قدم وزير العدل المغربي السيد عبد اللطيف عرضا بمؤسسة الفقيه التطواني بمدينة سلا تحت عنوان: “لا أحل ما حرم الله ولا أحرم ما أحل الله” بين الدلالة الشرعية والتوظيف الإيديولوجي، و ذلك يوم 18 أبريل 2023، من خلال ستة أسس.
في ما يلي نص العرض الذي أثارا نقاشا واسعا سواء على مواثع التواصل الاجتماعي او لدة الدعاة و الفقهاء.
“أود في البداية تقديم جزيل الشكر لمؤسسة الفقيه التطواني على هذه الدعوة الكريمة لتقديم هذه المحاضرة حول موضوع: “”لا أحل ما حرم الله ولا أحرم ما أحل الله”: بين الدلالة الشرعية والتوظيف الإيديولوجي”، والتي جاءت بعد المحاضرة الأولى التي احتضنتها المكتبة الوطنية بالرباط، ضمن سلسلة من محاضرات ارْتَأَيْتُ أن أوسع النقاش والتداول من خلالها حول أهم قضايا وإشكاليات الحريات الفردية والجماعية ببلدنا، وقضايا الأسرة وقوانينها في صلتها بثوابت الأمة المغربية ومقومات شخصيتها الحضارية المتعددة الأصول والروافد.
وذلك في إطار من المراعاة والوعي بمقتضيات الواقع ومتغيراته، وما يفرضه من تحديات وإكراهات، لما فيه تحقيق الصالح العام، والمحافظة على السلم المدني والاجتماعي، وَالإِعْلاَءِ من قيم الحرية والعدالة والتقدم، في توازن يراعي الخصوصية التاريخية والحضارية، والتعاقد الشرعي والمدني بين الدولة ومواطنيها، مع الوفاء للقيم والمقاصد العامة للدين الإسلامي الحنيف، وذلك في انسجام تام مع المقتضيات الدستورية والالتزامات الدولية لبلادنا في مجال حقوق الإنسان بصفة عامة، وتحقيق المساواة وعدم التمييز بين الرجل والمرأة بصفة خاصة.
وقد كان الخطاب الملكي السامي بمناسبة عيد العرش لسنة 2022 واضحا في أن أي عملية إصلاح أو تعديل تشريعي متعلق بالأسرة لا يمكن أن تتعارض مع هوية الدولة وثوابتها الدينية، وهو ما عبر عنه جلالته بالقول: “لن أحل ما حرم الله، ولن أحرم ما أحل الله، لاسيما في المسائل التي تؤطرها نصوص قرآنية قطعية”. مبرزا جلالته أهم منطلقات الاجتهاد والتجديد في هذا السياق، وكذا أهم مداخل وآليات الإصلاح كما سوف نرى.
ومع ذلك فقد تم توظيف هذه المقولة المعبرة عن الالتزام بمبدأ الشرعية؛ توظيفات حرفتها عن روحها ومقاصدها ووظيفتها الأسمى في تأطير الاختلاف، ورفع الخلاف، تحقيقا لوحدة الأمة بمختلف مكوناتها؛ كفالة لحقوق أفردها وضمانا لحرياتهم وكرامتهم.
إن الاحترام الواجب لجلالته يقتضي منا كسياسيين، أو كمفكرين وحقوقيين، أو كفاعلين مدنيين وغيرهم، ألا نتعامل مع خطبه وتوجيهاته بنوع من الانتقائية السياسية، أو لتصفية حسابات سياسوية أو فكرية صغيرة، فجلالة الملك يخاطب الأمة بصفته أميرا للمؤمنين، وبذلك فخطبه وتوجيهاته تكمل بعضها البعض، وتسعى نحو الأفق والمطلق، وليس إلى الجزئيات؛ كما أن لخطب الملوك دلالات كلية لما يأمرون به، لذلك لا تقحم خطبهم وتوجيهاتهم ضمن تلك المنازعات الضيقة التي يسعى إليها الذين لا تهمهم سوى المكاسب السياسية الصغيرة.
إن الإجماع حول جلالته يقتضي منا كثيرا من الاحترام والتواضع، والترفع عن التوظيف والاستغلال المقيت لبعض الكلمات لتحقيق انتصارات وهمية، لأن الإجماع الذي حول جلالته يجعل المغاربة يتفهمون مقاصده وأهدافه ولا يمكن أن يزايد عليهم أو يغلطهم أي كان. لذلك تجدني اليوم مضطرا للحديث حول هذا الموضوع، إسهاما مني في إشاعة الوعي بالمغزى الحقيقي لمبدأ الشرعية، والنَّأْيَ به عن كل أشكال التوظيف الساعية إلى رَفْعِهِ شِعَارَ حَقٌّ يُرَادُ بِهِ باطل، وَحُجَّةٌ لوقف كل مساعي تحقيق الحرية والعدل والمساواة بين المواطنات والمواطنين، ورفع الظلم والحيف عن كل فئات المجتمع، والمساهمة في بناء دولة عصرية قوية.
وهو ما يجعلني أبسط بين أيديكم طريقة فهمي لهذه المقولة/المبدأ، وتصوري لصلتها بعملية الإصلاح والتجديد التي نروم إنجازها من خلال جملة من القوانين، وذلك من خلال ستة أسس وهي كالتالي:
الأساس الأول: مبدأ الشرعية أساس مشروعية الحكم ومرتكز عملية الاجتهاد والتجديد.
يشكل موضوع هذه المحاضرة، إذن، امتدادا واستئنافا لما سبق أن تناولناه في مُخْتَتَمِ المحاضرة السابقة التي شرفت بتقديمها في رحاب هذا الشهر الفضيل بالمكتبة الوطنية بالرباط حول موضوع: الحريات الفردية بين القيم الكونية والثوابت الوطنية”.
