قبل يومين من رحيله عن عالمنا (04 أيار/مايو2003) كان الأنثروبولوجي اللبناني فؤاد إسحق خوري قد أنهى كتابة سيرته الذاتية، ليوصي زوجته ورفيقة مشروعه البحثي سونيا جلبوط بمهمة مراجعتها والإشراف على طباعتها.
كان الراحل قد أصيب بمرض الباركنسون في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، ومع مرور الأيام اشتدّ المرض عليه، إلا أنه استطاع مع ذلك إكمال عدد من كتبه وأبحاثه، ومن بينها هذه السيرة، التي إن كانت توحي بالذاتي وبقصص الماضي، لكنها أيضا تعد مشروعا كتابيا بحد ذاته لا يقل أهمية عن الأعمال العديدة التي ألفها هذا الرجل خلال حياته، خاصة أن السيرة الذاتية غدت في السنوات الأخيرة حقلاً يجول في ميدانه عدد من الأنثروبولوجيين للبحث في الماضي والحاضر، وما جرى من تغيرات في حياتنا اليومية، كما فعل عالم الأنثروبولوجيا المغربي حسن رشيق في كتابه «عودة إلى زمن أبي».

لكن خوري وخلافا لما اعتادته السير الذاتية من حديث عن الطفولة، لن يخصّص لهذا الجانب مكاناً كبيراً، ربما لشعوره بدنو الأجل، بل نراه في هذه السيرة يبدأ من أولى رحلاته في عالم الأنثروبولوجيا العربية، ليرصد لنا من خلالها كيف كان واقع هذا الفرع أو العلم في الخمسينيات والستينيات، قبل أن يصحبنا في رحلة ميدانية في عدد من المدن العربية والافريقية التي زارها وأعد عنها عددا من الدراسات. والطريف في هذه الرحلة عنوانها «دعوة للضحك» التي تعكس جزءا من حياة وطبيعة شخصيته، التي عرفت بالضحك المستمر منذ الصغر، ما دعاه إلى أن يكتب في سن الثامنة عشرة ملاحظة يقول فيها «صدقوني، لا أتعمد الضحك طيلة الوقت، لكنني لا أستطيع التوقف عن ذلك، ابتسموا معي».
وربما، كما يبوح لنا لاحقاً، فإن أحد أسباب اختياره لهذا العنوان أيضاً يتعلق بالفرع الذي درسه ومارسه (الأنثروبولوجيا) إذ يروي لنا كيف أن العديد من أبناء بلده كانوا يضحكون عندما أخبرهم عن مهنته، إذ اعتقدوا أنه يتحدث عن لغة غريبة أو عن اسم دواء جديد في متجر في زاوية هذا الشارع، وربما لم يتوقع راحلنا أن بعض هذه الصورة النمطية ستبقى سائدة إلى يومنا هذا، فكثير من المثقفين العرب إلى الآن يرون في هذا العلم شيئا غريباً، أو يعتبرونه من إرث الاستعمار وبقاياه. ويمكن القول إن هذه المواقف والصور بقدر ما تثير الضحك، فهي كذلك تثير الحزن والشقاء على واقعنا المعرفي، غير أن ذلك لن يحبط من همة أنثروبولوجي الستينيات، الذي سيؤسس لمشروع ميداني واسع حول الحرب الأهلية في لبنان، والقبيلة والدولة في الخليج العربي، وحول التراتبية الاجتماعية في الإسلام الافريقي والعرب، ورجال الدين والكثير من المواضيع الأخرى التي شغلت باله، والتي نعثر على بعض تفاصيلها في هذه السيرة، حتى يخيل للقارئ أحياناً أن كل ما يحيط به كان محلاً للدراسة،.
وهذا ما يذكره في مقدمة سيرته، إذ يقول إنه مع مرور الأيام «كان كل شيء حول عالم الأنثروبولوجيا موضوعا وثيق الصلة.. عند تناول الطعام خارج المنزل، وزيارة الأصدقاء، حضور الأعراس والمأتم، انتظار الرحلات الجوية، الرقص في الحانات الليلية، إقامة الجلسات في المقاهي» وربما في هذه الكلمات ما يذكرنا بما كتبه الأنثروبولوجي إيفين وينكين من أنّ بإمكان الأنثروبولوجي إعداد دراسة عن طريقة خروجه وعودته للمنزل، وعن كل شيء محيط به، ما يعني أن هذا الحقل لم يعد يتعلق بالقبائل والأنساب والمجتمعات الصغيرة حسب، بل يشمل كل مناحي الفضاء الحضري، وهذا يفسر تضخم مساحات وأدوات هذا الحقل في السنوات الأخيرة.
