«مَنْ أضحى سائراً في الأرض، أمسى إماماً»
الهمداني
«بؤس العالم أفضل من ظلمه» هذا ما سأُدْركه سريعاً في «كاتماندو» عاصمة «نيبال». نصل إليها مساء بعد عاصفة مذهلة، دفعت طائرتنا إلى تحويل مسارها نحو الهند. وبعد ساعات من البقاء محصورين على مقاعدنا، وهي جاثمة في أعالي الهيمالايا، حلَّقت، من جديد، نحو كاتماندو لتحط فيها في أول الليل. وفي أول الليل ماذا نرى؟ نرى الذُّهول: بشر وغبار، تلك هي كاتماندو، لكن ذلك ليس تعريفاً، كما سنعرف سريعاً، وإنما هو «طريقة حياة».
في الصباح الباكر نخرج بلهفة المشتاق لنرى كل شيء. نخرج إلى اللقاء، لقاء الآخرين المنتشرين في الطرقات مثل زُروع «الجزيرة». نمشي على هوانا، ونتفرج على المِحَن والغبار. بساطة البشر والأشياء مغرية.
لا توتّر، ولا تناحر، ولا بطش، ولا عنجهية. لا شيء سوى وجودهم العاصف، الذي لا صفة له خارج حركتهم المستمرة. هذا الإحساس البسيط الطاغي، هو الذي يملأ فضاء كاتماندو حولك، وتحس به بقوّة منذ الوهلة الأولى، الكل سواسية في الحركة والصمت أمام الضوء الفاتر والغبار، أمام هَشاشة الوجود التي تكاد أن تمسكها بيديك. أول ما نزور في كاتْمانْدو «القصر الملكي» القصر الذي كان ملكياً. اليوم صار مُلْكاً للشعب.
لشعب لا ينسى شيئاً من حياته، وإن كان لا يتكلّم عن أي شيء. حاجات الحياة اليومية هي التي تملأ أمعاءه الفكرية، أو هذا ما يظهر لي، لكن الظاهر، غالباً، هو العفن. العفن الذي تحاول الكائنات التخلّص منه بأرخص الأثمان: رمْيَه بلا أسف على قوارع الطرقات مثل نفاية لم تعد ثمة ضرورة للاحتفاظ بها.
قبل أن ندخل القصر أخذوا منا كل شيء. أخذوا عقولنا وقلوبنا: الكاميرات، والهواتف، والساعات، وكل ما يمكن أن يدلّنا على الطريق:«طريق الحس السليم» أو الذي كان يبدو لنا كذلك. ونبدأ الزيارة عُزَّلاً. نكاد نكون حفاة وعُراة. ملحقات الحضارة، ولوازمها اليومية، كلها، أخذوها! وقالوا: ادْخلوا!
على مدخل القصر الجميل، دُروع، وأحصنة، وأفيال، وثمّة طاووس أسود، يهيمن عليها جميعاً، بما فيها الدب الأبيض، والنمور المفترسة. وأول ما نراه، داخلين، صُوَر الملوك الأوائل: «بريتيفي نارايانْ شاه» 1725 و«براتابْ سِنْجْ شاه» 1751، وصور ملوك آخرين، تزيِّن مداخل قاعات القصر المهيب. وأينما نظرت، تطالعك مناظر جبال الهيمالايا الأُسطورية، وكأنها تؤكِّد للعابرين أن رسوخها هو الذي يحمي القاع من الطيران. نرى كذلك صور الطواويس الجميلة، وأثاثاً من العاج والمرمر متخماً بالفخامة، يغرق في لَجَّة من الصمت.. صمت التاريخ الذي لم تعد له أهمية خارج الجدران، وأخيراً، صورة لِقمّة «أفريستْ» التي تعتبر الشعار القومي في «نيبال».
