ما هو أكيد أن صدمة هجوم 7 أكتوبر وما تلاه من أحداث دامية أعاد القضية الفلسطينية إلى أجندة المجتمع الدولي بعد أن كان قد طواها النسيان وأصبح الحديث فقط عن تقديم دعم مالي واقتصادي للفلسطينيين دون الاهتمام بحقهم كشعب في وطن آمن ودولة ذات سيادة. لكن رغم ذلك علينا ألا نغفل أن معسكر أوسلو تضاءل داخل إسرائيل التي مال مجتمعها إلى أقصى اليمين مقابل تراجع خطير للقوى اليسارية ممثلة في حزب العمل، وصعود الأحزاب الدينية المتطرفة التي تؤمن بقوة أنها تحقق أحلام شعب الله المختار. من هنا وبدون ضغوط دولية قوية، وخاصة من الحليف والراعي الأمريكي، فإنه من المستبعد جدا أن تأخذ الطبقة السياسية الإسرائيلية العبرة مما يجري حاليا وتتجه نحو تحقيق سلام الشجعان.
انتفاضة ثالثة
قبل الحديث عن سيناريو انتفاضة فلسطينية ثالثة في حالة انسداد الأفق السياسي بعد نهاية حرب الإبادة ضد فلسطينيي غزة واستمرار إسرائيل في الاعتماد على سياسة التقتيل والاعتقال والتهجير لضمان راحة وطمأنينة مستوطنيها، لابد من التذكير ولو بتركيز شديد بوقائع الانتفاضة الأولى والثانية وببعض الاستنتاجات المتعلقة بها.
كما أشرنا إلى ذلك أعلاه، تميزت الانتفاضة الفلسطينية الأولى والتي عرفت إعلاميا بانتفاضة الحجارة والتي امتدت ما بين دجنبر 1987 إلى أن توقفت نهائيا عام 1993، بطابع نضالها السلمي واتخذت العصيان المدني أسلوبا ناجعا في مقاومة الاحتلال، فعملت على مقاطعة البضائع الإسرائيلية وخوض إضرابات قطاعية وكتابة الشعارات على الجدران ورشق جنود الاحتلال بالحجارة مما أكسبها تعاطف الرأي العام العالمي بل وحتى جزء من قوى السلام الإسرائيلية، وكان لها الفضل الكبير في استمرار جذوة النضال الفلسطيني بعد خروج قوات منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان بعد حرب 1982، وفي تحقيق بعض المكتسبات تمثل أهمها في الانسحاب الإسرائيلي من بعض مدن وقرى الضفة ومن قطاع غزة وتبني المجتمع الدولي لحل الدولتين.
جاءت الانتفاضة الثانية التي امتدت زهاء أربع سنوات ونصف (28 سبتمبر 2000 إلى 8 فبراير 2005) كرد فعل مباشر على خيبة أمل الفلسطينيين من توقف قطار أوسلو وفشل المفاوضات. وبخلاف الانتفاضة الأولى لعبت الفصائل الفلسطينية المسلحة وتحديدا حركتي فتح وحماس دورا كبيرا فيها، بيد أنها كانت تفتقد لرؤية واستراتيجية وطنية موحدة، مما كان له الأثر السلبي على مسارها ومآلها رغم التضحيات الجسيمة التي قدمها الفلسطينيون: 4412 قتيل و48.322 جريح (مقابل 1069 قتيل و4500جريح إسرائيلي)، ناهيك عن الخسائر الاقتصادية.
لقد كانت استراتيجية فتح بقيادة ياسر عرفات تتلخص في ممارسة ضغط ميداني: عسكري وجماهيري يجبر إسرائيل على تنفيذ ما تملصت منه (تجميد المستوطنات ومنح القدس الشرقية للفلسطينيين لجعلها عاصمة لدولتهم)، أما حماس فكانت لها استراتيجية مغايرة جذريا انطلاقا من ميثاقها ورؤيتها السياسية إذ سعت إلى تقويض اتفاق أوسلو وحل الدولتين، وتبنت شعار تحرير كامل فلسطين من البحر إلى النهر.
