نابلس- “القدس العربي”: في ذاكرة الفلسطيني وممارساته اليومية عشرات الأمثال الشعبية التي يعتبر العدس محورها الرئيسي، ولعل أبرزها: “عدسٌ.. عدسُ.. والأولاد به غطسوا”، للتدليل على حب الأطفال له، وكذلك مثل: “العدس لحمة الفقير أو الفلاح”. فيما تبقى كلمة “كف عدس” التي يلخصها المثل الشهير “اللي بدري بدري (يعرف)، واللي ما بدري بقول كف عدس” الحكاية الأبرز التي تختلف وتتنوع الحكايات التي تحاول تفسيرها وذكر سياق قولها، ولعل أبرزها تلك الحكاية التي تقول إن والد فتاة طارد شاباً استفزه على ظهر البيدر، وبينما كان يركض الأب وراء الشاب، قام الأخير (الشاب) بحمل باقة عدس في كفه، وظلا يركضان حتى أخذ الناس يفصلون بينهم، وحينها قال الشاب إن الأب يلاحقه بسبب “كف عدس”، فأجاب والد الفتاة: “اللي بدري بدري، واللي ما بدري يقول كف عدس”.
والأمثال السابقة، وغيرها كثير، تدلل على حضور وتجذّر هذا النوع من البقوليات في حياة الفلسطيني ومنطقة بلاد الشام، حيث ينعكس ذلك على مائدة الفلسطينيين عبر مجموعة من الطبخات والأكلات الشعبية، ولعل أبرزها “شوربة العدس” التي تعتبر طبقاً مفضلاً على مائدة الفلسطيني في فصل الشتاء بحثاً عن الدفء الذي يدب في الأوصال عبر صحن من الشوربة السميكة والصفراء.
أما حكاية الشاب سلطان أبو سرية مع شوربة العدس فتعكس نجاحاً في تحويل هذه الشوربة إلى ما يشبه طعام أو “أكل شارع” في فلسطين.
ويعرف طعام الشارع بإنه طعام جاهز للأكل، أو شراب يباع في الشارع، أو أماكن عامة أخرى، مثل السوق أو المعارض، من قبل باعة متجولين، وغالبًا ما يكون على عربة طعام. وهو طعام يؤكل باليد بصفته وجبة سريعة، وهو أرخص أو متوسط السعر مقارنةً مع وجبات المطاعم.
وبحسب دراسة قديمة لمنظمة الأغذية والزراعة العالمية في عام 2007 فإن 2.5 مليار شخص يأكلون طعام الشارع كل يوم، وهو رقم معرّض للتضخم، في ظل ما قامت به المنصات الاجتماعية ومدونو الطعام من إشهار هذا النوع من الأكل الشعبي ودعم مشاريعه عبر المحتوى الذي يقدمونه على صفحاتهم المختلفة.
ويفضل كثر شراء طعام الشارع لعدة أسباب، مثل الحصول على طعام لذيذ، وفي مكان مؤنس، إضافةً للسعر المعقول، وأيضًا للحنين للماضي.
“ملك العدس”
“فكرة عرضية”، بحسب ما يقول أبو سرية جعلت منه “ملك العدس” في مدينة نابلس، بحيث يعطي الجميع الدفء في الشتاء عبر كؤوس من الورق المقوى.
ومن دون أن يدري نجح هذا الشاب، الذي بدأت علاقته مع الشارع من خلال بسطة صغيرة لبيع القهوة، في تحويل “شوربة العدس” إلى أكلة سريعة أيضاً.
وفي بداية الفكرة يقول أبو سرية إنه اعتاد الوقوف على بسطته على دوار الشهداء وسط مدينة نابلس، والتي يبيع عليها القهوة والشاي والسحلب التي كان منها “يلتقط رزقه”.
ويؤكد أن أصل الفكرة أن صديقاً له يعمد في مطلع كل شتاء على توزيع صحون العدس على أصدقائه كنوع من العطاء، وهو ما جعله يستمد من هذه الممارسة فكرة تقديم الشوربة للزبائن.
ولم يحتج أبو سرية إلى أكثر من ورقة صغيرة كتب عليها: “دفي حالك.. عدسك بالكاسة والصحن”، ووضعها على بسطته الصغيرة.
ورغم بساطة الفكرة إلا أن بصمات زوجة أبو سرية وحماته (أم زوجته) كانت حاضرة، يقول: “لقد استشرت زوجتي، وطلبت رأي حماتي، وتعهدتا بالمساعدة، وهو ما حدث فعلياً”.