ألوان القصر المسيطرة هي الأخضر، لون المحبة والعِفَّة، والذهبي والفضي. وعلى القاع السجاد الكشميري ذو اللون الأحمر الفاقع. وفوق الجميع قمم الجبال العظمى القابعة تحت طبقات من الثلج والغيم.. قُمم مفزعة، لكأنها تقرع أجراس الكون قبل أن يلج نقطة العدم. مَنْ ينقذني من هذه الجبال؟
٭ ٭ ٭
عندما نخرج من القصر يودعنا «بودا».. «بودا» الهادئ والعميق، وهو ينظر أسفل جفنَيْه.. «بودا» لا يحدّق في وجوه الآخرين لأنه مستغرق في أعماقه، ومنذ أن نخرج، أقف في مكاني، وأنا أردد مذهولاً: ما هذه الجحافل المُتْربة؟ وأي بشر هم هؤلاء؟ يغُبّون الريح وهم يلهثون، وكأنهم عطاشى «الحسكة» القُدماء إلى هواء بارد. أولئك الذين عرفتهم في طفولتي، وتقاسمتُ معهم الجَمْر، جَمْر القيْظ وجحيمه! وما هذا التراب الناعم كالحرير؟ وهذه الأقدام الجَلْفة التي تدوس القاع بحميّة وتصميم وكأنها في حرب معها، أَأكون جئتُ إلى هنا عمداً لأتمتَّع بالحُفَر والقيعان؟
٭ ٭ ٭
في معبد «باشوباتيناتْ» أجلس على راحتي، متمتّعاً بسلام داخليّ عميق. في فضاء هذا المعبد الآجري الأحمر، تسرح القرود على هواها، وكذلك البشر، البشر والحمام وأحياء أخرى، ثمة كائنات غريبة شتّى، تجد فيه الراحة العميقة. هنا تشعر الكائنات، أيا كان جنسها، بأخوة وسلام عميقين.. لا أحد أفضل من أحد، جميعنا نتزاحم نحو الظل، ظل الأشجار العظمى التي تقينا من الشمس. فوق أحجاره الصُمّ أجلس طويلاً، غارقاً في صمت حيواني لا لغة فيه، ولا، أكاد أقول، أحاسيس، إنه صمت فقط، صمت عظيم دون أي بُعْد آخر.
معبد هائل الروعة هو هذا المعبد نيبالي، يقع فوق هضبة محشوّة بالشجر والحجر. المقدّس الخالد، واليوميّ العابر، يمتزجان فيه بطريقة عفوية، وعلى قدر كبير من الإنسانية المدهشة بصدقها وبساطتها، فيه نفهم معنى السلام الكوني الذي يخلِّصنا في النهاية من التَّكَذُّب والتكَبُّر والحماقة. يجعلنا نتساوى، على الرغم منا، مع الأحياء الأخرى، لا مع الكائنات حسب! هنا لا فرق بين القرد والفرد (لاحظوا: نقطة واحدة فقط). لا فرق بينهما إلا بالطول! لكن الطول لم يأتِ من عدم. إنه نتيجة عبقرية لتطوّر الأحياء، كما يقول دارْوِنْ. وهذا التطوّر اللامتناهي واللامحدود هو الذي سَوّانا كثْرة ومتعددين، لكن، دون أن يمنحنا ميزة على غيرنا. والآن، بعد جلسة طويلة برفقة القرود «الحذرين واللطفاء» لكن الأنانيين بشكل كبير، سأبحث عن بؤرة أخرى جديرة بالتأمّل والاهتمام.
٭ ٭ ٭
«باغْماتي» معبد عظيم آخَر يجعل الزائر يشعر بالدوار. منَصّات حرق الموتى في أرجائه، على ضفة هذا النُهَيْر البائس الذي لا يجري، أو هكذا يبدو لي من ثَخانة مائه المليء بالسماد، تتراصف بشكل طُقوسيّ منَصَّات صُوّانية مذهلة، ومساطب من الحجر والأخشاب، حيث « حرْق» الجثث فوقها لا ينقطع على مدار اليوم. هذا «الجهنّم» الحيّ كان وجهتنا هذا النهار، أي شيطان دخل في نفسي لأُلْقي بها في هذا الجحيم؟
في بادية الشام، كنت أسمع الكلمات الغامضة حول السَّعيرة التي ستلتهم أجساد العباد يوم القيامة، وأرتعب. أهرب إلى البرّ لأتبوَّل من الخوف، وهأنذا اليوم أواجه الموتى في حرائقهم المزيّنة، وكأنهم في عرس. في «نيبال» لم ينتظروا يوم القيامة ليُحرِقوا موتاهم. هاهم يلْقون بهم، بعد أن زيَّنوهم، وعطَّروهم، وغسّلوهم، في قلب التنانير المشتعلة على حافة النهر. النهر؟! بل قُلْ مَسيلاً ضحلاً مملوء بالرماد والطين والقشور والأسمال. ماؤه مخيف من شدّة ثَخانته.
