لم أكن لأغوص في بحر ظلمات انتخابات الجارة الشرقية ، باعتبارها شأن داخلي ، غير أن ما إعتاد عليه حكام العسكر ، من حشر أنوفهم في كل مايتعلق بمملكتنا العزيزة ، هو ما يفرض علينا جميعا الرد الحازم وفي الوقت الحاسم .
الديمقراطية يا سادة ، لا تعني انتخابات حرة ونزيهة فقط ،بل كذلك وجود ، أحزاب حقيقية و مؤسسات دستورية وهيئات مراقبة و لجان ملاحظة ومنظمات مجتمع مدني تكفل تتبع العملية الانتخابية ، بما يضمن نزاهتها ،وصحة نتائجها والتي لم و لن تتحقق في ظل ديكتاتورية الجنرالات .
قلت ، لم أكن أريد أن أخوض في شأن داخلي لدولة جارة وشقيقة للأسف ، وأن أسكت عن ما يتعرض له الشعب الجزائري من قمع وتنكيل ، بسبب حراكه المشروع و المستمر وتطلعه في بناء دولة مدنية . غير أن ما نعيشه جميعا ونطلع عليه يوميا من تفنن جيراننا سامحهم الله ، في إبتكار مختلف أساليب المكر والعداء و تسليط الآلة العدائية المتشبعة بالحقد ، والحسد القابع في نفوس حكام قصر المرادية ضد وحدتنا الترابية .
حكام ثقافة الثكنات والأوامر العسكرية ، الذين عملوا جاهدين على تسويق نظرية المؤامرة وتسخير الآلة الإعلامية المدفوعة الثمن ، من أجل أغراض مافيوزية لاقتسام و نهب ثروات الشعب الجزائري الشقيق وتسخيرها للدفع بمخططه العدائي ضد المغرب ودعم كيان وهمي .
و لهذا أذكر جيراننا بقول الشافعي :
أما ترى الأسد تُخشى وهي صامتة — والكلب يخشى لعمري وهو نَبّاحُ.
أكثر من عنوان يسمح بافتراض أن الرئيس تبون يتبنى خيار “قليل من التنمية قليل من الديمقراطية”. يبدو ذلك واضحاً من خلال ما يطرحه من خطط بيروقراطية تتوجه لتنمية مزيفة ، و محاولة تحرير الإقتصاد من الإعتماد على الطاقة الإخبارية وإنخراط قناة الجزيرة في” بروباغندا” النظام الجزائري ، وتحرير بعض القطاعات الحيوية ووضع الجنوب في قلب مشروعه الاقتصادي، واهتمامه بالريف والمناطق الفقيرة، ومقابل تجاهله للمطالب الديمقراطية ،واستمراره في سياسات التضييق على الحريات واعتراضات الشارع ، وغالبية القوى السياسية على مشروع الدستور.
يستفيد الرئيس في النظام الجزائري
العسكري ، من رصيد بيروقراطي عتيق، ينبني نظام الحكم فيه على نواة صلبة هي سلطة العسكر ، التي تلعب دور عراب يقود سياسة فاسدة متحكمة ، فوق الأحزاب ومؤسسات الدولة ، ويعمل على تحريك خيوط اللعبة السياسية من خلال “دمية ” تمثل دولة العسكر ، يطلق عليها رئيس الجمهورية . وكما كان الحال في المواعيد الانتخابية السابقة، باستثناء انتخابات سنة 1992 ، والتي انقلب فيها الجيش على الشرعية وارادة الشعب الجزائري ، باغتيال الرئيس محمد بوضياف ، الذي هو اغتيال لإرادة شعب سئم صوت أحذية رجال الثكنات و توريط البلاد في أتون حرب أهلية ، لاتزال تداعياتها إلى اليوم.