انطلاقا من هاته الرؤى والاستراتيجيات المتباينة ركزت فتح والتنظيمات التابعة لها (كتائب شهداء الأقصى) على توجيه عملياتها ضد القوات الإسرائيلية في نطاق الأراضي المحتلة بعد حرب يونيو 1967، بينما لم تضع حماس أية قيود سياسية أو جغرافية لعملياتها إذ شملت عملياتها قطاع غزة بالدرجة الأولى والعمق الإسرائيلي عبر عمليات انتحارية ضد المدنيين والعسكريين (حافلات ركاب، مطاعم، ملاهي ليلية…).
وقد استغلت إسرائيل تلك التجاوزات (والتي انساقت إليها جزئيا كذلك بعض قواعد فتح) في إثارة حساسية المجتمع الدولي إزاء الأعمال المسلحة التي تستهدف المدنيين، وقامت باجتياح الضفة واعتقال المئات من مناضلي فتح وكوادرها وفي مقدمتهم القائد مروان البرغوثي، وتدمير مقرات السلطة، وفرضت حصارا على مقر عرفات في رام الله إلى أن تمكنت من التخلص منه عبر تسميمه.
استقراء للتجربة التاريخية للانتفاضتين الأولى التي تمكنت من تحقيق مكاسب مهمة للفلسطينيين والثانية التي باءت بالفشل رغم كل التضحيات، يمكن القول إن سيناريو انتفاضة ثالثة في الضفة الغربية في حالة استمرار انسداد الأفق السياسي بعد نهاية حرب غزة الحالية، صعب التحقيق باعتبار الانقسام الواضح في الشارع الفلسطيني ما بين وجهة نظر تعتبر أن نهج عسكرة الانتفاضة الثانية أدى إلى فشلها لأن موازين القوى مختلة بشكل سافر، إضافة إلى كون أمريكا والدول الغربية تمنح إسرائيل شيكا على بياض لممارسة كل الانتهاكات الممكن تخيلها لحقوق الإنسان ضد الفلسطينيين (لا تتذكر تلك المبادئ وتتباكى عليها إلا إذا تم استهداف مدنيين إسرائيليين بشكل من الأشكال)، وبالتالي يمكن البحث عن صيغ جديدة واستثمار المقاومة السلمية . أما وجهة النظر الثانية فتعتبر أن لا بديل عن المقاومة المسلحة وتغيير موازين القوى على الأرض مهما طال الزمن ومهما كانت التضحيات.
الستاتيكيو
في الختام لا يمكن استبعاد سيناريو صمود حماس، وبقاء الوضع على ما هو عليه رغم كل الخسائر التي ستلحق بقدراتها وبنيتها العسكرية، ونهوضها مجددا من تحت رماد الدمار، وإعادة بسط سيطرتها على القطاع؛ في هذه الحالة، ستواجه حماس العديد من الأسئلة الصعبة وفي مقدمتها كيفية تلبية حاجيات وتكلفة إعادة إعمار القطاع الذي تعرض لتدمير وتخريب غير مسبوقين بحيث أضحى مئات الآلاف بدون مأوى ولا مصدر للرزق؟ وهل ستغامر الدول المانحة مثل قطر بضخ ملايير الدولارات في إعادة بناء القطاع دون توفر ضمانات وتسويات تحول دون عودة شبح الحرب بما تعنيه من دمار وعودة إلى نقطة الصفر؟ وهل يمكن لحماس أن تصبح طرفا في المعادلة السياسية التي ستنشأ في الشرق الأوسط من أجل حل للقضية الفلسطينية دون القبول من جهة بمقررات الأمم المتحدة وبحل الدولتين بناء على القرار الأممي 181 الصادر في نوفمبر 1947 والذي يقضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين عربية وإسرائيلية، ومن جهة ثانية دون إغضاب إيران وحلفائها في المنطقة الذين يوفرون لها دعما ماليا وعسكريا مكنها من أن تطور قدراتها إلى درجة أنها وجهت صفعة تاريخية لإسرائيل؟
ما هو أكيد فإن الوضع في غزة وعموم الشرق الأوسط لن يظل كما كان عليه قبل السابع من أكتوبر، ويظل الأمل، مهما كان حجم المأساة والدمار، في أن تخرس أصوات المدافع وتنتصر إرادة السلام عبر تحقيق المطالب المشروعة للشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة.