك الحماسة لحصولك على خاتم سحري“.
رد عليه المعطي وقال:
-“على العكس، أنا في غاية السعادة“.
وفعلا، فقد فرح المعطي بالخاتم أيما فرح، فقد ظن أن مغارة علي بابا قد فتحت له، وأنه سيغترف من قِدرة السعادة بيديه وبرجليه، لكنه نسي أن أمام كل مغارة يوجد أربعون حراميا يتربصون بها.
سأل المعطي العفريت وقال له:
-“هل هذا هو خاتم سليمان؟“.
ضحك العفريت وتعالت قهقهاته عاليا كصدى الرعد، وقال له:
-“لا… إنه مجرد خاتم ملعون!”.
-“حدثني قليلا عن لعنتك”، قال له المعطي.
-“اللعنة بأن حبست داخل خاتم، وجُعلت مسألة تحرري بيد أحد حفدة الملك شلومو، الذي كان نبياً أيضا، له سمات ومواصفات خاصة… ويبدو أنه أنت، فتمنى فإن طلبك مجاب بإذن أدوناي”، رد عليه العفريت شبايشبا.
-“ومن يكون أدوناي هذا؟”، سأله المعطي.
-“إنه مولاي وسيدي”، ثم صمت العفريت قليلا…
بعد ذلك انحنى عند المعطي وهمس في أذنه قائلا:
-“إنه يهوا، رب الأرباب وسيد جميع الأكوان“،
-“سبحانه لا إله إلا هو، تقدست وتعالت أسماءه”، قال المعطي معقبا على كلامه.
-“صه… صه… فنحن قوم يُحرم علينا تلفظ اسمه جهارا تقديسا له وتبجيلا“،
-“وما هي ديانتك؟“،
-“كنت أدين بديانة جدي الأكبر إبليس، لكن بعدما صرت خادما للملك شلومو، اعتنقت تعاليمه”، أجاب العفريت عن سؤاله.
أراد المعطي أن يسأله سؤالا آخر، فمازال في جعبته الكثير من الاستفسارات بخصوص عائلته، وعن شكل مملكة إسرائيل في عهده، وهل تشبه في شيء إسرائيل اليوم، وعن النبي سليمان، وكيف كان يسوس البلاد والأمصار التي دانت له، وكيف تحكم في الجان، وكلم الطير في السماء وأنطَق الحوت والسمك في كبد البحار، إلخ. لكن العفريت أوقف شلال الأسئلة المتدفق من ينابيع المعطي، بعد أن قال له:
-“توقف… يكفي. تمنى يا هذا فلن نمضي اليوم بطوله نلغوا“.
-“عفوا، اسمى المعطي ولد القابلة“،
-“لا يهمني في شيء اسمك، كل ما يهمني هو استعادة حريتي”، رد عليه العفريت وقد مسه ضجر كثير من أسئلة المعطي التي لا تنتهي…
-“هل لي أن أتمنى أي شيء؟”، سأله المعطي.
-“لك الحق في أن تتمنى ما تشاء… اغمض عينيك وتخيل ما تريده، وسترى. في المقابل، لي الحق في أن أستجيب لأمنية واحدة سأختارها بعناية من بين أمانيك”، قال له شبايشبا.
-“أي عفريت أنت إذا كنت غير قادر على تلبية وتحقيق كل أمنياتي؟“.
-“هذا رحمة بك، إذ لا يمكنني تحقيق ما لن تطيق تحمله… هيا اغمض عينيك وتمنى”، رد عليه شبايشبا.
-“في الواقع، لدي أمنية وحيدة، لا غير” ، قال له المعطي.
-“هذا لا يجوز… ليت الأمر بيدي، تعويذة الملك شلومو تقتضي بأن تفكر في جملة من الأماني”، صمت العفريت قليلا، ثم قال له:
-“بدأ وقتي ينفذ… لا أريد أن أعود مرة أخرى إلى الخاتم، لن أتحمل ثلاثة آلاف سنة أخرى من الأسر“.
تبختر الرجل، وأخذ يتمايل في غنج بعد أن أصابه الغرور، إذ حينما أخبره شبايشبا بذلك، شعر بأنه في موقع قوة، يخول له مساومة العفريت ، فقال له:
-“أنت تحتاجني، فحريتك مرهونة بموافقتي… لا بأس، أنا متضامن ومتعاطف معك”، ثم أغمض عينيه.