وهي المحاضرة التي أكدت فيها أننا حينما نسعى لإجراء أَيِّ إِصْلاَحٍ أو أَيِّ تَجْدِيدٍ في مجال منظومة الحقوق والحريات في بعدها الفردي والجماعي، فإنما نسعى لتحقيق ذلك فِي إِطَارٍ من الاحترامِ التام والتوفيق المسؤول بين مختلف الثوابت الدستورية للمملكة، وكذا بين مختلف المرجعيات. وفي حالة الاختلاف نحتكم إلى مؤسسة إمارة المؤمنين للتحكيم والفصل النهائي المُلْزِمِ في كل ما يتصل بالمرجعية الدينية للأمة تحقيقا لمقاصد الدين الكُلِّيَةِ وَاسْتِلْهَامًا لروحه في الحرية والكرامة والعدل والمساواة بين الناس.
كما أبرزنا كيف أن جلالة الملك باعتباره أميرا للمؤمنين هو الكافل لحقوق المواطنات والمواطنين والضامن لحرياتهم بمقتضى الدستور، في إطار من الالتزام بثوابت الدين وكلياته ومنظومة قيمه الكونية. وهو ما يفسر تشبث ملوك المغرب إلى اليوم بمبدأ الشرعية، وتشديدهم على أنهم لا يحلون حراما ولا يحرمون حلالا، وهو ما سبق أن عبر عنه جلالة الملك محمد السادس في خطابه بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة الثانية من الولاية التشريعية السابعة عام 2003 بالقول: “لا يمكنني بصفتي أميرا للمؤمنين أن أحل ما حرم الله وأحرم ما أحله”.
وبهذا فإن مبدأ الشرعية ظَلَّ يُمَثِّلُ رُكْنًا رَكِينًا في التأسيس لمشروعية الحكم في بلدنا؛ فَوَلِيُّ الأَمْرِ يُعَاقِدُ وَيُعَاهِدُ الأمة على الالتزامِ بأحكام الشريعةِ الكليةِ ومقاصدها، ويصون مبادئ الدين، ويحكم بالحق والعدل، ويكفل الحقوق والحريات، وفي المقابل تلتزم الجماعة بطاعته، وَتَتَعَهَّدُ بِنُصْرَتِهِ، في كل ما من شأنه أن يحمي مصالح الأمة، ويدافع عن حقوقها الفردية والجماعية وكرامتها ووحدتها.
كما ظل يشكل مُرْتَكَزًا مِنْ مُرْتَكَزَاتِ الاجتهاد والتجديد عبر مسيرتها الحضارية الممتدة. وفي هذا الإطار أكدنا أن التزام ولي الأمر بمبدأ الشرعية، فِي سِيَاقِ نُهُوضِهِ بِوَاجِبِ التحكيم، لَمْ يَأْتِ لِيَغُلَّ يَدَهُ بقدر ما أتى لِلْإِفْسَاحِ لَهُ في عملية الاجتهاد.
وهو ما سبق أن استخلصه المؤرخ والمفكر عبد الله العروي في أطروحته التأسيسية حول “الأصول الاجتماعية والثقافية للوطنية المغربية..” حينما قرر أن “السلطانَ إِمَامٌ، وتفرض عليه وظيفته إِقْرَارَ وضمانَ سمو الأحكامِ الشرعيّةِ. وهو من موقعه هذا أعلى سُلْطَةٍ فقهيّةٍ وقضائيّةٍ في البلاد، يَبُثُّ وَيَفْصِلُ في القضايا المستعصية..”.
وقد دَلَّلْنَا على ذلك من خلال التنبيه على أن التزام الملك بمبدأ الشرعية في الخطاب السالف الذكر جَاءَ مُرْتَبِطًا وَمَشْرُوطًا بِحِرْصِ جَلَالَتِهِ على أن يتم ذلك “في إطار مقاصد الشريعة الإسلامية، وخصوصيات المجتمع المغربي، مع اعتماد الاعتدال والاجتهاد المنفتح، والتشاور والحوار، وإشراك جميع المؤسسات والفعاليات المعنية”.
كما ذكرنا، في هذا المقام، أن نظرية المَقاصِدِ شَكَّلَتْ الإِطارَ النَّظَريَّ والْمَنْهَجيَّ اَلَّذِي أَسْعَفَ العَقْلَ الإِسْلاَمِيَّ المُسْتَنيرَ فِي النُّهوضِ بِأَهَمِّ عَمَليَّةٍ تَجْديديَّةٍ شَهِدَهَا الفِكْرُ الإِسْلاميُّ الحَديثُ والْمُعاصِرُ منذ محمد عبده مرورا بالطاهر بن عاشور وعلال الفاسي وغيرهم. وبالتالي فَوُرُودُهَا في الخطاب الملكي يؤكد أن الالتزام بمبدأ الشرعية (لا أحل ما حرم الله ولا أحرم ما أحله) لَا يَتِمُّ عَلَى وَجْهِهِ الشَّرْعيُّ الأَمْثَلُ إلا من خلال الالتزام بعملية الاجتهاد والتجديد وفق رؤيةٍ مقاصديةٍ، انطلاقا من مقاربة تشاورية قائمة على الحوار وإشراك جميع القوى والهيئاتِ المعنية، في إطار من الاعتدال والاجتهاد المنفتح.