إنه إمتناع وإجماع على العزوف عن التصويت ، في الإنتخابات الجزائرية هذه السنة ، و الذي يكاد يكون كلياً في ولايات منطقة القبائل (شمال شرق)، في بجاية والبويرة وتيزي وزو، حيث لم تصل نسبة المشاركة الى مستوى 1%. وكتبت صحيفة “ليبرتي” الناطقة بالفرنسية على صدر صفحتها الاولى “موجة مقاطعة واسعة”. واعتبرت الصحيفة أنه “كما كان متوقعاً قاطع غالبية الجزائريين صناديق الاقتراع. وأكدت نسبة المشاركة الضعيفة التوجه العام لرفض الانتخابات”.
مهما يكن فإن النظام يتأقلم مع الوضع مادام أن إرادة الشعب الجزائري مغيبة وحقه في الاختيار مغتصب ،ولا غرابة فقد اعتبر الرئيس عبد المجيد تبون بعد اقتراعه ، أنّ هذه النسبة “لا تهمّ”، موضحاً : “سبق أن قلتُ إنّه بالنسبة لي، فإنّ نسبة المشاركة لا تهمّ. ما يهمّني أنّ من يصوّت عليهم الشعب لديهم الشرعيّة الكافية لأخذ زمام السلطة التشريعيّة”.
في نظرنا هل يكون قدر الشعب الجزائري هو نفسه دائماً ؟ أن يقع بالضرورة بين خيار الديمقراطية أو التنمية، الحرية أو الخبز، الاستمرارية أو التغيير، الأمن أو الحريات، لأنه وبعد ستة عقود من الاستقلال وتجارب سياسية مختلفة ، بات النضج السياسي يتيح للشعب الجزائري تحديد خياراته، وللجزائر التي تملك كل مقومات ومقدرات الإقلاع أن تنجز قدراً كبيراً من الديمقراطية وقدراً أكبر من التنمية.
لكن الغريب في الأمر و كما يعرف الجميع أن الدبلوماسية الجزائرية التي تتبنى عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى إلا دولة واحدة هي المغرب ، و التي تسخر حتى ديمقراطيتها المزورة لمعاكسته و تجلى ذالك في السماح لمن تسميهم “الشعب الصحراوي” في المشاركة في هذه الإنتخابات التي رفضها الشعب الجزائري اولا و قبل بها مرتزقة لا علاقة لهم بها . فحسب ما توصلنا به من معلومات ، فقد ذهب “بشرايا بيون ” الى الجزائر بأمر مباشر من القيادة العسكرية الجزائرية لتلقي تعليمات من اجل التأثيث لمساهمة كبيرة من اللاجئين الصحراويين المحتجزين في الانتخابات التشريعية الجزائرية، خاصة أن منطقة تندوف تعتبر خزانا انتخابيا هاما ، تعول عليها الجزائر في إنجاح ديمقراطية العسكر ، وتسجيل نسب مشاركة عالية ، ويكفي أن نعلم أن تندوف هي الوحيدة ، التي تعرف أكبر نسبة مشاركة مقارنة مع باقي المناطق الجزائرية، مما يضفي على الانتخابات الجزائرية نوعا من القبول ويساهم في الوصول الى المعدل الادنى الى المشاركة، في ظل عزوف جزائري كبير .
مرة أخرى يتأكد لنا جميعا أن مشروع الدولة المدنية بعيد المنال ، وأن قمع إرادة الشعب الجزائري ومختلف فعالياته السياسية والمدنية مستمر ، وأن حكومة العسكر ما هي إلا أداة للإستمرار في نهب و قمع الشعب الجزائري ، من خلال سياسة تبادل الأدوار بين الواحد المنشطر إلى اثنين، واحد يحكم وآخر يعارض بالتأييد ، سياسة أجادت صياغتها عصابة أحكمت سيطرتها على مقاليد السلطة ببلد المليون شهيد .
ذ/الحسين بكار السباعي
باحث في الإعلام والهجرة وحقوق الإنسان.