-“لا أرجو منك ذلك… إنها منفعة متبادلة، أنت ستستفيد وأنا أيضاً”، رد عليه شبايشبا، ثم أردف في خلده قائلا:
-“انتظر حتى أنال حريتي، وسأعلمك كيف يكون أدب التحدث مع شبايشبا، ملك ملوك ممالك البحار السبعة“.
-“لكن بشرط!”، صاح المعطي.
فاجأ المعطي العفريت حينما جعل موافقته مقرونة بتنفيذ طلبٕ له، يتعين على شبايشبا قضاءه حينما تصير أجنحته حرة طليقة من القيود ومن الأغلال؛ رافضا في آن أن يكشف له عن مضمونه وفحواه.
وافق العفريت على طلبه دون أن يبدي أدنى تردد، ودون حتى معرفة ماهيته؛ ثم شرع يوسوس في صدر المعطي ويختلس ما يختلي نفسيته من هواجس وأمنيات ورغبات، بيد أن مسامعه عجزت عن التقاط أي شيء، إذ لم يسمع سوى هزيز الرياح.
-“تعويذتك جد قوية، توقف عن إلقائها، حتى يمكنني سماع ما يدور في خلدك”، قال له العفريت.
عندئذ رد عليه المعطي قائلا:
-“إنها ليست بتعويذة، وإنما هي المعوذتين. ألا علم لك بهما؟“.
ثم شرع المعطي في تلاوة سورة الإخلاص، فأحس العفريت بسخونة غير طبيعية تنتاب جسده، ثم قرأ بعدها سورة الفلق، فاستعر رأس العفريت واشتعل نارا، وزادت لهيبها.
-“كفى، كفى… أرجوك توقف!”، صاح العفريت في توسل فاضح للمعطي، قبل أن يقول في نفسه: “غريب، كيف للنار أن تؤذيني وأنا منها؟“.
أطل عليه من الرجل اليسرى للمعطي كائن غريب وعجيب، قبيح المنظر، ذميم الخُلق، قصير القامة، لا يتعدى طوله الشبر الواحد، وقال له: “حتى تحس بحجم معاناتي اليومية مع هذا الإنسي… هلا حررتني منه؟“.
-“من تكون أيها النحيف؟”، سأله العفريت.
-“أنا قرينه… من فصيلة المردة”، أجاب القرين بصوت خافت.
رد العفريت على طلبه المساعدة قائلا له:
-“لم أحرر حتى نفسي، فأنى لي أن أحررك؟ ثم كما عرفت عن نفسك، فأنت قرينه ولن تتحرر إلا بمماته“.
-“اقتله إذا!”، قال له القرين.
-“لشدة ارتباطك به أصبح تفكيرك بشري”، صمت العفريت قليلا، نظر مليا إلى المعطي ثم أردف قائلا:
-“ثم إن قتلته من سيحررني عندئذ؟“.
-“لم أعد أطيقه، لقد قهرني بالزيتون الأسود، يتناوله كثيرا، إضافة إلى البيض المسلوق”، قال له القرين.
-“إن شئت بمقدورك أن تمنعه من تناول الأطعمة التي لا تحبها“،
-“نعم، أصيب بالشقيقة كلما هم بتناول تلك الأطعمة، لكن عبثا دون جدوى… الرجل مدمن أكل زيتون أسود وبيض! ولا أحدثك عن الرائحة المنبعثة من جوف بطنه… إنها نتنة ومقرفة“.
انغمس شبايشبا في حوار مع القرين يسأله عن آخر أخبار ممالك الجن، وعن شكل العالم ومشاكله وحروبه وصراعاته، ونسي أمر المعطي وشأنه، الذي ظل واقفا مشدوها يتأمل غرابة العفريت وسلوكه الجنوني. القرين غير مرئي للمعطي، فكل ما يرى هو شبايشبا يكلم نفسه كالمعتوه.
-“هيه… نحن هنا!”، نادى المعطي على العفريت دون أن يبالي به ولا بنداءه.
-“سبحان الله… أين سرحت؟ لقد كنت تهذي بمفردك… للوهلة الأولى اعتقدت أنك قد فقدت رشدك… هل في عالمكم المجانين والحمقى والمجرمون والقتلة السفلة كما عندنا؟”، قال له المعطي.
ثم سكت عن الكلام، ينتظر جوابا منه، بيد أن العفريت ظل بدوره ساكتا صمت القبور، وساكنا سكون الهدوء.