وقد اِسْتَلْهَمْنَا الخِبْرَةَ الحَضَارِيَّةَ لِلدَّوْلَةِ العُثْمَانِيَّةِ التي دَرَجَتْ عَلَى إِيرَادِ المراسيمِ السلطانيةِ في مدونتها الشرعية للتدليل على الاعتراف بِاخْتِصَاصِ الدَّوْلَةِ بِالسُّلْطَةِ القَانُونِيَّةِ، من خلال سُلْطَةِ التَّقْييدِ الإِدَارِيِّ، أي عَدَمِ تَحْرِيمِ الشَّيْءِ عِنْدَ اللَّهِ، لكنه يغدو غير شرعي بالنسبة إلى الدولة. وهو ما يعرف بـ”تَقْيِّيدِ المُبَاحِ”، وهو التقييد الذي توسع العمل به في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وَمَرَدُّ ذَلِكَ إلى القضايا المثيرة للجدل مثل الرق وتعدد الزوجات؛ حيث أكد محمد بيرم الخامس وبعده محمد عبده وبعدهما الطاهر بن عاشور وعلال الفاسي إلى حق الحاكم في تَقْيِّيدِ المُباحِ كَأَداةٍ أَسَاسِيَّةٍ لِإِلْغَاءِ الرِّقِّ وَتَعْلِيقِ وَوَقْفِ العَمَلِ بِالْعَدِيدِ مِنْ الأَحْكامِ الشَّرْعيَّةِ القَطْعِيَّةِ لِانْتِفَاءِ شُرُوطِ تَطْبِيقِهَا؛ بحيث سوف يترتب على الالتزام الحرفيٍّ بها نَقيضُ المقاصد والْآثارِ التي اِسْتَهْدَفَهَا الشارع الحكيم منها. ومعلوم أن التراث الفقهي الإسلامي غني بالحالات التي تم فيها مثل هذا التعليق.
لنخلص بناء على كل ما سلف أن مبدأ الشرعية المتمثل في قول جلالة الملك: “لا يمكنني بصفتي أميرا للمؤمنين أن أحل ما حرم الله وأحرم ما أحله” يؤكد صَلَاحِياتِهِ الدستوريةَ كسلطة تحكيميّةٍ شرعية عليا تَدْرَأُ الخلاف بين مكونات الأمة. والتحكيم لا يكون بَدَاهَةً إلا بالتوفيق والتشاور والاجتهاد سعيا لما فيه المصلحة: أينما كانت المصلحة فتم شرع الله. أينما كان العدل فتم شرع الله..
وهي الصلاحيةُ الدستوريةُ الحديثةُ التي تجد سندها الشرعيَّ والتاريخيَّ في القاعدة التي مفادها أن حُكْمَ الحَاكِمِ يَرْفَعُ الخِلَافَ فِي الأُمُورِ الِاجْتِهَادِيَّةِ.
لكن مقابل هذا الِاحْتِجاجِ السّياديِّ المُسْتَنيرِ بمبدأ الشرعية انطلاقا من رُوحِ مقاصديةٍ تجديديةٍ تسعى لتحقيق أعظم المصالح ودفع أكبر المفاسد، تَمْكينًا للأفرادِ والجماعات من حقوقهم وحرياتهم، وضمانا لتعدديتهم واختلافهم في إطار وحدةِ اجتماعهم السياسي وتماسكِ نظامهم المدني والعمراني، فقد يَجْري رَفْعُ هَذَا المَبْدَأِ بِشَكْلٍ مُغْرِضٍ يُعِيقُ تَطَوُّرَ المُجْتَمَعِ وَتَحَرُّرَ مُوَاطِنِيهِ، في تعارضٍ صارخٍ مع فلسفةِ “ختمِ النبوّةِ” وما تَقْتَضِيهِ من تَمْكينٍ لسيادة العقلِ والإرادةِ الحرةِ والمبدعةِ للجماعةِ كأساسٍ للاجتهادِ، بَحْثًا عن المصلحةِ بما يَتَوافَقُ مع مقاصدِ الدين وَرُوحِهِ التَّقَدُّمِيَّةِ في التحرر والانعتاق والتكريم الإنساني..
وَالدَّلِيلُ اَلْدَامِغُ على ذلك؛ موقف الفقه الإسلامي والمجتمعات الإسلامية، عموما، من العبودية؛ فرغم أن إِرَادَةَ الشّارِعِ الحَكِيمِ وسنّةَ الرسولِ كانت تَتَّجِهُ إلى القطعِ التدريجيِّ مع هذه الظاهرة المَقَيتَةِ تَشَوُّفًا إلى الحرية، بحيث “شرع الإسلام العتق ولم يشرع الرق، إلا أن الفقه الإسلامي والمجتمعات الإسلامية قد طبعت مع العبودية بَدَلَ القَطْعِ مَعَهَا لِمُجَرَّدِ عَدَمِ وُرُودِ نَصٍّ صَرِيحٍ بِتَحْرِيمِهَا ولم يكن للفقهاء أَيُّ اعْتِراضٍ أَخْلَاقيٍّ عَلَى الرِّقِّ. ووجه المفارقة، هاهنا، أن أبا إسحاق الشاطبي الذي اكْتَمَلَتْ معه نظريةُ المقاصدِ اعتبر عِتْقَ العبيد ضمن التَّحْسِينِيَّاتِ وليس ضمن الضَّرُورِيَّاتِ!؟
والحاصل أن الإسلام لم يحرمها نظرا لمدى اسْتِحْكامِهَا وتَغَلْغُلِهَا في النظام الاقتصادي والاجتماعي عبر العالم، فرغم أنه قد جعل الرق مباحا، إلا أنه ضيق جدا من مَوارِدِ الِاسْتِعْبَادِ، وفتح الباب مشرعا للعتقِ والحرية، وحسنت تَعاليمُهُ من ظروفِ حياةِ العبيدِ وأصت بِحُسْنِ مُعَامَلَتِهِمْ. ومع ذلك فقد كان الأَجْدَرُ بنا نحن قَبْلَ غَيْرِنَا المبادرةَ إلى تحريمهِ في القرون الأولى من تاريخ الإسلام. وهو ما عبر عنه الشيخ محمد عبده بِصِيغَةٍ اسْتِنْكَاريَّةٍ: “إذا كان الدين في تشوف إلى حرية الأَرِقَّاءِ، فما بالهم؛ (أي المسلمين) قَضَوْا قرونا في استعبادِ الأحرارِ؟”.
ووجه المفارقة أن الديبلوماسيين الغربيين وبوجه خاص البريطانيين حينما حثوا البلدان الإسلامية على إلغاء العبودية في منتصف القرن التاسع عشر كان مبرر اعتراضهم: “عدم قدرتهم على تحريم ما أحل الله ورسوله؟”.
