سيدي الرئيس الأستاذ عبد الرزاق الجباري، لا أخفيك سرا أني ترددت كثيرا قبل أن أحسم أمري في كتابة هذه الاسطر من عدمه لسببين , أولهما لما أكنه لشخصك من احترام و تقدير كقاض اعتبرناه – و نعتبره دائما و سنبقى كذلك – وجها مشرفا و مشرقا لعدالتنا و قلما جريئا أغنى الخزانة الفقهية و قاضيا نزيها مجتهدا و مناضلا شجاعا شهما , و ثانيهما لأني لم أستطع أن أميز في المقال المنشور على جريدة المساء الالكترونية و الذي قرأته و أعدته , هل يتعلق الامر بتصريح للأستاذ عبد الرزاق الجباري القاضي و أن الامر يتعلق بقناعة أو انطباع شخصي أم أنه صادر عن السيد رئيس نادي قضاة المغرب بهذه الصفة ؟
شخصيا أتمنى أن يكون التصريح شخصي أي انطباع شخصي للأستاذ عبدالرزاق الذي قد يصيب و يخطأ على أن يكون مؤسساتيا خاصة في هذه الظرفية الدقيقة التي تمر منها مهنة المحاماة.
“ان مقاطعة كلمة عبد النباوي بالصراخ عندما عبر عن رأيه فيما يحدث في الساحة المهنية يعد انتكاصا من قلة من المحامين عن انتصارهم للحق في التعبير عندما يختلفون مع الرأي المعبر عنه , و تضييقا خطيرا على ما يتعين فيه على المحامي أن يعمل على توسيعه , خلافا لما تتكرس في المسار الطويل لهذه المهنة النبيلة …اذ ليس من الآداب أن نصرخ في وجهه مع أنه ضيف في مؤتمر مهني , حيث من الواجب التعامل معه بأخلاق و كرم الضيافة لا العكس…” و ورد في المقال أيضا: ” و وصف عبد الرزاق الجباري ما حصل لمحمد عبد النباوي بمؤتمر الداخلة بالمر المسيء للقضاة , باعتبار أن حضور الرئيس المنتدب في مؤتمر الجمعية لم يكن باسمه , و انما هو تمثيل لمؤسسة القضاء و زاد متأسفا ” ما تعرض له تعرضت له بالتبع , و لا شك مؤسسة القضاء بكل اطيافها و مكوناتها , فمن أساء اليه يكون قد أساء الينا جميعا , و هذا أمر مشجوب و غير مقبول تحت أي غطاء”.
و سنحاول قدر الإمكان تحليل تصريحكم أستاذي بكل رزانة و بهدوء و اتزان , و لنبدأ بالعبارة الأخيرة:” غير مقبول تحت أي غطاء”.
أولا: هنا سأستعير منك بعض ما جاء في تصريحك , فاذا كان بعض المحامين صرخوا كما تفضلتم و قاطعوا السيد الرئيس يعد انتكاصا عن الانتصار للحق في التعبير , فان الجزم بأن الامر غير مقبول تحت أي غطاء و أضن أنك تقصد به تحت أي مبرر , و عندما نتحدث عن المبرر نتحدث عن وجهة نظر أي أننا نتحدث بالضرورة عن حرية التعبير , حيث أن الصراخ و تقصد به الشعارات على ما يبدو هو شكل من أشكال التعبير , و بالتالي فانك تنتصر لحرية التعبير لجهة و تنكرها على جهة أخرى.
ثانيا: كما تفضلتم فان المحامين مؤمنون بحرية التعبير كما أنهم مؤمنون بالحق في الاختلاف و هو أمر ليس غريب عليهم بحكم التكوين و الممارسة المهنية و التدرج في المؤسسات الشبابية و المهنية , لكن كما تابعتم و تابع جميع مكونات منظومة العدالة فان السيد الرئيس المنتدب لم يعط رأيا بل ذكر المؤتمرين بمقتضيات المادة 39 من مهنة المحاماة و هو ما اعتبره المؤتمرون تهديدا صريحا لضرب حراكهم , و لا نحتاج للتذكير بان هناك فرق بين ابداء الراي و التلويح بتفعيل مقتضيات تأديبية او حتى زجرية في مواجهة المحامين , و ذلك كله في عقر مؤتمرهم و هو الضيف الكبير كما تفضلت بذلك و الذي أراد المحامون ان يستمعوا له بتمعن و باحترام و تقدير كبيرين .
ثالثا: دستور المملكة في فصله 111 نص على ما يلي: “للقضاة الحق في حرية التعبير , بما يتلاءم مع واجب التحفظ و الاخلاقيات المهنية “, و السيد الرئيس لما انتصر لجهة ضد جهة في معركة نضالية يكون قد حاد على واجب التحفظ و الحيادية , و كذلك ينص ذات الدستور في فصله 113 على ما يلي: “….يصدر المجلس الأعلى للسلطة القضائية بطلب من الملك أو الحكومة أو البرلمان اراء مفصلة حول كل مسألة تتعلق بالعدالة مع مراعاة مبدأ فصل السلط” , و حيث أنه لم تطلب أية جهة من هذه الجهات رأي السيد الرئيس فكان عليه أن يحتفظ بحياده و حياد سلطة يلجأ لها كحصن منيع لحماية الحقوق و الحريات لا الاصطفاف مع جهة ضد أخرى , ثم ان الصراع مع الجهات المكفول لها بالتشريع عن طريق اعداد مشاريع قوانين , و تدخل السلطة القضائية يضرب مبدأ فصل السلط التي ما فتئ السيد الرئيس المنتدب ان نادى بها عندما كان رئيسا للنيابة العامة.
