
مئاتُ الكتّاب والفلاسفة والأدباء كتبوا عن الأمّ. وأنتَ تقرأُ لهم، تُدركُ أنّ الإنسان مهما كان ضليعاً في الأدب ومحاسنه والبيانِ وما فيه من تشبيهٍ واستعارة ومجازٍ وكنايةٍ وأنّه مهما كانَ الواصفُ مُطّلعاً على البديعِ و عارفاً بما يتضمّنه من مُحسّنات لفظيةٍ ومعنويّة كالجناسِ والازدواج أو التّوريّة والمقابلة ومراعاة النّظير، فإنّ وصفهُ للأمّ وما أودعهُ الخالقُ فيها من رقّةٍ ورحمةٍ عزّ نظيرهما وعطفٍ وحبّ قلّ مثلهما يظلّ وصفاً قاصرا لا يتمّ ولا يكتملُ نسيجُهُ إلاّ إذا كان مقروناً بإحساسٍ حقيقيّ ينبثق من أعماق المُهَج ويتدفقُ بطلاقة، فيخضعُ الحرفُ لسلطةِ السريرةِ النّقيّة والوجدانِ السليم الذي يُسبّحُ بحبّ الأمّ.
إذا ألقيتَ نظرةً على الكتبِ السّماويّة ستجدُ فيها نصوصاً واضحة المبنى، جليّة المعنى تضمّ وصايا سماويّة إلهيّة تحثُّ على توقيرِ الأمّ وإكرامها وتحضُّ على الإحسان إليها وتعظيمها ولو نظرتَ في مختلف الثقافاتِ الإنسانية لتبينّ لك أنّ منزلة الأمّ عاليةٌ تشرئبّ إليها الأعناقُ اشرئباباً، وأنّ توقيرهَا طبعٌ وفطرةٌ في الإنسان السّويّ.
المرأةُ حنونةٌ، تلكَ سجيّتها؛ لكن حينما تَحبلُ وتلدُ تصبحُ حنّانةً؛ وصيغة المُبالغة هذه تشتملُ على معنًى بيانيّ لافتٍ وبديع؛ وفَحواهُ أنّ المرأةَ الحنّانة تحنّ ويرقّ قلبُها على فلذة كبدها، وسِمتُها الأساس أنّها تُقْبِلُ على من تحبّ حتى وإنْ قُوبلَ حبُّها وعطفها بالاستصغارِ والهَوَان. وهذا حالُ كثيرٍ من الأمّهاتٍ ، يُغدقنَ على أبنائهن بعطفهنّ ورقّة قلبهنّ ولَذاذة دعائِهنّ وعذوبة كلامهنّ اللّيّن في كلّ الأحوال.

إنّ الناظرَ في هذا العالم المادّي سيتأكدُ أنه محكوم بقانون الأخذ والعطاء، وبناءً عليه، فأخذكُ مرهونٌ بمقدارِ عطائكَ، وإذا لمْ تُعطِ لنْ تأخذ، إلاّ أنّ الأمّ هي وحدها من تقولُ ” ماذا تريدُ يا صغيري “، ولا تقولُ ” أريدُ “.
تقول لكَ ولكِ”هذا، ولا تنتظرُ منكما جزاءً ولا شكوراً. هَبْ أنّك وفرْت لأمّكَ كلّ ما طلبَتْهُ، هل تظنّ أنّكَ بذلك قد عوّضتَها عن كلّ شيء؟ لا يا صاحبي، اعلَمْ أنّ دَيْن الأم لاَ يُسَدّدُ. لنْ تعوّضها حتّى على لحظةٍ من ذاك الألم الذي كان يفتك بها وأنت بين أحشائها.
اليوم، أمّك يا صاحبي قد رقّ عَظمُها واشتعلَ رأسها شيباً وضعُفتْ قٍواهَا واحدَودبَ ظهرُها فوجدتِ الأسقامُ إلى بدنها منفذاً، فشَمّرْ على ساعديكَ واخفضْ لها جناح الذّل من الرّحمة وقل لها قولا معروفاً، وكنْ لها يداً حانيّةً وقلباً رحيماً، واحذَر أنْ تثنيكَ عوائقُ الدّهر ومشاغلُهُ عن خدمتها، وكنْ لها خيرَ مؤنسٍ و سُدَّ كلّ مسلكِ قد تتسلّل منه الوحشةُ والقنوط والهمّ إلى قلبها الهَشِيشِ. اعلم يا صاحبي أنّ أكثر ما يفرحُ أمّكَ ليس فقط تلبيّة حاجاتها المادّية الملموسة، ولكن أيضاً وقوفك عندَ رأسها وهي سقيمةٌ ومقابلتها بوجهٍ طلقٍ بشوشٍ.