صحيح أنه لولا التحولات الاقتصادية والتكنولوجية الضخمة للصناعة المبكرة وظهور النظام الرأسمالي لما كَانَ للمجتمعاتِ الغربية أن تَقْبَلَ التَّخَلِّي عن العبودية، وهو التقدم الذي أفسح المجال لِانْبِثَاقِ مَظَاهِرَ جديدة من العبوديةِ، إلا أن ذلك لا ينفي أن قرار الإِلْغَاءِ الرسمي للعبودية كان تاريخيا وتقدميا إلى حد بعيد. كما أن التمسك بمبدأ الشرعية، هاهنا، كان بعيدا كل البعد عن روح الدين ومقاصده. وهو ما نسعى إلى تَلَافِيهِ في ظل اسْتِسْهالِ رفع مَبْدَأِ الاحتكامِ إلى شرع الله كشعار مُنَافٍ لمقاصدِ الدين الإنسانيةِ والكونية وروحِ الشرعِ الحنيف الذي مَا تنزل من خِلَالِ النُّبَوَّةِ إلا رحمةً للعالمينَ كُل العالمينَ.. وَلَا أَدَلَّ على ذلك من رفعِ القوى المُتَزَمِّتَةِ لحاكميّةِ الله في كونهِ، ظُلْمًا وَجَهْلًا، ضِدًّا وَإِلْغَاءً لسيادةِ الأمّةِ، وَالحَالُ أن الأمةَ إنما تَمَتَّعَتْ بهذه السيادة بمقتضى التَّكْلِيفِ الإِلَهِيِّ المتمثل في أَمْرِ الشورى الوارِدِ في القرآن الكريم بصيغة الوجوب: “وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ”… ” وَشاورهم فِي الأَمْرِ”..
علما أن الشريعةَ ليست مجردَ قانونٍ أو فقهٍ، وإنما هي، أكثرُ من ذلك، مصدرٌ لهما معا؛ بحيث من الممكن أن يتغير الفقهُ دُونَمَا انْزِيَاحٍ أو خُروجٍ عن الشريعةِ. كما ليس من اللازم أن يكون لكل قانونٍ مُسْتَنَد نَصّي في الشريعة لِيَغْدُو قَانُونًا إِسْلَامِيًّا؛ فَأَيُّ قَانُونٍ عادلٍ يحقق مصلحةً عامةً، ولا يُناقضُ نصوصَ الشريعة ومقاصدهَا فهو من الشريعة.
وتبعا لذلك، فَجُلُّ ما يَجْرِي وَسَمُهُ بل وَوَصُمُهُ بالقوانينِ الوضعيةِ غالبا ما لا يتعارض مع المرجعيةِ الشرعيةِ؛ ليحقق بذلك مصالحَ الناسِ انطلاقا من مُطَابَقَتِهِ لروح الإسلامِ ومقاصد الشريعة. فَمِثْلَمَا قام دستورُ المدينةِ في العهد النبوي على إقرارِ أَعْرَافِ بعض القبائل العربية في أَحْكَامِ الدِّيَاتِ والْعَاقِلَةِ لتغدو، تبعا لذلك، جزءا من الفقه الإسلامي، فقد أشادَ الرسولُ الأكرمُ وامْتَدَحَ وأَثْنَى صلى الله عليه وسلم على عَدْلِ ملك الحبشة وهو يَرْأَسُ دولةً لا تَدِينُ بالإسلامِ كما أَعْلَى مِنْ شَأْنِ وَقيمَةِ “حلفِ الفضولِ” الذي يُؤَسِّسُ لمشروعية التَّحالُفِ والتَّعاهُدِ مع المختلفين مَعَنَا في المِلَّةِ والثقافةِ والدينِ من أجل الدفاعِ عن حقوقٍ وحرياتٍ وقيمٍ إنسانية كونية.
الأساس الثاني: مقاصد الشريعة المدخل الأول لأي عملية تجديد واجتهاد:
إن ما يعرفه العالم اليوم من تطوراتٍ سريعةٍ، وَمُقْتَضَيَاتٍ وتحدياتٍ وإكراهاتٍ متواصلةٍ غير محدودة، وحوادثُ ومستجداتٍ غير متناهيةٍ، يلزمنا بضرورةِ استيعابها ضمن منظومتنا الدينية، وتقوية قدراتنا للتجاوب معها بفعالية وإيجابية، حِرْصًا مِنَّا على الِانْخِراطِ في مسارات التحديث القانوني والمُؤَسسِيِّ، وابْتَغَائِنَا لما فيه مصلحة الفرد والجماعة، واستفادتنا من كل المكتسباتِ الكونيةِ والحقوقيةِ، ولا يمكن ذلك إلا بفكر مقاصدي، يفتح أمامنا سُبُلَ الاجتهاد والإبداع، ويَمْنَحُنَا وسائل التَّفاعُلِ مع النص الديني بقراءات متجددة، وآليات مُسْتَحْدَثَةٍ للتجديد، وإعادة النظر في التشريعات والقوانين المرتبطة بواقع الناس ومعاشهم اليومي.
