يجب الاعتراف بأنه رغم وجود تشابه طفيف بين محاولة روسيا احتلال أوكرانيا، واحتلال إسرائيل لفلسطين، إلا أن الفرق الجوهري بين الحالتين كبير. القوات الأوكرانية تظهر مقاومة حازمة وعنيفة ومسلحة، أمام الجيش الروسي المحتل. وقد نجحت كما يبدو حتى الآن بقتل آلاف الجنود الروس. وها هو العالم الحر كله يصفق لهم بدون توقف، ويعتبرهم أبطالاً يحاربون من أجل حرية شعبهم الوطنية. في المقابل، إذا قام الفلسطينيون بمهاجمة وقتل جنود الجيش الإسرائيلي في المناطق المحتلة، فسيعتبرون إرهابيين متعطشين للدمار، ليس فقط من قبل الإسرائيليين (الأمر المفهوم تماماً إزاء النزاع القومي الدموي)، بل أيضاً من قبل الدول الغربية، تلك التي تحبس الأنفاس وهي تشاهد بطولة المقاومة الأوكرانية.
سبب هذا الفرق واضح جداً؛ فالأوكرانيون لهم دولة قومية معترف بها وشرعية، في حين أن الفلسطينيين قومية بدون دولة. الدولة، مثلما أحسن وصفها أحد الاشتراكيين الكبار، ماكس فيبر، هي تلك السلطة في داخل المجتمع التي تمسك بيدها احتكار استخدام العنف الشرعي. من المفهوم ضمناً، بناء على ذلك، أن العنف الذي يستخدمه جنود الجيش والمواطنون المسلحون في الدولة الأوكرانية ضد الجنود الذين قاموا بغزو أراضيها يعتبره المجتمع الدولي مشروعاً. خلافًا لذلك، شرعية العنف من جانب جمهور ليست له دولة، ستكون شرعية مشكوكاً فيها.
هنا تتضح بكامل العبثية ثرثرة ما بعد الحداثة حول “نهاية عصر الدولة”، وهو الشعار الذي ظهر دائماً في خطاب العولمة ما بعد القومية. حيث إن الدولة القومية بصيغتها “القديمة”، دولة ذات سيادة ومستقلة في حدود معترف بها من قبل أسرة الشعوب، هي الآن الذخر الأكثر حيوية بالنسبة للشعب الأوكراني، الذي يعطيه الحق الثابت للدفاع عن الذات من محتل أجنبي.
الشعب الفلسطيني، في المقابل، الذي ليست له دولة قومية خاصة به، متروك لمصيره أمام دولة إسرائيل المحتلة التي تطرد وتسلب ممتلكاته، بدون الحق المتفق عليه من قبل جانب المجتمع الدولي للرد بقوة على سلطات الاحتلال الإسرائيلية. هذا أيضاً عندما يدور الحديث عن مقاومة لجنود مسلحين، الذين استهدف وجودهم على أراضي فلسطين المحتلة تأمين سلب الأراضي الفلسطينية وضمان استمرار الترويج لليوتوبيا القومية المتطرفة – المسيحانية التي هدفها الوحيد طرد الفلسطيني من وطنه.
الدرس الرئيسي الذي يمكن استخلاصه من المعركة الروسية – الأوكرانية الحالية، هو أن الدولة القومية ما زالت تشكل الإطار الأساسي الوجودي المفهوم ضمناً لدفاع الإنسان أمام الإنسان ودفاع القومية أمام قومية أخرى. بسبب ذلك، معظم المجتمع الدولي لا يشتري ديماغوجيا “الحكم الذاتي” لبوتين والتي تقول بأنه من الأفضل للأوكرانيين، “الأخوة السلافيين الصغار” للشعب الروسي الكبير، أن يعيشوا في إطار الفيدرالية الروسية متعددة القوميات.
هنا تكمن المشكلة؛ فتحت غطاء الخطاب ما بعد القومي التقدمي، يريدون بيع هذه البضاعة المتعفنة للفلسطينيين، سواء بوصف “دولة ثنائية القومية” أو على شكل أي كيان غريب أقل من دولة آخر، في الوقت الذي إذا قام كيان من هذا النوع يوماً بالفعل، فسيكون هذا بالنسبة للفلسطينيين سلالة أخرى من “خطة ترامب” أو “أقل من دولة”. وإذا انضمت أوكرانيا للفيدرالية الروسية، فإن هيمنة روسيا على الشعب الأوكراني ستبقى موجودة، مثل هذا الأمر سيحدث أيضاً في إطار “الدولة الواحدة” في إسرائيل/ فلسطين. وهكذا للأسف الشديد، في إطار كونفيدرالية، التي كما يبدو من شأنها أن تضمن مساواة كاملة بين دولتين سياديتين مستقلتين، فإن الإسرائيليين اليهود من غير المتوقع أن يتنازلوا عن تفوقهم القومي أمام الفلسطينيين (الفلسطينيون أيضاً، من ناحيتهم، لا يتوقع أن يتنازلوا عن حلمهم في إمساك زمام الهيمنة القومية بأيديهم).
إذا يمكن الأمل بأن تنتهي الحرب في شرق أوروبا بترسيخ الاستقلال السياسي الكامل لأوكرانيا، فإن مبدأ السيادة القومية سيحصل على تعزيز ويتم تأكيده ويصبح قابلاً للتطبيق في الخطاب الدولي. بالمناسبة، مسموح لنا الأمل بأن نموذج الدولتين، الذي لا يتوقفون عن دفنه هنا في السنوات الأخيرة، سيعود بكامل القوة على اعتبار أنه الطريقة الصحيحة للمصالحة والمساواة الحقيقية بين الإسرائيليين والفلسطينيين.