مميزة بالأحمر ولد فيها العالم أحمد الشرقاوي والشاعر محمد بن إبراهيم ودَبْا، أرض طيبة واقعية أقرب من أن تكون فنتستيكية، فيها النسيم العليل وجو ليس له مثيل، أهلها أميل ما يكونون الى الفكاهة واللهو، في وسطها ساحة لا تنام ومن حولها حدائق الورد والنعمان، تشابكت فيها أشجار النخيل الباسقة الولود فصنعت فوق رؤوسهم الظلال للإحتماء والقوت أثناء الاحتياج.
قديما شيدت فيها المنشآت والمآثر كقصر البديع وقبور السعديين باعتبارها عاصمة حكمهم، وفي زمن الدولة الموحدية أنجزت معالم وبنايات تذكرنا ببقايا تاريخنا كصومعة الكتبية بمسجديها، بأبوابها وأسوارها العتيقة …
في المدينة الجمال توأم الابتسامة، وفي فضاء ساحة جامع الفنا عمق التاريخ وثراء التجربة الإنسانية المتناقلة التي جسدت لنا معنى التراث الشفوي العميق ودلالة الذاكرة التي لا تخيب، لأهلها طبيعة صادقة لا تزويق فيها ولا تنميق وهي أدق وصف للحياة المراكشية.
زيارة الى الساحة الكونية:
فسيحة هي قادرة على استيعاب المئات، تتوسط المدينة الحمراء، يأتيها الزوار من مختلف قفار وبحار الأرض من أجل استكشاف هذا الفضاء الذي تداولت حوله الألسن ما رأته عين الدهشة وشعر به القلب بعد أول استنشاق تجريبي لعبق الساحة.
في بداياتها كانت فناءا شاسعا لإستعداد الجيوش واستكمال تداربيهم قبيل انطلاق المعارك والحروب، وهي الآن تعتبر القلب النابض للؤلؤة الجنوب مراكش ومن بين العوامل المحركة لعجلة القطاع السياحي بالمملكة المغربية، ففيها سَتَنْشُدُ أزهى الألوان و أعلى الأصوات ، و تَلٌم بمسامعك آلاف النداءات و الصيحات، دون أن ننسى أثر سمفونية الدقة المراكشية ووقع لهجة السكان على الأذان ،و النسوة اللواتي يقتعدن الأرض صفا مترامي الطول ، يمتهنن حرفة النقش بالحناء و اخريات يبعن الرغيف و الخبز الساخن … سترى الحشود تتحلق حول الحكواتية كأشد ما يكون من الزحام، مروضوا الأفاعي، قردة موهوبة راقصة ، ضحك و طعام و استمتاع..
الأسواق:
تبدو أسواق ساحة جامع الفنا أضخم عن باقي أسوق المدينة، ولكنها في الحقيقة تعتبر أحد أكبر أسواق المغرب الجنوبي بأكمله، وذلك راجع للمؤثرات التالية:
–المجاورة: كل الحوانيت والمحلات التي تباع فيها سلعة بعينها، عشرون أو ما يزيد عن ذلك ملتصقة جنبا الى جنب، بشكل هندسي متقون، منح لصناع الحرف التقليدية مكانهم، ولبائعي الملابس فسحات تخصهم..
-أسواق شعارها المساومة، لا أسعار مثبتة على البضائع، ولا أسماء او حتى لافتات، لا حدود عما يفصل المار عن البضائع، لا أبواب ولا حواجز. وهذا لا يمنع المقبل من ان يقع فريسة للخديعة إذا تجاوز تلك الحدود.
الحكواتي يحل محل شهرزاد:
يتميز الحكواتي او الحلايقي بلباس يجذب الأنظار، بحيث دائما ما تؤثر طبيعة القصة (كوميدية، أو خيالية..) على نوعية اللباس المحدد، ليخيل لمن يراه كأنه أحد الشخوص التي انتقلت من زمن القصة الى زمننا الحاضر. ويجذب هكذا عددا غفيرا من الجماهير ولأطول مدة ممكنة الى ان تنتهي الحكاية، ويقع المستمع في فخ الشوق الى سماع حلقة سحرية جديدة، شوق لا يختلف البتة عن شوق الملك شهريار لبقية القصة في كل مرة تسكت فيها شهرزاد عن الكلام المباح.