فالتشريعات الدينية لَمْ تَتَنَزَّلْ عَبَثًا وَلَا كَانَ تَقْنِينُها بِغَيْرِ أهدافٍ ومقاصدَ واضحةٍ ومعلنةٍ، وإنما شُرِعَتْ لتحصيل مقاصد مرجوة، والغرض منها، ابتداء وانتهاء، هو تحقيق مصالح الناس وتيسير حياتهم، وقد رُوعِيَ فيها حفظ الضروريات التي لابد منها في حياة الفرد، سواء تعلق الأمر بِالضَّرُورِيَّاتِ التي نص عليها الفقهاء قديما، وهي حِفْظُ الدينِ والنفسِ والعقلِ والنَّسْلِ والمال، أو ما اسْتَحْدَثَ من ضروريات تبعا لتطور الحياة الإنسانية، والتَّرَاكُمِ التاريخي لمسيرة الإنسان الحقوقية، وتبعا، أيضا، لتطورات الحياة الاجتماعية وتعقيداتها المُرَكَّبَةِ، مما جعلها ضرورة للاجتماع البشري وأساسا للحياة المعاصرة، كما رُوعِيَ فيها أيضا ما يسميه الفقهاء بِالْمَصَالِحِ الْحَاجِيَةِ، والغرض منها رَفْع الحَرَج عن الناسِ، والتيسيرِ عليهم، ورفع الضّيقِ أو العَنَتِ عنهم، إضافة إلى مكارمِ الأخلاقِ ومَحاسِنِ العادَةِ، مما يعرف بالتحسينيات. وَلَوْ أَنَّهَا تُعَدّ، بِحَقٍّ، مِنْ الضَّرُورِيَّاتِ لَا مِنْ التَّحْسِينِيَّاتِ؛ خَاصَّةً فِي ظِلِّ الأَزْمَةِ اَلْأَخْلاقيَّةِ اَلَّتِي بَاتَ يُعَانِي مِنْهَا عَالَمُنَا المُعاصر .
والخلاصة أن مقاصد الشريعة تعني جلب المصلحة ودرء المفسدة، وتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، ولا يكون ذلك إلا باعتبار المقاصد دليلا يعلو على الأدلة الفرعية والجزئية، بل هي القطعيُّ الذي لا يمكن المس به ولا تجاوزه، فقد وصفها الشاطبي بأنها “أصولُ الدين وقواعد الشريعةِ وكُلّيّات المِلَّةِ”، وجعلها الطاهر بن عاشور في منزل القطعياتِ من الدين أو ما هو قريب منها، ولابد من أجل ذلك من القيام بعملية تجديدية يقوم عليها أهل الشأن والاختصاص، لا تكون مقصورة على فروع المسائل وجزئياتها، وإنما على طرق الاستنباط وأصول الاستدلال، وتجاوز المناهج التقليدية المرتكزة على القراءة المباشرة للنص الديني، والعناية بالمعنى الحرفي للنص ودلالاته اللغوية، إلى النظر في دلالات المقصد، وجعلها أولوية عند التعارض، ومرجحا عند الإشكال، وكما كانت إمكانيات التخصيص والتقييد والتأويل متاحة بالنص الديني نفسه، فإن المقاصد لابد من جعلها الأداة الأساسية للقيام بأي عملية تأويل أو تجديد، والفاصل في تحديد النصوص العامة وتخصيصها، وليس بناء على قواعد منطقية أو لغوية كما جرى عليه الأمر في المناهج التقليدية، وكل هذا يعيد لمنظومة القيم والأخلاق التي جاء بها الدين مكانتها الرئيسية، لتصبح المرجعية الأساس لكل الأحكام والفروع الفقهية.
الأساس الثالث: الدين منظومة قيم إنسانية كونية صالحة لكل زمان ومكان
إن الحديث عن الاجتهاد والتجديد ضمن مقاصد الشريعة الإسلامية، لابد فيه من الحسم في طرق التعامل مع النص الديني، وتجديد الآليات والأدوات اللازمة لفهمه واستنباط الأحكام من منطوقه ودلالاته، والتمييز فيه بين ما هو ثابت وما هو قابل للتغير بتغير الأزمان والأماكن والأحوال والعادات والأعراف، باستحضار المقاصد العامة للشريعة، والأخذ بقاعدة جلب المصالح ودرء المفاسد.
ولابد فيه أيضا من إدراك الواقع بكل تعقيداته وتركيبه، والاستعانة بأهل الاختصاص في معرفة تطور الحالة الاجتماعية، ورصد التحولات السوسيو ثقافية، وكل خبرة لازمة لمعرفة الواقع واحتياجاته وإكراهاته، وهو ما عبرت عنه كلمة صاحب الجلالة ب”التشاور والتحاور، وإشراك جميع الفعاليات والمؤسسات المعنية”.
كما أنه من المهم جدا وضع السؤال حول علاقة الإسلام بالتاريخ وتقلباته وقوانينه وآفاقه، فهي علاقة معقدة ترد عليها عدد من المتغيرات، فالدين في أصله خطاب في المطلق، مجرد عن الزمان والمكان، والتاريخ متحول وحيوي ومتغير، الدين يهدف إلى الهيمنة على التاريخ، والتاريخ بحكم ديناميته وارتباطه بالزمان والمكان ينزع للتمرد على هذه الهيمنة، وهو ما يفرض على الدين في الأخير أن يعيد إنتاج نفسه باستمرار، حسب ما تقتضيه الخصوصيات الزمانية والمكانية.
وبالتالي لتحقيق المصالحة بين هذين المكونين، بحيث يكون الدين صالحا لكل زمان ومكان، ومستوعبا لكل تغيرات التاريخ وتحولاته، لابد من إعادة مفهومنا وتصورنا للدين، واعتباره منظومة قيم إنسانية كونية، أَكْثَرَ مِنْ كَوْنِهِ جُمْلَةً من الأحكامِ النصيةِ المرتبطة بسياقاتٍ تاريخية وثقافية مَخْصُوصَةٍ..
الأساس الرابع: الحاكم هو من يحقق مناطات الأحكام ويجتهد في التنزيل
لابد من الوعي بأن كل هذه المستجدات التي تعرفها مسيرة الحياة، والتغيرات الهائلة والتطورات المذهلة، في شتى المجالات ومختلف المظاهر والتجليات، في السياسة والاجتماع والمال والاقتصاد، وفي العلاقات الدولية والمواثيق العالمية ونظم المبادلات، لابد مِنَ التعامل معها بمنهج دقيق، جامع بين مراعاة التنزيل وسداد التأويل، أصيلٌ في ثوابته ومسلماته، حديث ومرن في تَنَاوُلَاتِهِ وآلياته وأدواته، جامعا بين المنقول والمعقول، ولا يكون كل هذا إلا بما سماه الأصوليون بـ”تَحْقِيقِ المَنَاطِ”.