-“هيا قم بعملك… أرني وأبهرني بمعجزاتك! لقد تمنيت وانتهيت”، خاطب المعطي العفريت.
خرج شبايشبا عن صمته، ورد عليه قائلا:
-“للأسف لم أستمع شيءً مما قلته في خلدك… فقد أبقاني قرينك منشغلا عنك“.
-“أليس هذا هو دوره؟ الإغواء والتضليل”، ثم أضاف:
-“الآن عرفت لماذا أنزل النبي سليمان عقابه عليك… أنت عفريت فاشل، فاقد للتركيز، ومستهتر ومتعجرف”، قال له المعطي.
طلب العفريت من المعطي أن يغمض عينيه، وأن يسترجع شريط أمنياته من جديد في مخيلته، قبل مكرها وعلى مضض، فليس بيده حيلة. المعطى يرغب في كل شيء، تمنى في البداية الغنى والجاه والسلطة، وأن يتبوأ مكانة مرموقة ضمن علية القوم، غير أنه تراجع عن ذلك، وقال في خلده: “المال لا يشتري الصحة، ولن يشفي والدتي..
الصحة هي أهم شيء”، أخذ يفكر مليا، ثم تمنى لنفسه الصحة والعافية وطول العمر ولوالدته الشفاء من مرض السرطان. صمت لبعض الوقت وعاد ليفكر مليا…
-“ما الذي ينقصني؟ ما الذي احتاجه حقا؟” قال في خلده. الإجابات التي اهتدى إليها قادته إلى أن يتمنى بأن يصير كاتبا معروفا ومشهورا تتهافت عليه دور النشر العالمية وتتسابق عليه وسائل الإعلام لإجراء مقابلات معه؛ تمنى المعطي أيضاً، من كل قلبه، أن يتم عزل وزير التعليم الحالي، وأن يتم التراجع عن تنفيذ النظام الأساسي الخاص بأساتذة التعليم العمومي.
سمع شبايشيا كل ما دار في خلد المعطي، استعد للحظة الحسم بأن ملأ صدره أوكسجينا، ثم أغمض عينيه مطلقا زفرة عميقة، نافخا في آن في يديه، ثم قال:
-“باسمك المقدس يا أدوناي!”.
فتحركت رياح هوجاء اقتلعت المعطي من مكانه، وتطاير كما يتناثر ريش النعام في الهواء، فأمسكه العفريت من قدمه وأعاده إلى ثابت الأرض.
ألقى المعطي نظرة من حوله، فوجد الفوضى قد عمت الفضاء، بعد أن اقتُلِعت خيام الباعة من ثوابتها وتحطمت دعاماتها، وتشتت السلع المعروضة على أرضيتها.
-“أقدامك أقدام شؤم ونحس… اللهم إني أسألك حسن الخاتمة من هذا العفريت”، قال المعطي رافعا عينيه صوب السماء، متضرعا للعلي القدير.
لم يلتفت إليه العفريت، الذي دخل في موجة هستيرية من التشنج والاضطرابات الذهنية، وكأنه بصدد تلقي الوحي.
وما هي سوى لحظات حتى استرجع العفريت وعيه، ثم مباشرة توجه نحو المعطي وقال له:
-“لا يمكنني أن أجعلك ثريا، فالأرزاق بيد أدوناي يقسمها ويوزعها بعلمه الخبير على من شاء، ولا دخل لي فيها“،
-“طيب، والسلطة؟”، سأله المعطي.
-“لا سلطان لي على المُلك… المُلك بيد أدوناي هو الذي يمنحه لمن شاء وينتزعه منه متى شاء“،
-“سبحانك يا منان ، وكأنك تتلو صحفا مطهرة من القرآن”، قال له المعطي.
-“وما هو القرآن؟”، سأله العفريت.
-“إنه كلام الله الموحى لنبيه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم”، أجابه المعطي.
انقلبت الصورة، وأصبح العفريت هو من يثقل على المعطى أسئلةً، فسأله في لهفة وبتوهج:
-“وهل بعث كثير الحمد والثناء، محمدين؟“.
-“نعم، منذ ما يزيد عن 15 قرنا… طيب لا تدخلني في متاهاتك، ولنعد إلى موضعنا… قد علمنا أن السلطة لا سلطان لك عليها، وأن الملك لا تملك فيه شيئا… فماذا عن الجاه؟“.
رد عليه شيايشبا قائلا:
-” الجاه هو أيضاً من عند أدوناي، ينتفع به من له جاه فقط“.