رابعا: أن المادة 5 من القانون التنظيمي رقم 100.13 المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية ينص على ما يلي : ” يمثل الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية هذا المجلس أما القضاء و باقي السلطات و الإدارات و أمام الغير” , و بذلك فان السيد الرئيس المنتدب لم يحضر لمؤتمر الداخلة لتمثيل القضاة أو أطياف مؤسسة القضاء كما أشرت و انما جاء ممثلا للمجلس الأعلى للسلطة القضائية الذي يتشكل من بين أعضائه ليسوا قضاة , بالإضافة الى أن السيد عبد النباوي هو الرئيس المنتدب للسلطة القضائية و ليس رئيس القضاة , و انه يجب ان نعيد تمثل مفهوم السلطة القضائية كسلطة ثالثة الى جانب السلطتين التنفيذية و التشريعية , اذ أن هذه السلط الثلاث تمثل كل المغاربة و الا فان رئيس الحكومة يمثل الوزراء و رئيس البرلمان يمثل البرلمانيين دون باقي المغاربة , و أن الرئيس المنتدب لما حضر فلم يحضر كضيف و انما كمسؤول يترأس السلطة القضائية بالنيابة , و ان من بين اختصاصاته استقلال السلطة القضائية و حماية المواطن و تمكينه من المرفق العمومي و كذا قضاء مستقل و عادل و نزيه.
خامسا: بداية و عند تصفحي للمقال اعتقدت أنكم تستنكرون ما جاء في تصريح السيد الرئيس المنتدب الذي اعتبره المؤتمرون انزياحا عن الحياد المفروض في القاضي أولا و في السلطة القضائية ثانيا , التي نص دستور المملكة على استقلاليتها و فصلها عن السلطة التنفيذية , و ثالثا عن واجب التحفظ و أخد مسافة بين اطراف النزاع , و هو ما سبب في رفع شعارات في اعقاب مداخلته – و ليس صراخا – , الشيء الذي اعتبرتموه سلوكا يفتقد للياقة – و ليس مخالفا للأدب – , أي أن الشعارات جاءت كرد فعل عن ما اعتبره المؤتمرون خطابا هجوميا و تهديديا و بالتالي تهييجيا , أي أنه بلغة القانون يجب مراعاة التناسبية هل هي متوفرة أم لا : تهديد قابله رفع شعارات أو حتى صراخ كما تفضلتم , و بمعنى أدق , اذا كان من أحد تسبب فيما أحسستم به من إهانة شخصية فانه السيد الرئيس المنتدب , و مع ذلك فاني أؤكد لكم أنه لا أحد من المؤتمرين كانت له النية في الإساءة لأي من زملائنهم القضاة الذين يكنون لهم كل الاحترام و التقدير , و الكل يعي جيدا أننا جميعا شركاء في منظومة العدالة و أن تعطيل أحد مكوناتها يكون الأثر السلبي , و معركة المؤتمرين ليست مع السلطة القضائية و لا يريدون ذلك , فقط يلتمسون الحياد و واجب التحفظ.
و في جميع الأحوال الشعارات او الصراخ هو شكل من اشكال التعبير , و لا احتاج ان اذكرك بان في بريطانيا العظمى و هي اعرق ديموقراطية على الاطلاق , عندما يقدم الوزير الأول البريطاني على عرض برنامجه الحكومي قد ينجح و يلاقي التصفيقات و قد يفشل و يقابل بالصراخ و ذلك في جلسات عامة منقولة على المباشر , ومع ذلك لا يجد الوزير الأول أي حرج في ذلك , اذ يعتبره شكلا من اشكال الاحتجاج.
و أختم بمقولة لكلسن الذي قال :” بان التعبير عن إرادة المشرع ليس القاعدة بل فقط بيان , و معنى هذا البيان هو التعبير عن إرادة ما و القاعدة لا تحتفظ بقيمتها الا بعد ملء الشروط التي تحددها السلطة و من ضمن هذه الشروط , شرط التوافق بين محتوى هذه القاعدة و محتوى القاعدة العليا “, وبإعمال ذلك على المادة 39 التي تتحدث عن التواطؤ تكون مخالفة لقاعدة دستورية و هي الحق في الاضرابو كذلك للمواثيق الدولية التي صادقت عليها المملكة , اذ لا يمكن اعتبار الاضراب تواطؤا , و هناك نقاش مستفيض في هذا الموضوع.
ويبقى القضاء و المحاماة أهم مرتكزات منظومة العدالة و بدون احدهما تتعثر حتما , و لا سبيل لنا الا إيجاد أرضيات للحوار و التواصل و ازاجة كل ما من شانه خلق نوع من الضبابية او سوء الفهم.
الأستاذ عبد العالي الصافي محام بهيئة المحامين بالقنيطرة و عضو جمعيتها العمومية