والمقصود بتحقيق المناط تنزيل الأحكامِ الشرعية على الوقائع، إذ أن الأحكام المنزلة لا يمكن تطبيقها إلا في إطار واقع مجتمعي محدد، وهذا الواقع مرتبط بالطبيعة البشرية وما تتميز به من تعقد وتركيب، فلا يكفي لاستنباط الحكم وجود النص مجردا، بل لابد من ضبط التكامل بينه وبين تفاصيل الواقع المُرَاد تطبيقه عليه، مع عدم إهمال أي عنصر له تأثير معين من قريب أو بعيد، فهي عملية تدقق أولا في الدليل الشرعي ومعرفة ما إن كان كليا أو جزئيا، وفي الواقع بإشكالياته وتقلباته، وأيضا بتوقع الأثر المحتمل لذلك الحكم في صلاحه وفساده، ولذلك قال الفقيه القرافي: “الجمود على النصوص أبدا ضلال وإضلال”، وقال ابن قيم الجوزية: “إن المفتي الذي يطلق حكما واحدا في كل حالة هو مثل طبيب له دواء واحد كلما جاء مريض أعطاه إياه بل هذا المفتى أضر”.
إن عملية تحقيق المناط، واعتمادها على الكليات بدل الفرعيات والجزئيات، كانت لتغنينا عن كثير من الخلافات والنزاعات حول عدد من قضايا المجتمع، فهي جامعة لأسس الاجتهاد، الشريعة بنصوصها ومقاصدها، ومصالح العباد بإكراهاتها وتحدياتها، وموازين الزمان والمكان وتغيراتها، وبهذا يمكن التفريق بين القيم والأحكام الفرعية، فالأحكام والقوانين ليست إلا ثمرة لهذه القيم، والشريعة قبل أن تتحول إلى قوانين يطبقها ولي الأمر، فهي تضع الأصول والكليات التي تثمر الحكم على الفروع والجزئيات حسنا وقبحا، وقبولا وردا، كما أنها تقوم بحماية النظم والأحكام الجزئية، وترتب أسبابها وموانعها وشروطها، لتصبح صالحة للتطبيق على واقع معين، فهذه الكليات لا تحتاج لبيئة تطبيق، بل هي عامة ثابتة، ولا تفتقر إلى تبيئتها إلا عندما تتحول لأحكام تفصيلية وقوانين فرعية، وهي قطعية ثابتة على عكس الأحكام الفرعية التي ترتبط في غالبها بالتأويل والاجتهاد، كما أن الخروج عليها هو خروج على النظام العام للأمة بخلاف القوانين التفصيلية.
وأما من يحقق هذا المناط، فإن ذلك يختلف باختلاف الجهات المقصودة بالخطاب، فإذا كان الخطاب موجها إلى الفرد كان أعلم بقضيته من غيرها، أما إذا كان موجها إلى الجماعة أو القاضي أو السلطان، أو ما يعرف ب الجهة الولائية، فإليها تحقيق المناط دون غيرها، فالقوانين العامة المؤطرة للمجتمع والمحافظة على سلمه واستقراره، لمؤسسة الحكم بكل عناصرها، أن تحقق فيها المناط، وترى شروط وموانع تنزيلها على الواقع، بما يطرح أمامها من معلومات ومعطيات وتقارير، تصرفا بالإمامة والرئاسة، وليس تجاوزا للأحكام الشرعية أو معارضة للنصوص الدينية، وإنما هو تدبير في مجال التنزيل، وضبط دقيق للعلاقة بين النص والواقع، وهذا هو عين ما جاء في الخطاب الملكي، من أن الملك بصفته أميرا للمؤمنين لا يمكنه أن يحل حراما أو يحلل حراما، مع الانفتاح على الاجتهاد وتفعيل مقاصد الشريعة، فهي تأكيد للموقف الديني والعقدي في احترام أحكام الشريعة، وفي الوقت ذاته عدم غلق الباب أمام التصرفات الولائية في الاجتهاد والتنزيل.
الأساس الخامس: الأصل في العبادات النقل، والأصل في المعاملات العقل
من المهم جدا في سياق الحديث عن مفهومي الحلال والحرام، التفكيك بين حقلي العبادات والمعاملات، فالمرجع والحكم في العبادات هو النقل من نص أو تواتر عملي، ولا مجال للعقل في تحديد أعداد الصلوات، أو شهر الصيام، أو مكان الحج، وأما المعاملات فالأصل فيها سلطة المصلحة والعقل، وهو تفريق منطقي، إذ أن العبادة غرضها الروح، وأسسها غيبية لا يدركها العقل، وقد يدرك جزءا منها دون إدراك كل مغازيها ومقاصدها، والنص من يكشف عن ذلك أو يحجبه، بعيدا عن أي بعد منطقي أو عقلاني.
وأما أحكام المعاملات فليست بقضايا غيبية ولا روحية، وإنما أساسها العقل والصالح العام، فكل ما كان منها منسجما مع المصلحة العامة للمجتمع العقلاني فهو حلال، وما كان منها مصادما للمصلحة العامة ومضرا بها فهو الحرام، بغض النظر عن النصوص الجزئية التي وردت في هذه الأبواب، لارتباطها بسياقها التاريخي والثقافي، ومناطها المختلف باختلاف الأزمان والأماكن، فارتباطها إنما هو بالقيم المنشئة لها، وبالتالي ليست أحكاما لازمة لكل المجتمعات ولكل الفترات الزمنية.
