كان الليل بارداً، يلف المدينة بردائه الرمادي، والضباب ينسج خيوطه فوق الأرصفة المبتلة، يعكس الأضواء الخافتة كأنها نجوم هاربة من سماء بعيدة.
جلست في المقعد الخلفي لسيارة الأجرة، أرهف السمع لحوار متقطع بين السائق والشارع.
أخرجت هاتفي، تحسست الوقت، ثم وضعته فوق محفظتي التي استقرت على فخذي.
بعد لحظات، دفعتها إلى جيبي، ولم أنتبه أن الهاتف لم يرافقها.
حين عبرت بوابة الحي الجامعي، كان كل شيء هادئاً، عدا تلك الدهشة التي تسللت إلى أعماقي حين فتشت عن الهاتف فلم أجده.
لم يكن شعوراً بالفقدان، بل كأن شيئاً انسلّ من عالمي بلا صوت، بلا أثر.
أدركت في لحظة أن الهاتف لم يكن مجرد جهاز، بل نافذة على عالم آخر، عالم اعتدت على وجوده،
لكنه الآن أفلت من قبضتي. ومع ذلك، لم أشعر بالجزع، فقط تابعت طريقي، دخلت غرفتي، وأغلقت الباب خلفي، كأن شيئاً لم يكن.
لكن النوم أبى أن يزورني تلك الليلة. لم يكن الهاتف ما يشغلني، بل تلك الإنسانة التي كانت قلقة عليّ أكثر مما يقلقني فقدان شيء مادي.
كنت أتقلب على سريري، أستعيد في ذهني صوتها حين أخبرتها بالأمر، كيف تسلل التوتر إلى نبرتها، وكيف حاولتُ عبثًا طمأنتها بأن الأمر لا يستحق كل هذا القلق. لم أكن أعلم أيهما أثقل على صدري؛ إحساسي بالذنب تجاه قلقها أم شعوري الغريب بالراحة في غياب الهاتف؟
حين غلبني النعاس أخيراً، كان ذلك أشبه بالاستسلام إلى الراحة، وكأنني أبحرت في بحر بلا ضفاف، تاركاً خلفي ضجيج العالم، ومستسلماً لصمت لم أختره.
حين تسللت خيوط الفجر الأولى عبر النافذة، نهضت وقد عقدت العزم على اتخاذ الخطوة المنطقية: تسجيل محضر في الشرطة.
لم يكن الأمر يعني لي كثيرًا، لكنه كان إجراءً لا بد منه.
وصلت إلى المركز، وقفت أمام الضابط، وشرحت له ما حدث. أومأ برأسه، ثم سألني بلهجة عملية:
— “هل معك أحد؟”
— “لا، جئت وحدي.”
تبادل نظرة سريعة مع زميله، ثم قال بنبرة حاول أن يجعلها ودية:
— “آسف، لا يمكننا تسجيل محضرك إلا بوجود شخص معك، فنحن لا نستطيع أن نقرأه عليك وأنت كفيف.”
كان في صوته شيء يشبه الاعتذار، لكنه لم يغيّر من وقع الكلمات عليّ.
وقفت للحظة بين الصدمة والذهول، ثم ابتسمت بسخرية مريرة.
لم يكن الهاتف ما ضاع فحسب، بل حقي في أن يُعامل بلاغي كأي بلاغ آخر.
شعرت كأنني غير مرئي، كأن وجودي بين جدران هذا المكان مجرد تفصيل لا يؤخذ بالحسبان.
خرجت بنفس الهدوء الذي جئت به، لكن داخلي كان يعجّ بالأسئلة.
كيف يمكن لبلد يتباهى بتنظيم الأحداث الكبرى أن يكون عاجزًا عن توفير أبسط الحقوق؟
هل نحن حقًا جزء من هذا المجتمع، أم أننا مجرد هامش يُنظر إليه حين تستدعي الحاجة؟
لكن رغم الغضب الكامن، لم أشعر بالحزن على الهاتف نفسه، بل على حقيقة أنه حتى العدالة، في لحظة ما، قد تصبح امتيازًا لا حقًا.
عدت إلى الحي الجامعي بخطوات ثابتة، دون أن أنظر إلى الخلف، كأنني أخشى أن يطاردني الإحساس بالعجز الذي حاولت أن أدفنه هناك، في ذلك المركز.
لم يكن فقدان الهاتف يستحق هذا الكم من المشاعر، لكن ما أثقل عليّ هو ذلك الإحساس بأنني، في لحظة ما، لم أكن موجودًا بما يكفي ليستمع إليّ أحد.
