QUO VADIS, AÌDA ?
فيلم دراما – تاريخ- حروب، من إنتاج سنة 2020 ومن اخراج JASMILA ZBANIC.
مدة الفيلم ساعة وواحد وأربعون دقيقة، وتم استلهامه من كتاب “تحت راية الأمم المتحدة” أو «Under the UN flag» الذي يتناول أحداثا واقعية.
يحكي الفيلم قصة «عايدة» المُدَرِّسة التي أصبحت تعمل مترجمة لدى مبعوث الأمم المتحدة خلال فترة احتلال الصرب لمدينة “سربرنيتسا” البوسنية. وهي زوجة وأم لشابين: «سِييو» و «حمْدِية». يأخذنا الفيلم في رحلة منفردة رمزها الأبرز القسوة والعنف والدَّمار، تَدفعُ الأُمُّ بأقصى ما تملك في سبيل الذَّود عن نفسها وعن أسرتها في زمن أصبح فيه الخنوع والاستسلام فضيلة، والمقاومة خطيئة.. والتمرد جريمة جزاؤها الموت.
أولى المشاهد تُصور كولونيلاً في جيش حلف “الناتو” وهو يحاور رؤساءه بشأن تفعيل إنذار يرمي إلى قصف الجيش الصربي بضربات جوية إذا ما خوَّلت له نفسه المساس بمدينة “سربرنيتسا” باعتبار هذه الأخيرة “منطقة أممية آمنة”: فوِفقاً للقرار 819، اعتُبرت سربرنيتسا منطقة آمنة تحت حماية الأمم المتحدة. غير أن تواجد أصحاب القبعات الزرقاء على أرض الميدان لم يمنع تعرُّض المدينة للاحتلال في شهر يوليو من سنة 1995 من طرف الجيش الصربي.. فأصبحت حياة 30 ألف شخص في خطر تتأرجح بين القتل والتهجير..
على أرض الواقع، تقليبُ بعض صفحات تاريخ أوروبا الشرقية يُظهر على أن حرب البوسنة والهرسك التي امتدَّت من 1 أبريل 1992 إلى 14 ديسمبر 1995 كانت عبارة عن نزاع دولي مسلح انخرطت فيه قوى سياسية متعدِّدة مَثَّلت أطراف الصراع: فمن جهة، هناك جمهورية صرب البوسنا، وجمهورية يوغوسلافيا الإشتراكية الاتحادية، وجمهورية كراجينا الصربية، وهي القوى الغازية التي اتحدت تحت لواء واحد للسيطرة على الأراضي البوسنية. و من جهة أخرى، نجد جمهورية البوسنة و الهرسك،و كرواتيا، و “الناتو” لاحقا، و هي القوى المتحدة للدفاع عن الأراضي البوسنية و حماية المدنيين.
تعددُ القِوى المتنازعة وخلق ما يشبه الأحلاف العسكرية بناء على تقسيمات ايديولوجية يُؤشِّرُ بما لا يدعُ مجالا للشكِّ على أن حرب البوسنة والهرسك تجاوزت حدود الحرب التقليدية حيثُ يطغى نمط التفكير الاستراتيجي الضيق المرتبط أساسا بالجغرافيا، إلى ما هو أبعد من ذلك.
إنه خلاف فكري وإيديولوجي عقائدي قبل كل شيئ يُحسمُ فيه النصرُ بآليات كثيرة غير الأسلحة النارية؛ إذ يتعلق أولا بكينونة الفرد: لذلك نجدُ أن هاجس القادة العسكريون لم يكُن الظفر بقطعة أرضية، بقدر ما كان الهدف إخضاع «الغير «وإسماع العالم صوت وحيد.. وبالتالي صياغة الهوية الدينية والتاريخية للعرق الصربي على مقاسات محددة.
ممّا يساعدُ على فهم نزاع 1992 هو صعود القومية العرقية التي شهدت نهضة كبيرة ثمامينيات القرن الماضي، سواء بأوروبا أو العالم النامي. وقد كانت البوسنة والهرسك، وهي مقاطعة عثمانية سابقة، دولة متعددة الأعراق؛ فوفقا لتعداد عام 1991: اعتَبَر 44٪ من السكان أنفسهم مسلمين، و32,5٪ صربا، و17٪ كرواتيين، و16٪ يصفون أنفسهم بأنهم يوغوسلافيين..
بناء على هذا المُعطى، يمكن أن نقول بأن البوسنة والهرسك بلد أفضى به تباينه العرقي-الثقافي في ظل احتقان تيارعرقي متعصب إلى حرب أودت بحياة ما يقارب 97,214 قتيلا، من بينهم 64,341 من المسلمين البوسنيين يتراوحون بين جنود ومدنيين. كما تم استهداف اغتصاب النساء المسلمات في البوسنة بشكل خاص؛ حيث تُشير تقديرات لأعداد النساء اللائي تعرضن للاغتصاب ما بين 20,000 إلى 50,000 امرأة وفتاة. وقد سَجَّل التاريخ على أن حرب الصرب على المسلمين البوسنيين شكَّلت أول حالة إبادة جماعية في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية وما عُرِف “بالهولوكوست”.