اكتشاف الأصول
تبدأ قصص الشاب فؤاد مع الأنثربولوجيا في عام 1956، عندما كان طالبا في السنة الثانية في الجامعة الأمريكية في بيروت، في تلك الأثناء كان البروفيسور شارل آدامز، يدرس (مقدمة الأنثروبولوجية) في قسم علم الاجتماع، وكان رجلاً غريبا، منعزلاً، يجمع أطراف السجائر الغليظة وأوراق الأشجار اليابسة. قرر خوري، من باب الفضول، التسجيل في هذا المقرر الذي كان يبحث في الانحرافات الرأسية في الشرق الأوسط في تلك الأيام، فقد كان علماء هذا الحقل يعتمدون القياسات البيومترية لتقييم الاختلافات العرقية.
تعلم خوري في هذه الدروس أن مقياس حجم الرأس في الشرق الأوسط يتراوح بين 72 و82، كما أخذ يحفظ مقاييس رؤوس باقي الأقوام، حتى غدت القصة المفضلة له عند اللقاء بزملائه، إذ بدأ يمزج المقاييس بالضحك ليحسب أصول زملائه من خلال رؤوسهم «أنت من أصل كردي، وأنت تنحدر من أصول أرمنية، وأنت ألماني» وما هي إلا أيام حتى أصبح مشهورا بين الطلاب بمعرفته بالأصول.
بيروت في الستينيات

بعد تخرجه من الجامعة، ستتاح له فرصة الانتقال إلى جامعة أوريغون في الولايات المتحدة الأمريكية للتخصص في هذا الحقل، وهناك سيسجل الشاب ملاحظاته حول المجتمع الأمريكي آنذاك، ومما سيكتبه أن الأمريكيين في الداخل أقل تعايشا مع العادات غير الأمريكية مقارنة بالأمريكيين في الخارج، الذين لا يتبنون مبدأ الانصهار ولا يحملون عبء «المهمة الحضارية» فهم لا يحاولون تغيير الآخرين حتى يعيشوا الحياة الخاصة بهم، وللمفارقة هنا، أن الراحل سيعيش بعد ذلك بعقود مشروعاً أمريكيا آخر غزا العراق باسم الديمقراطية والأحلام الليبرالية، قبل أن يقرر العودة مرة أخرى إلى أسواره.
تعلم خوري في هذه الدروس أن مقياس حجم الرأس في الشرق الأوسط يتراوح بين 72 و82، كما أخذ يحفظ مقاييس رؤوس باقي الأقوام، حتى غدت القصة المفضلة له عند اللقاء بزملائه، إذ بدأ يمزج المقاييس بالضحك ليحسب أصول زملائه من خلال رؤوسهم «أنت من أصل كردي، وأنت تنحدر من أصول أرمنية، وأنت ألماني» وما هي إلا أيام حتى أصبح مشهورا بين الطلاب بمعرفته بالأصول.
ومما يذكره عن رحلته لأمريكا قصة إناء الشنكليش (نوع من مقبلات بلاد الشام، تصنع من قريشة اللبن بتجفيفها وتخميرها) الذي رافقه في رحلته، وكان سببا في توقيفه في المطار للاشتباه به. أكثر ما سيتذكره عن تلك الفترة، الطعام الأمريكي السريع اللذيذ، ففي زمنه، كما يقول، كان طلاب الجامعة الأمريكية في بيروت يعتبرون الهوت دوغ عند مطعم العم سام، الذي كان يقع خارج بوابة الجامعة الرئيسية أكلاً فاخرا، بينما كانت الشاورما والقاورما أدنى مرتبة من هذه الوجبة. كما لاحظ أن أمريكا قد حررت العالم من عقدتين تتعلقان بملابس الرجال: اللون والإجراءات الرسمية، وأنه في بادئ الأمر كان يذهب إلى الجامعة مرتديا بزة رسمية، فكان زملائه يظنون أنه ذاهب إلى حفل خطوبة رسمي، ولن تمر سوى فترى بسيطة حتى عدّ الجينز والجوارب القطنية والأحذية الرياضية ملابسه المفضلة، ومما يذكره في هذا السياق، أنه بعد هذه التجربة بسنوات (1964) وأثناء تدريسه في الجامعة الأمريكية في بيروت وعمله في لجنة الانضباط، طلبت اللجنة عدم السماح للطالبات بارتداء الجينز في حرم الجامعة، من باب أن هذا البنطال مثير جنسيا، وبالتالي فإن النساء اللواتي يرتدينه معرضات للتحرش (وفق تبرير أحد البروفيسورية العرب) إلا أنّ هذا القرار رغم صدوره لن يتمكن من مقاومة رياح تغيير الموضة، وربما في هذه القصة ما يكشف عن امتداد للجدل الذي عاشته مدينة بيروت حول اللباس منذ بدايات القرن العشرين، قبل تحوّلها من حاضرة صغيرة إلى مدينة تربطها بالعالم شبكات جديدة بعد بناء المرفأ وشبكات القطار مع دمشق، ففي مذكرات جورجي زيدان، غالبا ما نظر صاحبها إلى من يرتدي اللباس الجديد بوصفه «يخرق التقاليد بشكل آثم، وينم عن تخنث وفسق» مع ذلك استمرت الطبقة الوسطى المثقفة الصاعدة، في اعتماد اللباس الغربي في النصف الأول من القرن العشرين، ولاسيما الرجال، انطلاقاً من أنّ الذين يرتدون البناطيل يتمتعون بذكاء أعلى وينطوون على معرفة أرحب وأحكامهم أفضل من أولئك الذين يرتدون السروال التقليدي، ولذلك بقي سلوك هذه الطبقة محل اعتراض من قبل شرائح واسعة في المدينة (بورجوازيين، وطبقات دنيا) .