أحبط المعطي من جواب شبايشبا، ولاحت له في الأفق فكرة إعادته للخاتم، صبر قليلا، وتمسك ببصيص من الأمل لعل في جعبة العفريت بعضا من قدرة على الشفاء.
-“طيب، أخبرني ما الذي بمقدورك أن تحققه لي؟“.
-“ليس بمقدوري شفاء والدتك، فالصحة كما المرض والشفاء من عند أدوناي وحده… وليس لي قدرة على تنصيبك وزيرا، فللملوك شياطينها الأقوياء وأنا مجرد عفريت ضعيف ، لا حول لي ولا قوة لمواجهتم… في الحقيقة أنا عاجز عن تحقيق أية أمنية من أمانيك“.
قال العفريت ذلك، ثم دخل في صمت مريب، فقد اغرورقت عيناه بالدموع.
-“أرجوك، لا تبكي… ستتفتق منك سيول جارفة من الدموع، ستغرق المدينة بأسرها، ففي قلبك فيضان من الهم والغم”، قال له المعطي.
أردف شبايشبا مواصلا حديثه:
-“في الواقع، كذبت عليك أنا لست بملك ولا وجود لمملكة الممالك السبع ولا العشر إلا في مخيلتي، ولست ملكا حتى على نفسي. لقد أصَبت كبد الحقيقة حينما قلت عني عفريت فاشل، ولهذا عاقبني الملك شلومو، ووضعني في سجن أبدي، لأني غير نافع، ولعلمه بضعفي وبعجزي عن تحقيق أية أمنية من الأماني… إنه سجن مؤبد، لا يفتح سوى كل ثلاثة آلاف سنة“،
ثم صمت العفريت قليلا بعد أن شعر بغصة في قلبه، تنهد عميقا…
عندئذ تدخل المعطي وتكلم معه بكل تُؤَدَةٍ وتمهل:
-“تنفس بهدوء ورويَّة… أنا لست بطائر، وغير مستعد للتحليق في السماء مرة ثانية!”.
أردف العفريت قائلا:
-“نحن العفاريت ليس مثل الجان والشياطين، قدراتنا على التأثير محدودة، نحن أشبه بالخدم، نقوم بتنفيذ أوامر وتعليمات الجان… في عالم إبليس نحن نحتل مراتب دنيا… والحقيقة المرة أني عفريت تافه، بل وأتفه من التفاهة نفسها، لا يمكنني تحقيق سوى الأماني التافهة“.
-“مثل ماذا مثلا؟”، سأله المعطي.
-“مثل أن أجلب لك بيضا مسلوقا، أو قطعة جبن أو لحم كاشير، المهم، أشياء بسيطة من هذا القبيل“.
-“يا لحظي التعيس… لا فرق بينك وبين حكومتنا، كلاكما مليء بالهراء وبالوعود الكاذبة”، قال المعطي، ثم أزال الخاتم من إصبعه.
-“أرجوك، لا تلقيني أرضا… ستعيدني إلى شقائي”، قال له العفريت متذللا متوسلا.
انفجر المعطي في وجهه غاضبا، وقال له:
-“ماذا تريد؟“.
انقلبت الآية، وصار الوضع معكوساً، المعطي هو من سيحقق أماني العفريت، ومن سخرية القدر أن للعفريت أيضاً أمنية واحدة، تماما كما كان الوضع مع المعطي، وأمنيته أن يغادر الخاتم بلا رجعة وأن يصبح حرا طليقا. هكذا سيستعيد كرامته، هو طريق واحد يتعين سلكه، ولا يوجد طريق آخر غيره.
-“ألم تقل بأنك متضامن معي ومتعاطف… كن متعاونا معي وتمنى أشياء تافهة. أرجو، ساعدني”، قال له العفريت.
رد عليه المعطي بجفاء:
-“تذكرني بتصرف ساساتنا حينما يقترب توقيت الحكومة من ساعتها الأخيرة… يغازلوننا بقرارات غاية في التفاهة، ويتذللون في سبيل الظفر بأصواتنا… للأسف ذاكراتنا كذاكرة السمك، ننسى سريعا… لن أسقط في هذا المطب”، وهم بإلقاء الخاتم أرضا.
للمرة الثانية، العفريت يتوسل المعطي ألا يقدم على ذلك، إذ خاطبه قائلا:
-“أرجوك… لا تفعل ذلك… كن رحيما بي“.