وعبر طنجرة ضخمة يحركها بين الفينة والأخرى، يسكب أبو سرية للشباب الذين يتواجدون في ساعات المساء.
ويغلب على الزبائن أصحاب بسطات ومحلات مجاورة ومواطنون وشبان يقضون ساعات المساء الباردة وسط مركز المدينة الذي يحمل اسم “دوار الشهداء”.
وتعاني نابلس شمال الضفة الغربية من اقتحامات متواصلة من قوات الاحتلال غالباً ما تتكثف بعد منتصف الليل، وفي ساعات الفجر الأولى.
ورغم بساطة الفكرة إلا أنها نجحت لكونها تلبي حاجة في فصل الشتاء، حيث الأوقات الأكثر برداً في المساء.
وبجانب طنجرة ضخمة فيها العدس الأصفر المليء بالنكهات، جلب أبو سرية طاولة كبيرة وفرد عليها مستلزمات الطبق الشعبي من بصل وليمون وفجل وخبز محمّص..الخ.
وسيجد المار من جوار البسطة مجموعة من الكؤوس الورقية والصحون ذات الأحجام المختلفة لتلبية رغبة المشترين والباحثين عن الدفء والفائدة أيضاً.
ويلاحظ أن كأس العدس الساخن سيبدو بمثابة “تصبيرة” إلى حين العودة للمنزل، لكنها “تصبيرة جيدة ومفيدة وتجلب الدفء، إلى جانب أنها رخيصة الثمن”، كما قال أحد المشترين.
ما قبل التاريخ
وبحسب الباحثة نادية مصطفى، فقد ورد ذكر العدس عبر الزمن منذ عصور ما قبل التاريخ، وكان وجوده في حياة الفراعنة يدل على أن هذا النبات قد امتدت أراضيه حتى شملت العالم القديم. وتؤكد أنه ذُكر في الكتب السماوية، إلى جانب كونه رفيق درب المواطنين في الكفاح من أجل لقمة العيش، وهو يشكل بالنسبة لهم طعاماً زهيد الثمن عالي القيمة الغذائية والدوائية.
وتؤكد الباحثة مصطفى أن العدس يحتل مكانة مرموقة ومتميزة على لائحة الغذاء التقليدي الفلسطيني، وهو من أوائل المواد التي يجب أن تقتنى في “الخوابي”، كخزين إستراتيجي أساسي للأمن الغذائي، شأنه شأن القمح والزيت، حيث يستخدم من فئات الشعب الفلسطيني الثلاث: البدو والمدن والحضر.
وتضيف مصطفى، في مقال مطول حمل عنوان: “الطعام التراثي الموسمي: العدس غذاء تقليدي شعبي عريق”، أنه في فترة ما بعد النكبة أصبح العدس من أوليات المواد التي توزعها هيئة الأمم المتحدة في هيئاتها الإغاثية المختلفة على اللاجئين (عدس بذوره صغيرة، مستورد وغير بلدي).
أما في أيام الساحات والمضافات، فكانت أكلات وطبخات العدس ترسل إلى الساحة ليتناولها الرجال في المناسبات المحلية البسيطة، التي لا تحتاج إلى ذبائح وولائم عامة مكلفة. وهو طعام يمكن أن يعدّ في الخلاء (للعوينة) أيام جداد الزيتون أو مواسم حراثة الأرض. كما تقوم الجمعيات الخيرية بتقديمه كطبق تقشفي تجمع عليه الناس للتبرعات أو للقيام بعمل تطوعي جماعي.
يذكر أنه قبل فترة قصيرة قام شاب من ذات المدينة بفتح بسطة من أجل بيع المنسف عبر الكؤوس، وهي ذات الفكرة التي طبقت، قبل سنوات، في وسط العاصمة عمان، حيث لاقت نجاحاً كبيراً في مدينة يعتبر المنسف فيها الطبق الأكثر شعبية.
يذكر أن هذا النوع من البسطات التي تقدم الأطعمة الشعبية التقليدية، وتتفنن في تقديمها وعرضها، قد شهدت حضوراً كبيراً في فلسطين، لكونها أصبحت منقذاً في ظل حالة البطالة المرتفعة، حيث يتربع على قائمة أكل الشارع في فلسطين الفلافل والحمص والمشاوي بأنواعها، أما العدس فقد كتب له على يد الشاب سلطان أبو سرية أن يكون على هذه القائمة، وإن كان في موسم الشتاء فقط.