الساحة الصامتة والزوايا الخاوية:
بعدما توالت أولى ملامح انتشار فيروس كوفيد 19 بالمغرب ، لم تسلم ساحة جامع الفنا من ان تتضرر من تداعيات هذا الوباء الجديد على البشرية، خصوصا بعد تراكم المشاكل والخسائر المقدرة بمليارات الدولارات، وبالتالي تراجع مداخيل القطاع السياحي بالمغرب لنسبة تفوق 69 بالمائة خلال النصف الأول من عام 2021،فعلى الرغم من أنه و في عام 2019 تم تسجيل قرابة 3 ملايين سائح إلى مراكش فإن اغلاق الحدود ثم فرض الحجر المنزلي على زوار الساحة، الى جانب تعميم سريان حظر التجول وفق مدد محددة في اطار احترام للتدابير الاحترازية المعمول بها من أجل الوقاية من خطر فيروس كورنا ، أغرقت المدينة في أزمة حقيقية.
خصوصا بعد انخفاض عدد السائحين بنسبة 78 بالمائة، وهكذا صنع هذا التوقف المفاجئ الذي شمل ساحة جامع الفنا نتائج أكثرها سلبية، فأغلب أرباب العمل إن لم نقل الكل قد تكبدوا خسائر مادية ومعنوية بعد تعطيل الحياة الطبيعية، بعضهم من انساق الى طريق التسول وبعضهم من عاد الى أيام البطالة، المقاهي والمطاعم افتقدت شعبيتها واختفت روح الحياة في ثوان خصوصا بعد الغياب الطويل لصناع الفرجة، وهذا ان لم نقل هجرة مجهولة المستقبل.
وجها لوجه مع الجائحة:
في إطار العودة الى الحياة الطبيعية ولو بمقدار جزئي، تم فتح حوار جاد ومسؤول مع ممثلي تجار ومهني الفضاءات التجارية بالساحة التاريخية، ساحة جامع الفنا من اجل التوصل الى حلول مناسبة لمعالجة الخطوب الناتجة عن تداعيات الفيروس والقرارات المعمول بها هناك.
لكن فوجئ أرباب العمل بتعميق معاناتهم أكثر وأكثر، واندحار وضعياتهم مجددا بعد قرار إعادة تمديد الإجراءات الاحترازية ولو بعد انطلاق عمليات تلقيح المواطنين.
وفي هذا الصدد طالب بيان لرابطة الإخلاص، لجنة اليقظة بإيقاف العمل على اصدار قرارات تمديد الإجراءات الاحترازية التي تم تأكيدها بتاريخ 13 يناير قصد انقاد ساحة جامع الفنا المختنقة داخل أغوار الحجز لا الحجر الى جانب إعادة النظر في قرار استصدار رخص للتنقل بين المدن للسماح بانهمار أكبر عدد ممكن من الزوار المحليين.
ومن الجدير بالذكر ان عددا من العاملين في القطاع السياحي بالمغرب قد راهنوا على ان الحل يكمن من اجل إنعاش هذا القطاع الحيوي في عودة الجاليات المغربية الى ارض الوطن.
البعث بعد الموت:
وبعد توالي الأيام بحلوها ومرها، استطاعت ساحة جامع الفنا تذوق طعم الحياة من جديد، بسبب نجاح الاجتماعات التضامنية والأعمال التشاركية بعد ركود وشبه انحطاط دام لأكثر من عام ونصف جراء النتائج الوخيمة التي خلفها الفيروس التاجي.
وهكذا صارت الفضاءات والمطاعم تعرف إقبالا واسعا من طرف الزوار، ولو اتفق مسبقا على إقرار الساعة الحادية عشرة مساءا كموعد للانتهاء، فقد قدرت نسبة النشاط في الساحة بنسبة 40 في المائة مقارنة بالسنوات الفارطة، كما تم التأكيد على ان الحركة التجارية استعادت حركيتها بفضل توافد السياح من الداخل، كما ولُفِت الى أنه وفي فترات نهاية الأسبوع يزداد الإقبال مقارنة مع باقي الأيام، مع ذلك لا يزال غياب الحلايقي مستمرا لحد الآن..