وما يبدو في قصة خوري أن هذا الخلاف قد استمر في المدينة للستينيات، وربما بعد ذلك، خاصة أن القسم الأكبر من أهالي بيروت، استمروا محافظين (المسلمين والمسيحيين) رغم انفتاح المدينة على العالم، وأن التطور اللاحق على مستوى حرية الأجساد عرفته المدينة بعد الحرب الأهلية في لبنان، وهذا ما درسته بشكل دقيق الأنثروبولوجية اللبنانية روزا سعد خلف، التي لاحظت في دراستها حول الجنس في الجامعة الأمريكية في بيروت أن العديد من الطلاب أخذوا ينجذبون إلى ثقافة الاستهلاك والحلول السريعة، وأسلوباً اخر في عرض الجسد على مسرح الحياة اليومية.
وأن المجتمع اللبناني، أو البيروتي بالأحرى، غرس رغبة لا ترتوي للتعويض عما ضاع من وقت، وهذا التوق إلى «الحياة الطيبة» للاستمتاع باللحظة، وعدم النظر إلى الوراء، جاء بمثابة محاولة يائسة لمحو أثر الماضي العنيف، ولعل هذا ما نراه اليوم في شوارع مدينة مثل دمشق، من خلال الصور المنشورة على صفحات التواصل الاجتماعي، فالعديد من الفتيات، نزعن الحجاب وبتن يعبرن عن صورة أخرى للجسد، لم تكن معهودة في شارع الشعلان في دمشق (الشارع الحداثوي) قبل الحرب.

واستكمالاً لسيرة خوري في أمريكا، سيكتب أن كل ما كان يشغل زملاءه العرب في تلك الفترة هو الجنس، إذ لم يكن لديهم شغف بالرياضة أو المسرح، وقد حاول تفسير هذا الأمر من باب أنّ الفصل الجامد بين الجنسين في العالم العربي والإسلامي، قد خلق عطشا جامحا للجنس، واستكمالاً لذلك يقول «في الثقافة العربية، كل جنس لديه مجال نشاطاته الخاص، عالم الرجال منفصل عن عالم النساء.. كما أن الذكور العرب يحبون المضاجعة ويكرهون الحب، فالمضاجعة تعني القوة والقدرة والذكورية، بينما الحب يعني الأنوثة والضعف» ويخلص إلى فكرة تقول إن «النساء (في عالمنا العربي) يعشقن والرجال يمارسون الجنس» وهذا، كما يقول، واضح من أيام عنترة إلى نزار قباني، الذي كان يرى نفسه «محطم الفخر الذاتي للنساء» أي «عذريتهن» ونلاحظ في هذا التحليل ملامح مقاربة بنيوية، بقيت تحكم رؤية خوري للعالم العربي، فالعقل العربي لديه، هو ذكوري، جنسي، يرفض الحريات، ويحن لزمن البداوة، وربما هي الرؤية ذاتها التي كانت سائدة آنذاك بين الباحثين المهتمين بالشرق الأوسط، مع أن الدراسات اللاحقة مثلاً، بينت أن حالة الانفصال بين الذكور والإناث لم تكن بهذه الحدية أحياناً، وبالأخص في مناطق الريف، كما أنّ الصورة التي تظهر النساء بوصفهن ضحايا لرجال شهوانيين قد أعيد النظر فيها، وهو ما نراه مؤخراً من خلال نص بعنوان «الماجريات» وهو نص يعود للقرن الرابع عشر المملوكي، ويدور حول عدد من القصص الرمزية للنساء في مدينة القاهرة، اللواتي يبحثن عن رجال «جحاش» لإمتاعهن فقط، ومن خلال هذه القصص الرمزية نكتشف دورا وحضورا فاعلاً للنساء في المدينة، وهو واقع سيتطور مع القرن الثامن عشر بشكل أكثر وضوحا.