مرت الأيام، ولم أشعر بفقدانه كما توقعت. على العكس، سكنتني راحة غريبة، كأنني تحررت من قيد غير مرئي.
لم يكن هناك رنين يقطع سكوني، ولا إشعارات تسرق انتباهي، ولا شاشة تبتلع ساعاتي دون وعي.
كنت أكثر حضورًا مع أصدقائي، أكثر انتباهًا للأحاديث التي تجري حولي، أكثر انغماسًا في عالمي الحقيقي.
لكن رغم كل هذا، كان هناك شيء ناقص. لم يكن الحنين للهاتف نفسه، بل إلى الكتابة.
كنت أكتب أينما كنت، أسجل خواطري فور أن تتسلل إلى ذهني، قبل أن تهرب. استعرت هاتف صديقتي، لكنه لم يكن كافيًا.
القارئ الصوتي فيه لم يكن يعمل جيدًا، وحتى حين حاولت أن أتكيف مع ذلك، شعرت أن شيئًا ما قد كُسر في عاداتي اليومية.
فالكتابة بالنسبة لي لم تكن مجرد كلمات تُسجل، بل لحظات تُوثق، أفكارًا تُخلد قبل أن تتلاشى.
كنت أدرك أنني أستطيع العيش دون الهاتف، لكنني لم أستطع العيش دون الكتابة.
كان الأمر أشبه بمحاولة العيش دون ذاكرة، دون وسيلة للاحتفاظ باللحظات التي تستحق أن تبقى.
ومع مرور الأيام، بدأت أتساءل: هل نحن فعلاً بحاجة إلى الهاتف، أم أننا فقط نخشى الفراغ؟
في البداية، كنت أظن أنني تحررت، أنني استعدت هدوئي وسط عالم يزدحم بالأصوات والإشعارات، لكن مع الوقت، أدركت أن الهاتف لم يكن مجرد جهاز، بل كان نافذتي على الكلمات، على توثيق لحظات لا أريد لها أن تضيع.
لكن المفارقة الحقيقية لم تكن في فقدانه، بل في الطريقة التي شعر بها الآخرون حيال ذلك.
عائلتي كانت قلقة، أصدقائي ظنوا أنني سأكون معزولًا بدونه، وكأن الهاتف لم يكن لي وحدي، بل كان وسيلتهم للوصول إليّ. ربما لم أكن بحاجة إليه بقدر حاجتهم إليّ من خلاله.
وحين حصلت أخيرًا على هاتف جديد، لم أشعر بتلك الفرحة التي توقعتها.
لم يكن الأمر كاستعادة شيء مفقود، بل كإضافة شيء جديد إلى عالمي، شيء أدركت أنني أستطيع العيش بدونه، لكنني اخترت العودة إليه بوعي مختلف.
لم أعد ذلك الشخص الذي يأخذ هاتفه كأمر مسلّم به، بل أصبحت أكثر وعيًا بقيمته، ليس كوسيلة ترفيه، بل كأداة تمنحني صوتًا، ونافذة تطل على العالم، والأهم من ذلك، كدفتر ملاحظات لا أستطيع الاستغناء عنه.
واليوم، وأنا أكتب لكم من جديد، أشعر أنني عدت إلى مكاني الطبيعي، إلى حيث تنتمي كلماتي.
اشتقت إليكم، اشتقت إلى قرّائي، وإلى الرحلات التي كنا نخوضها معًا عبر الزمن، في سيرة العظماء الذين صنعوا التاريخ. والآن، بعد هذه الاستراحة غير المتوقعة، حان الوقت لنستأنف رحلتنا مع “آثار الخالدين”، حيث نغوص في حكايات أولئك الذين بصموا العصور بأدائهم العسكري أو السياسي أو الأدبي. فاستعدوا، لأننا على موعد مع رحلة جديدة، إلى زمن جديد، مع شخصية جديدة، تروي لنا فصلًا آخر من فصول التاريخ.
لن يكون التوثيق التاريخي غايتنا الوحيدة، بل سنخوض أيضًا في ميادين الصحافة عبر روبرتاجات وتقارير وحوارات، إلى جانب مفاجآت أخرى ستتكشف مع الوقت.
كل ذلك سيجد طريقه إليكم عبر صحيفتنا الإلكترونية لوبوكلاج، التي أتوجه بخالص الشكر إلى مديرها، الدكتور إبراهيم الشعبي، وإلى جميع أفراد طاقمها، على جهودهم في جعلها صوتًا للحقيقة أينما كانت.