ثم شرع شبايشبا في مغازلة مشاعر المعطي ويدغدغها بالعبارات المنمقة وبالجمل المصفوفة والمرتبة بمكر ودهاء. لكن مع من؟ إنه المعطي ولد القابلة، وما أدراك ما تربية القابلة!
أدرك المعطي حيلة العفريت، لم تنطو عليه، فخاطبه قائلا:
-“أنت عفريت خبيث ولئيم، لو توسم فيك النبي سليمان الخير ما أمر بحبسك ونفيك… إن الأنبياء لا يتصرفون من تلقاء أنفسهم، وإنما بتوجيه من الله سبحانه وتعالى، ونحن أحق منكم بإتباع تعاليم سليمان، وداوود وموسى وهارون، وغيرهم من أنبياء بني إسرائيل… قوتنا في ديننا، وفي عدم عصيان ربنا ولا أمرا من أوامر أنبياءه المبعثين ورسله المرسلين”، ثم أسقط الخاتم من إصبعه بكل ما أوتي من قوة،
أخذت سحنة العفريت تتبدل وتتلون بألوان قاتمة، وجسده ينكمش، ويصغر ويتضاءل، عائدا بالوراء نحو قدره المحتوم، صائحا في وجهه المعطي:
-“أيها الحقيييييير… لقد خذلتني، عليك لعنات إبليس إلى يوم البعث!”.
وما هي سوى بضع هنيهات حتى لم يعد للعفريت وجود، فقد امتصه الخاتم وابتلعه عميقا داخل دوامته.
غير المعطي رأيه، انحنى قليلا، والتقط الخاتم من الأرض، ثم وضعه في جيبه وانصرف لحاله. وهو قابع في سجنه، استشعر العفريت ذلك، ففرح كثيراً لقرار المعطي واستبشر به خيرا. وهو في طريقه نحو مستقره، عزم المعطي على التخلص من الخاتم. وحينما ولج حجره، شقة صغيرة، عبارة عن مربع اسمنتي ضيق، أشبه بالقبر، مما يطلق عليها توصيفا كاذبا ومضللا بالسكن الإقتصادي، أول ما قام به هو أخذه لمطرقة وهوى على الخاتم بضربة عنيفة قاسمة تكسر على إثرها حجر اللبان وتشتت أرضا وتعجن معه الخاتم. بلغ إلى مسامع المعطي صوت شبايشبا من داخل قلب الخاتم وهو يتألم ويتوجع، سمعه يقول: “آه قلبي! الحقير حطم أضلعي“.
اختلط صوت شبايشبا مع صوت الخالة اعشوسة، جارته السفلى وهي ترغي وتزبد ضده، وتخاطبه من نافذة مطبخها وتقول له بالعامية:
-“باركا ما تدق علينا أسي المعطي… هانتا هتريب علينا العمارة!”.
ذهب المعطي بعيدا في تعامله مع الخاتم، فبعد أن جعله مهشما ومسطحا، قرر إذابته، لم يكتشف شبايشبا نية المعطي ومقصده في التخلص منه نهائيا إلا بعد أن وضع الخاتم على المقلاة فوق النار. فشرع العفريت يستغيت ويستنجد بأسماء إبليس المشينة، لكن هيهات بعد فوات الأوان وكان ما كان… وفي لحظة يأس، وبعد أن أيقن أنه هالك لا محالة، فاجأ العفريت المعطي بأن خاطبه بالعامية المغربية، بلكنة شمالية لا تشوبها شائبة، قائلا:
-“يا ولد الحرام!”،
فقاطعه المعطي قائلا:
-“أنت هو اللقيط، اما أنا فاعرف من أكون، ومن هم أجدادي، ومن هم والدي“.
-“ياك أولد الحرام… با راسا بودريدا، كتقتلني وكتقاطعني، بعدا خليني غير ببرد على قلبي قبل منموت… كيفاش طاح عليك تذوبني يا لحرامي… إبليس وماتطيحش عليه هاد الفكرة… فعايل دولاد الحرام مقطرين، جمعتي ما بين دهاء الشلوح والتحراميات دليهود والتطاور ديال سواسة والرجولة ديال روافة والصبار ديال جبالة“.
رد عليه المعطي غير آسف على مصيره:
-“هذا هو المغربي! إلى جهنم وبئس المصير“.
وهو يلفظ آخر أنفاسه، قال له شبايشبا بصوت خفيض:
-“طلعتي نتا لي عفريت، ماشي أنا… ولد الحراااااااااام