ولونه ترابي بائس، لا يُحيل إلاّ إلى الموت. هذا الذي كان ذات يوم نهراً، غدا مدفناً مائيّاً لرفات لا متناهية العدد. ولأن الأهالي يلقون مع الميت بعض النقود المعدنية، ترى الأطفال الجوعى يخوضون في طين الجثث الثخين، غاطسين فيه حتى صدورهم، وأياديهم مثل المخالب تبحث في قعر النهر عن دُرَيْهمات بلا قيمة، أو تكاد.
٭ ٭ ٭
أمام النار المقدسة أجلس بهيبة على القاع.. نار؟ نيران عديدة يَشْوون عليها الموتى بطريقة فنية تكاد أن تكون طقْساً. يشعلونها بأعصية طويلة، وبها يحركونها عندما تخبو. حول النار التي ستلتهم موتاهم يتحلَّقون بتبجيل وصمت، وكأنهم يخشون أن يسمع الميت ما يفكِّرون به. مثلهم أفعل مذهولاً، لكن، ماذا يقرأون في ألسنة النيران المتعالية نحو الغيم؟ وما هو السر الذي يجعلهم يُبْقونها مشتعلة باستمرار؟ لماذا يسيطر اللون الآجريّ الأحمر على ضفة نهر الموتى المكرّسة للحرق؟ ولماذا كل هذه التجمّعات البشرية في فناء «معبد الموت» الذي يهيمن على مراسيم الوداعات الأبدية؟ ومَنْ هم هؤلاء الناس؟ وكيف يلتقي مَنْ بمَنْ؟
٭ ٭ ٭
بعضهم يَشْوي أهله على الجمر، وآخرون يقيمون ولائم شواء لذيذ بالقرب منهم. يلتهمون الطعام الباذخ ولعابهم يسيل، شهوة الطعام تُعميهم عن رؤية حزن مَنْ حولهم؟ لا! إنها تجعلهم يقاومون الموت، يقاومونه بنَهَم لا يرتدع، وأنا؟ أنا أتنَقَّل مذهولاً بين جموع الأكَلَة الشرهين، متملّياً شهيتهم الغريبة. وبين جموع الحَرّاقين الذين يحرسون موتاهم المطْروحين على أعمدة النيران الملتهبة، صامتين، أمرّ. أمرُّ، وأُعاود المرور، من جديد. لا عويل، ولا نَدْب، ولا دموع. لحظة الوداع الأخير عندهم: صمت. وهو ما يعيدني إلى سهول الجزيرة، وندّاباتها النعّايات، اللواتي يملأ عويلهنّ البَرّ حتى على مَنْ لا يعرِفْنَهم!، يذكرني المشهد الصامت، أيضاً، بالنَدّابين العرب الذين «يذرفون كلمات الوداع» الخالية من الأحساس عندما يكون «الفقيد» ذا شأن، حتى لو لم يكن يهمهم أمره، على العكس من هؤلاء الذين يجْثون الآن أمامي مثل كائنات خرافية في أعالي «الهيمالايا» باحثين عن تطهير أنفسهم من الزيف. أخيراً، أدير ظهري مبتعداً عن المشهد، غارقاً فيه بعمق، وأنا أتساءل: إلى أي مَهاوٍ يقذف بنا الفكر حينما نخاطر بالتفكير؟
٭ ٭ ٭
في فناء «معبد الموت» هذا، المليء بالحياة تجذبني جموع البشر السائرين بلا مبالاة، وهم يلبسون أجمل الثياب. لكأن الموت بالنسبة لهم هو الشكل الأسمى للوجود. وإلاّ كيف نُفسِّر هذا البذخ المتمادي في المآكل والملابس والتزيّن والنظرات والحركات؟ ولِمَ تراني أقف عارياً في مشاعري، أُحَدِّق بشغف طاغ في المرأة التي تلبس الساري الأحمر، وهي تنحني بغواية لتنفخ النار الملتهبة، وكأنها تريد أن تشعل نار قلبي؟ رشاقتها ولونها الخمري اللذيذ ونعومتها وحركاتها الغاوية تأسرني فعلاً. وأجدني، بالقرب منها، أجثو على القاع، متربِّعاً بين الجالسين على الأرض بعفوية، ومثلهم ألْقُط عوداً طويلاً أحرِّك به النار! هنديّ من «الجزيرة السورية» في نيبال.
كاتب سوري