وإذا أرغمتكَ صُروف الزمان على السّفر بعيدا عنها، فَاسْعَ دائماً لزيّارتها ولا تَنْسَ أنْ تُبهجَ قلبَها بالدّعاء لها جهاراً نهاراً واتّصل بها وعبّرْ لها عن اشتياقكِ لها وأخبِرها عن رغبتك في لُقيَاها.
يا صاحبي لا تنسَ أنْ تزفّ إليها البشائر، لكن حاول أنْ تضمرَ ضعفكَ أمامها لأنّ دمعتكَ يُصيّرها فؤادُ الأمّ جمرةً فيحترقُ بها.
الأمّ نعمة جليلة القدر عظيمة الشأن ترقّ إليها القلوب المكلومة، فكن بِأمّكَ رحيماً وإيّاك والتّسويف، فإنّه يورثُ النّدامة.
إنّنا نُخطئُ في حقّ امّهاتنا وهنّ المُشفقات علينا والسائِلاتُ عنّا والدّاعيّاتُ لنا بالخير والمُؤنسات لوحدتنا. إنّ كلّ ليلةٍ نصبحُها وامّهاتُنا أمَامنا لأفضلُ حالٍ يمكن أن يُصبح عليه إنسان.
يختلف المختلفون ويتحاور المتحاورون في قضاياً خلافيّة كثيرة، يدافع كل طرفٍ عن موقفه بما يقتضيه المقامُ من حزمٍ وشراسة وحجّة دامغة بُغية نسفِ بُنيانِ الطرف الآخر وطلباً للنّصر. بيدَ انّ هناك حقيقةٌ ثابتةٌ يضمحلُّ امامها الخلافُ ويزول الاختلافُ ويحلُّ محلّهما التوافقُ والاتّفاقُ: إنّها الأمّ. لو عُدْنا بعقارب الزّمن إلى الوراء وسألنا الأباطرة الجبابرة والملوك الشِّدَاد عن مكانة الأمّ لأذرفوا الدّموع الحارقةَ. اسألوا الإمبراطور ” نابليون بونابارت” عن الأمّ وسيجيبكم” الأمّ التي تهزّ السرير بيمينها، تهزّ العالم بشمالها”.
كانت ترتجفُ لقسوتهِ الأفئدة، لكن فطرته تأبى إلاّ أنْ تُقِرّ بالحقيقة الثابتة.
قِيلتِ الآلافُ من الأقوال والحِكم عن الأمّ ونُسِجت عن رأفتها المُجلّداتُ وتَغنّت ْبأمجادها التليدةُ كلُّ الأمَم والشُعوب على اختلاف انتماءاتهم الجُغرافية و الهويّاتيّة وتباين مشاربهم الثّقافيّة.

منذ القدمِ إلى الآن، لمْ يخلُ أيّ إنتاج أدبيّ ، نثراً كان أم شِعراً من فصولٍ تحتفي بالأمّ وسموّها وسُمُوقِ أثرها وعُلوّ شأوِها وهمّتها. لو سبرتَ أغوارَ اللغاتِ القديمة لوجدتَ لِلأمِّ فيها ذِكراً. ألقِ نظرةً خاطفة على اللغاتِ القديمة المكتوبة منها والمحكيّة، وستكتشف أنّ اللّغة القوطيّة والهيروغليفيّة ولغة “كيسكانا”، لسانُ سكان نهر “جابورا” بالبرازيل، تمدحُ الأمّ في أشعارها وحكاياتها. ويكفي أنْ تقلب صفحات بعض اللغات الحيّة ولا ريبَ انّك ستقفُ مشدوهاً من عدد المؤلّفات الذي يُّبيّن أنّ الأم موضوعٌ لا غنى عنهُ ولا غُنْيَة لأيّ إنسانٍ يريدُ أنْ يمدح مكارمَها ويصف منَاقبها.
واسأل الأدب العالمي اليوم، الروسيّ والانجليزي والعربيّ والأمازيغيّ والاسباني واللاتينيّ والاسكندينافيّ والصّيني… وستتأكدُ أنّه مهما قيلَ وكُتب، تبقى الحاجة إلى وصف الأمّ وسردِ الحكايات ونظم الأشعارِ عنها قائمة، ذلك أنّها مُباركة ومؤيّدة بقوةٍ إلهيّة، ولن نكون مُبالغين إنْ قلنا إنّها معجزةٌ من المعجزاتِ…
رفَعَ القلمَ …
وتأكدْ يا صاحبي أنّه لو كانَ ماءُ البحرِ مداداً تُكتبُ به عظمَةُ الأمّ وتوصفُ به منزلتُها، لنفدَ ماءُ البحرٍ كلّه…