القبيلة سبقت الدولة كعامل أكثر أهمية في التنظيم من البيروقراطية، وربما بسبب هذه الكلمات سيمنع توزيع كتابه، وبعض كتبه الأخرى، في البحرين. وسيعاد طبع كتبه لاحقاً في دار الساقي اللبنانية.
عميل أمريكي وطعام يمني
وأثناء الإعداد للدكتوراه في عام 1962، قرر خوري اكتشاف حياة الأفارقة والمهاجرين اللبنانيين في بوركينا فاسو وسيراليون وغانا ونيجيريا، وللوهلة الأولى اعتقد البعض أنه عميل لوكالة الاستخبارات الأمريكية أو اللبنانية، كما لم يصدقوا أن لبنانيا قدم إلى هذه البلدان للقيام بأبحاث ميدانية، فتقريبا كان كل اللبنانيين في غرب افريقيا تجارا، وأغلبهم شيعة من جنوب لبنان، واللافت هنا أن خوري سيعترف بأن افريقيا التي جمع ملاحظات عنها لم يكن بالإمكان فهمها من خلال البحث العلمي «الجاف»
لذلك قرر كتابة رواية بعنوان «عين على لبنان» تتناول حياة لبنانيين مهاجرين في افريقيا. وفي هذه الأثناء ستتاح له فرصة التدريس في الجامعة الأمريكية في بيروت، وهنا سيوفر لنا خوري مادة غنية عن واقع فرع الأنثروبولوجيا آنذاك في هذه الجامعة، إذ يذكر أنه عند انضمامه كان هناك مقرران فقط عن هذا الحقل، وكانا يدرسان في قسم علم الاجتماع «الأول عن شعوب الشرق الأوسط والثاني عن الأنثروبولوجيا الثقافية» كما أن معظم الطلاب كانوا أجانب أو محليين قادمين من بلدان محرومة، ومن أقليات إثنية، فالعلوم الاجتماعية كانت اختصاصات تأتي في درجة الاهتمام الأولى عند الإناث وفي الثالثة عند الذكور، وإلى جانب تدريسه، سيبدي اهتماما بدراسة الضواحي في بيروت والإسلام داخلها، وحياة البصارات في هذه المناطق، وطبيعة زبائنهن. ثم سيقرر، خلال رحلاته إلى الخليج، دراسة واقع العلاقة بين القبيلة والسياسة في البحرين، ليصدر كتاباً بالإنكليزية حول هذا الموضوع في عالم 1983، سيجدون فيه أن دولة البحرين الصغيرة يحميها ما يشبه القبيلة من خلال مجموعة من الشبكات المبنية حول أفراد آل خليفة، وبالتالي فالقبيلة سبقت الدولة كعامل أكثر أهمية في التنظيم من البيروقراطية.

وربما بسبب هذه الكلمات سيمنع توزيع كتابه، وبعض كتبه الأخرى، في البحرين. وسيعاد طبع كتبه لاحقاً في دار الساقي اللبنانية. وخلال الثمانينيات، أتيحت له الفرصة لزيارة اليمن ضمن وفد للبنك الدولي لتقييم الأوضاع هناك، وأكثر ما سيلفت نظره أسلوب بعض المدن اليمنية في الطعام، إذ يشرع الجميع في تناول الطعام دون تفضيل أحد على أحد، لتغدو الجلسة حول الطعام وكأنها حرب، لا مكان فيها للإتيكيت الغربي أو الانتظار، لأن ذلك يعني أنك ستخسر أكثر قطع اللحم طراوة،
كما يذكر، أنه قرر الزواج في مأرب من فتاة يمنية والاستقرار هناك إلى أجل غير مسمى بعيدا عن صخب العمران، في الوقت الذي شخِّص فيه مرضه «باركنسون» لكنه سيقرر العودة إلى لبنان، وهناك سيعكف رغم اشتداد مرضه أحيانا على دراسة قضايا جديدة حول بيروت مثل زعماء الحرب وسياراتهم الفارهة، وأيضا دراسة رمزية كروش بعض رجال الأعمال الجدد الذي ظهروا بعد الحرب، لكن لن تطول إقامته، إذ سيقرر مرة أخرى السفر إلى مدينة ريدينغ البريطانية، وهناك سيكتب في الفصل الأخير من حياته عن طبيعة البريطانيين وحياتهم وأيضا عن الطعام اللبناني الذي أعاد اكتشافه في هذا البلد بوصفه «الطعام الأفضل في العالم» وعن فناء منزله الذي قضى فيه آخر أيامه يستعيد ذكريات الضحك، وإن كانت تعكس بعضاً من المرارة التي فضل راحلنا عدم البوح بها بشكل مباشر، وهي مرارة تتعلق بواقع البحث الميداني ومشاكله في عالمنا العربي.