وخلاصة الموضوع، أن العبادات مبناها على التوقيف، ولابد فيها من النص والنقل، وأما المعاملات فهي مجال الإبداع البشري، واستخدام العقل لما فيه تحقيق المصلحة، مع مراعاة القيم العامة التي جاءت بها الشريعة، وتغير هذه المصالح بتغير الأزمان، مع استحضار كل النصوص القرآنية التي تحث على النظر والتفكر والتعقل، كقوله تعالى: ” إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون”، وقوله تعالى: ” قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب”، فليست مقصورة على النظر في الكون لأغراض إيمانية وعقائدية، وإنما هي مرجع في كل ما تتوقف عليه مصالح الناس وحياتهم.
وبسبب هذا التفريق كانت دائرة الحلال واسعة جدا، وضاقت دائرة الحرام إلى أبعد الحدود، فالمباح لا يحتاج إلى دليل، فهو حلال بحكم الاستصحاب والبراءة الأصلية، فيما الحرام يحتاج إلى إثبات الضرر وضياع المصلحة، وما كان من توسيع دائرة الحرام في القرون المتأخرة، إلا للجهل بمقاصد الشريعة القائمة على التيسير ورفع الحرج، والجهل في كثير من الأحوال بنصوص وآراء أخرى مخالفة للمشهور من الأقوال، والخلط الواقع بين الدين والعادات، وعدم التفريق بين الحرام والشبهة والمكروه، وتحري الزهد والورع أحيانا مع أنه مسلك شخصي لا يمكن حمل الناس عليه، فلذلك توسعت دائرة الحرام وصار أصلا، فيما كان الأولى توسيع دائرة الحلال رفعا لكل الحرج وتيسيرا على الأمة.
الأساس السادس: “حكم الحاكم يرفع الخلاف في الأمور الاجتهادية”
من أهم المباحث المتصلة بالاجتهاد والتشريع مسألة ترجيحات الحكام واختياراتهم؛ بحيث من المقرر أنه إذا ما تعددت اجتهادات العلماء، وتعذر الاتفاق على رأي واحد يحتكم إليه على وجه الحسم في شؤون الناس والمجتمع والدولة، فإن لولي الأمر الحق في الترجيح بين الاجتهادات. وذلك تفعيلا للاجتهاد وَسَدًّا لِلذَّرَائِعِ في المُستجداتِ والنوازلِ وبوجه خاص القضايا ذات الصلة بالثوابت المرجعية حفظا لمصالح الأمة والأفراد ومختلف مكونات المجتمع.
ولذلك بلور الفقهاء والأصوليون وقعدوا قاعدة: “حكم الحاكم يرفع الخلاف في الأمور الاجتهادية”. وبمقتضى هذه القاعدة يجوز بل يحق للحاكم أن يحسم الخلاف باختياره لرأي من الآراء الاجتهادية.
وهي القاعدة التي تجد مُسْتَنَدَهَا في أمر الشرع بِنَصْبِ الإِمَامِ سعيا لإعمال السياسة تدبيرا للشأن العام للأمة، وَقَطْعًا لِدَابِرِ النزاع والشِّقَاقِ والْخِلاَفِ؛ جَلْبًا للمصالحِ وتَكْثيرِهَا وَدَرْءًا للمفاسد وتقليلها بناء على القاعدة الشهيرة: “تصرف الإمام في الأمة منوط بالمصلحة”.
والأهم، في هذا السياق، أن حكم الحاكم وتحكيمه يظل، رغم طابعه الإلزامي، قابلا للتغير تبعا لتغير الأحوال والمصالح كما هو الأمر في تقييد المباح أو إطلاقه.. من قبيل:
· تقييد التعدد في الزواج ضمانا للإنصاف والعدل.
· تمكين المرأة من حقوقها في المشاركة السياسية تصويتا وترشيحا في الانتخابات في إطار من المساواة القانونية المكفولة بمقتضى الدستور بينها وبين الرجل.
· تحديد السن الأدنى للزواج.
· الحق في انتقال جنسية المرأة المغربية إلى أبنائها.
والحاصل أن الحاكم ما أن يعتمد ويتبنى رأيا من الآراء الاجتهادية المختلف فيها، حتى يرتفع النزاع بين الناس ويلتزمون العمل بمقتضاه. يقول الإمام القَرَافِيُّ: “إجماع الأئمة قاطبة أن حكم الله تعالى ما حكم به الحاكم في مسائل الاجتهاد..، وأن ذلك الحكم يجب اتباعه على جميع الأمة، ويَحْرُمُ على كل أحد نَقْضَهُ، ويقول في سياق آخر: “اعلم أن حُكْمَ الحَاكِمِ في مسائل الاجتهاد يَرْفَعُ الخِلَافَ، ويرجِعُ المُخَالِف عن مذهبه لمذهب الحاكم، وتتغير فُتْيَاهُ بعد الحكم عما كانت عليه، على القول الصحيح من مذاهب العلماء”.
يَتَأَسَّسُ دور الحاكم في تقييده للمباح على مبدأ المصلحة العامة التي تعد مَنَاطَ مشروعية الولاية العامة على الأمة، إذ قرر الفقهاء على أن للحاكم تَقْيِّيدَ المُبَاحِ تحقيقا للتكافل الملزم، سواء من الوجهة الاجتماعية، أو الاقتصادية، أو السياسية.
غير أن تصرف الأفراد في حرياتهم العامة أو المُبَاحَاتِ، يتوقف تَكْييفُهُ من حيث المشروعية بما يَؤُولُ إليه تصرفهم فيها ضمن سياق مَخْصُوصٍ، من مَآلٍ قد يُؤَثِّرُ سَلْبًا على الصالح العام، كما قد يُعَضِّدُهُ وَيُنَمّيهِ. حيث يرتقي المباح، في هذا المقام، من مستوى التقدير الشخصي المقرر له في أَصْلِ تَشْريعِهِ بِمَعْزِلٍ عن لَوَازِمِهِ ونتائجه التي أنتجتها الظروف المتغيرة العَارِضَةُ إلى مستوى تقدير الحاكم العَدْلِ، بالنظر إلى مَآلِهِ وَأَثَرِهِ على المصلحة العامة في سياق خاص، لا بالنظر إلى ذَاتِ المُبَاحِ وَأَصْلِهِ؛ لأن المصلحة العامة، هي أساس التزامه السياسي، ومناط مشروعية ولايته العامة على الأمة، وبهذا لَا تَقْوَى المصالح الفردية على الإِجْهَازِ على هذا الأصل العام الثابت؛ لأنه بِبَسَاطَةٍ؛ أصل العدل في الإسلام في صلته القوية بالحرية. وتبعا لذلك، فـ”للإمام أن يحرم بعض المباح إذا رأى أن فِعْلَهُ يترتب على ضرر بالمجتمع، وأن يُوجِبَ بَعْضهُ إذا ما اقتضت مصلحة عامة إِيجَابُهُ عليهم”.
