تعرفت أول مرة على عزوز لعريش في بهو محكمة الاستئناف بالدار البيضاء ذات مساء من شهر غشت 1976، حيث كنت أنتظر دوري لأمثل أمام قاضي التحقيق.
كنت قد قضيت أزيد من ستة أشهر مختطفا لدى العصابة التي كان يشرف عليها الكومسير اليوسفي قدور.
لفت انتباهي عزوز لعريش: كان طويل القامة، قوي البنية، تشع عيناه الزرقاوين بالذكاء، ويتحدث بهمس وانفعال ظاهر مع أحد الرفاق.
كنا نشكل الفوج الذي حصدته اعتقالات يناير – مارس 1976 والتي أجهزت على ما تبقى من العناصر القيادية والأطر المتبقية، علاوة على العشرات من مناضلي “منظمة إلى الأمام”.
كانت المسطرة القانونية تفرض إحالتنا على قاضي التحقيق الذي يتأكد من هويتنا الشخصية ويواجهنا بالتهم الموجهة إلينا المتعلقة بالانتماء لتنظيم سري ماركسي لينيني يهدف إلى القضاء على النظام القائم بالبلاد عبر إنشاء خلايا سرية وسط الجماهير الشعبية وإشعال فتيل العنف الثوري
خلال الأسابيع الأولى من انتقالنا لسجن عين بورجة دعت المنظمة داخل السجن إلى فتح نقاش يروم تقييم التجربة بهدف الوقوف على مكامن الأخطاء السياسية والتنظيمية التي أدت إلى تصفيتها قيادة وقاعدة، حينها كان عزوز لعريش ضمن الأوائل الذين حاولوا النفاذ إلى عمق الإشكاليات المغيبة والرمي بحجرة النقد في بركة اليقينيات الآسنة.
وستقوده هاته الروح النقدية إلى المساهمة الفعالة، بداية سنة 1980، في بلورة الوثيقة الأكثر جماهيرية وجرأة(حينها) في نقد تجربة المنظمة وعموم المشروع السياسي للحركة الماركسية اللينينية المغربية، علما أن الوثيقة المسماة ببيان العشرة (نسبة إلى عدد موقعيها)، تفادت إعطاء موقف صريح من قضايا سياسية بالغة الأهمية مثل موضوع مغربية الصحراء، أو الموقف من الملكية، أو أخرى ذات طبيعة ايديلوجية مثل “حزب الطبقة العاملة “و”ديكتاتورية البروليتاريا
بموازاة مع التكيف مع عالم قلعة النسيان التي كنا مقيمين فيها، ومع مدة العقوبة المحكوم بها(30 سنة) من خلال مزاولة الرياضة والمطالعة ومتابعة الدراسة الجامعية في شعبة العلوم الاقتصادية (بعد أن كان على أبواب التخرج من المدرسة المحمدية للمهندسين).
واصل عزوز لعريش نضاله من أجل استقلالية قرار المعتقلين السياسيين وعدم استغلاله لخدمة حسابات سياسوية يسراوية ضيقة، وكذا في عموم القضايا الفكرية والسياسية التي كانت مطروحة الأمر الذي جعل مساهمته متميزة في الوثيقة التي شارك بها في المؤتمر الرابع لحزب الاتحاد الاشتراكي سنة 1984 رفقة كل من عبد العزيز الطريبق ويونس مجاهد وعبد ربه
بعد مغادرتنا السجن ليلة 19 دجنبر 1986، تهنا طويلا وسط الزحام والناس(على حد تعبير إحدى روائع عبد الحليم حافظ)، لكنني لما التقيت به في المحمدية رفقة الصديق عبد العزيز الطريبق، أحسست بتيار المحبة الصادقة يمر بيننا وكأن عقارب الساعة توقفت في منتصف ثمانينيات القرن الماضي.
اتفقنا حينها على لقاء قريب يجمعنا نحن الأصدقاء الثلاثة، بعدما اختطف الموت مبكرا رابعنا المرحوم محمد اللبناني ولكم كنت متشوقا لمعرفة ومناقشة رؤيته لقضايا العصر وللتجربة المشتركة الماضية على ضوء انفتاحه على الفيزياء الكوانتية وعلى الصوفية وتجربته الحياتية عموما، لكن السرطان الذي كان ينخر جسده، والذي قاومه باستماتة ومعنويات عالية، حال دون ذلك وجعل تواصلنا ومناقشاتنا(أحيانا) تقتصر على الوتساب.
برحيل الصديق أحمد الطريبق السنة الماضية وعزوز لعريش أمس الاثنين، أحس بمرارة الفراق الأبدي لأشخاص تقاسمنا أحلاما كبيرة وأفراحا صغيرة. فوداعا صديقي ورفيقي عزوز لعريش.