بالعودة إلى الفيلم، فإنه مع بداية القصف على المدينة ودخول الجنود الصربْ، سارعت قوات الأمم المتحدة متمثلة في حلف “الناتو” بإنشاء قاعدة استعجالية استطاعت أن تأوي 5 آلاف مواطن، فيما أُغلق الباب في وجه الآخرين الذين بلغ عددهم قرابة 25 ألف مواطن بوسني كانوا يرجون الاحتماء “تحت راية الأمم المتحدة”. العقدة هنا هو أن أفراد عائلة «عايدة» (زوجها وولدَيْها) كانوا ممّن لم يستطع الولوج ‘لى القاعدة،
مع بلوغ «عايدة» الخبر، سعت مدفوعة بعاطفة الأمومة ومستغلة كل الامتيازات التي تتوفر عليها بوصفها موظفة لدى الأمم المتحدة، لحماية عائلتها بإدخالهم إلى القاعدة الأممية. غير أنها ستواجه موقفا صلبا من الرائد والكولونيل، هذا الأخير الذي استدل على رفضه بأن الحشد الجماهيري في الخارج من شأنه أن يثور إذا سمح هو بإدخال أفراد أسرتها دون الآخرين.. غير أنه بعد إصرار ورجاءٍ فريدين يبعثهما في قلب الأم حبها لأسرتها، أدرك الكولونيل إستحالة ثنْيِها عن مقصدها، فخضع لرغبتها بشرط أن تُدخِلهم في الليل وتحت جنح الظلام.
على مدار أحداث الفيلم يمكن للمشاهد أن يلاحظ بدون عناء مرونة «عايدة» الأم في ارتداء قبعاتٍ متنوعة وتولي المسؤولية الكاملة على الأسرة حسب الظروف والأزمنة المختلفة؛ من خلال تنقلها السلس بين لعب دور الأم الحنون القلقة الخائفة على فلذات كبدها، وبين لعب دور الأب القوي المتسلط الذي يستطيع فرض إرادته على باقي أفراد أسرته.. كل ذلك في ظل وجودٍ خافت لشخصية الأب والأبناء.
كان من الممكن اعتبار قرار اختيار شخصية نسائية للعب دور البطل مجرد تنفيذ لأجندةٍ نسوية اعتدنا مشاهدتها في الأفلام مؤخرا.. لكن التصوير المتقنُ للبعد السيكولوجي لشخصية الأب والأبناء، والذي كان يغلب على بنيتهم الفكرية طابع التردد، جعل من قيادة «عايدة» المندفعة الجسورة لأفراد العائلة شيئا مقبولا، بل منطقيا.
داخل القاعدة الأممية كان الناس يرزحون تحت ظروف غذائية، معيشية، وصحية كارثية: فإلى جانب عامل الإكتظاظ، وانعدام الخصوصية، والرعب الذي تقذفه أصوات القذائف الصربية في نفوس البوسنيين، افتقدت القاعدة لبعض المواد الحيوية كالماء والطعام، أو حتى دورات المياه. أما بالنسبة لمن لم يُسعفهم الحظ وظلّوا خارج القاعدة، فينضافُ إلى لائحة معاناتهم عامل الشمس الحارقة التي ساهمت في استنزاف طاقتهم في فترة وجيزة.
من جهة أخرى، وفي الحقل الأدبي بالتحديد، استغل المهندس والروائي المغربي الشاب «عبد المجيد سباطة» واقعة حرب البوسنة والهرسك لينسج من خلالها مادته القصصية في روايته “ساعة الصفر” الصادرة سنة 2017. وقد ركز فيها الكاتب أكثر على ويلات هذه “المذبحة” والظروف القاسية التي عاشها البوسنيين على مدار سنوات الحرب.
من روايته نقتبس: “كل القصص الإنسانية مؤلمة مهما اختلفت الأعراق والطوائف والأديان، كل جرح هو مؤلم خاصة عندما يكون من صنع الإنسان. ”
برجوعنا إلى أحداث الفيلم، فإن القاعدة المُحدثة لحماية المدنيين لم تُفلح إلَّا في إرجاء الكارثة؛ فقد استطاع الجنود الصرب بقيادة الجنرال «ميلاديتش»، و هو بالمناسبة الاسم الحقيقي للجنرال الذي قاد الهجوم على البوسنة سنة 1995، استطاعوا اقتحام القاعدة و إخراج من كان بالداخل و فرزهم ليتم نقلهم فيما بعد : النساء و الأطفال أولا، أما الرجال و الشباب فأبقوا عليهم حيث تم قتل البعض على بعد أمتار من القاعدة رميا بالرصاص، و على مرأى و مسمع زوجاتهم و أبنائهم، في ما تم نقل آخرين عبر حافلات إلى غرفٍ مغلقة حيث تم تكديسهم و إبادتهم بشكل جماعي باستعمال الغازات السامة.. وضمن هؤلاء كانت أسرة «عايدة»، التي فشِلَت كل جهودها في تجنيب ذويها معانقة التراب.
وفي لحظة واحدة، أصبحت «عايدة» أرملة وثكلى…
في آخر الفيلم نشاهد «عايدة» وقد عادت لمهنة التدريس. المهنة التي زاولتها في العهد الذي لم يكن فيه أيّة حروب. تُدرِّسُ أطفالا صغارا ترى فيهم تعويضا عن أبنائها المقتولين، ومستقبلاً مشرقا لبلادٍ دُمِّرت، وأملاً يُقوِّيها ويحُثُّها على متابعة المسار.
ترشح الفيلم سنة 2021 للأوسكار كأفضل فيلم أجنبي، كما فاز ب 19 جائزة أخرى من أصل 31 ترشيح.
في الأخير، يمكننا أن نتساءل عن القيمة الفنية لتبني الأحداث الواقعية في الأعمال الإبداعية: هل يُعتبر استلهام قصة الفيلم أو الرواية من أحداثٕ واقعية نقطة قوة أم نقطة ضعفٍ بالنسبة للعمل الفني؟ وهل يمكن اعتبار الدراما المبنية على أحداثٕ حقيقية أقوى من حيث التأثير مقارنة مع نظيرتها المُتخَيَّلة؟ أم أن تأثير الدراما مُرتبطٌ أساسا بمدى جودة النص والحوار ولا يختلف عموما سواء أكانت وقائع حقيقية أم مُبتدعة؟