إذا كانت أغلب القضايا الخلافيةِ في مجال المعاملات تَنْدَرِجُ ضمن حكم الحاكم لِيَحْسِمَ فيها الخلاف؛ فلأن أَغْلَبَهَا أحكامٌ مُعَللَةٌ، أو قائمةعلى العرفِ. علما أن كل من العلة والعرف قد يتغير من مكان إلى مكان ومن زمان إلى زمان، فيتدخل الحاكم فيها ويحسم الخلاف، تحقيقا لمصلحة الناس ومنعا للفوضى والاضطراب في الأحكام.
فإذا كان القضاء يرتكز على الحجاج، والفتيا تنهض على الأدلة، فإن “تصرف الإمامة الزائد على هذين يعتمد المصلحة الراجحة أو الخالصة في حق الأمة”. يقول الرسول، صلى الله عليه وسلم، رواية عن عائشة رضي الله عنها: “ادْرَءُوا الحدود عن المسلمين مَا اسْتَطَعْتُمْ، فإن كان له مخرج فَخَلّوا سَبيلَهُ، فإن الإمام أن يُخْطِئَ في العَفْوِ خيرٌ من أن يُخْطِئَ في العقوبةِ”، وهو ما يفسر توقف سَيِّدِنَا عمر بنِ الخطاب ونهيهُ عن قطع يد السارق عام المجاعة، مع أن النص القرآنيَّ جاء عاما وشاملا دونَمَا تَفْريقٍ بين زمن الرَّخاءِ وزمن القَحْطِ والْمَجَاعَةِ..
وفي هذا السياق يقول الإمام العز بن عبد السلام: ” لا يَخْفَى على عاقلٍ قبل وُرودِ الشَّرْعِ أن تَحْصِيلَ المصالح المَحْضَةِ، ودَرْءَ المفاسدِ المحضة عن نفس الإنسان وعن غيره مَحْمُود حسن، وأن تقديم أَرْجَحِ المَصالِحِ فَأَرجحها مَحْمودُ حَسَن، وأن دَرْءَ أْفسد المَفاسِدِ فَأَفْسَدَهَا محمود حسن، وأن تقديم المصالح الراجحة على المَرْجوحَةِ محمود حسن، وأن درء المفاسد الراجحة على المصالح المرجوحة محمود حسن، واتفق الحكماء على ذلك، كذلك الشرائع. فإن تَسَاوَت الرُّتَب تَخَيَّرَ، وإن تفاوتت استعمل الترجيح عند عِرْفَانِهِ والتَّوَقُّف عند الجهل به”.
ومعلوم أن الأحكام الاجتهادية القائمة على مصلحة بذاتها، تبقى معتبرة ما بقيت هذه المصلحة، التي هي مَنَاطُ الحُكْمِ وَعِلَّتهُ، فإذا انتفت وجب أن يتغير الحكم تبعا لها؛ لأن الحُكْمَ يَدُورُ مَعَ عِلَّتِهِ وُجُودًا وَعَدَمًا؛ أي أن العلة التي هي مقصد الشَّارِعِ في كل حكم شرعي مَعْلول، تعتبر شرطا أساسيا لِتَطْبِيقِ هذا الحكم، بحيث يُشْتَرَطُ وجود العلة وبقاؤها، فَيَظِلُّ الحكمُ ما ظلتْ، وينعدم بمجرد انعدامها. وهو ما حدا بكثير من العلماء إلى الاستناد على المصالح المُرْسَلَةِ التي لَمْ يَشْهَدْ الشَّرْعُ بِاعْتِبَارِهَا وَلَا بِإِلْغائِهَا بِدَليلٍ مُعَيَّنٍ من نص أو إجماع أو قياس. علما أن جميع الأحكام المُتَوَلِّدَةِ عن الاجتهاد ومُراعَاةِ المصالح تَتَغَيَّرُ وَتَتَبَدَّلُ بِتَبَدُّلِ الزمان وأخلاقِ الناس.
غير أن الحكم في المسألة بما يتفق مع العلة ومصالح الناس لا يترتب عليه إلغاء الحكم السابق الوَارِدِ بِهِ النَّصُّ، وإنما رفع لَهُ لِعَدَمِ وُجُودِ مَحَلٍّ يَظْهَرُ فِيهِ، بحيث إذا تغير وجه المصلحة إلى ما كان عليه وَقْتَ صُدورِ الحكم فإنه يظهر من جديد، وهذا ما يعود بنا إلى القاعدة السالفة: الحُكْمُ يَدُورُ مَعَ عِلَّتِهِ وُجُودًا وَعَدَمًا.
وأستسمحكم في ختم هذا العرض، بكلمة بليغة للفقيه ابن قيم الجوزية، حيث يقول: “إن الشريعة مَبْنَاهَا وَأَسَاسُهَا على الحِكم ومصالح العبادِ في المَعَاشِ والمَعَادِ، وهي عَدْلٌ كُلهَا، ورحمةٌ كلها، ومصالحُ كلها، وحكمةٌ كلها، فكل مسألةٍ خَرَجَتْ عن العدلِ إلى الجَوْر، وعن الرحمة إلى ضِدّهَا، وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحِكْمَةِ إلى العَبَثِ، فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بِالتَّأْوِيل”.