لا مراء في أن الساحرة المستديرة، منذ ظهورها في سياق عمالي في إنكلترا، وهي تشغل بال الجماهير، بطبقاتها ونخبها، في كل أرجاء المعمورة، إما بالرفض تارة، أو بالاهتمام حد الشغف تارة أخرى.
فهناك من الكُتَّاب والمفكرين، مثلا، من نظر إلى هذه اللعبة، بكثير من الشك والريبة كالروائي الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، الذي نعتها بالشيء الإنكليزي الغبي، وكذلك السيميائي الإيطالي أمبرتو إيكو الذي اعتبرها «أفيون الشعوب» والمسرحي المصري توفيق الحكيم، وغيرهم من المثقفين الذين اتهموا هذه المستديرة الممتلئة بالريح، بكونها تتسبب في تخدير الشعوب، وأنها تخلق العدوانية بين الجماهير، لأنها بشكل أو بآخر، تشكل أسوأ طريقة للترويج للقوميات والنعرات؛ في حين يرى البعض الآخر أن هذه «الساحرة المستديرة» قد تكون سبيلا نحو توحيد الأفكار والمشاعر بين الشعوب، في أفق عالم موحد يسوده السلم والسلام والتعايش، بين هؤلاء أذكر الفيلسوف الفرنسي ألبير كامو، والشاعر الفلسطيني محمود درويش وغيرهما. يقول الكاتب الأوروغوياني إدواردو جاليانو في كتابه عن هذا الوضع الملتبس ( (Cerrado por fútbol. إن معظم الكتاب والمفكرين العظماء في الغالب «إما مشجعون متعصبون، وإما أعداء ألداء للكرة». فلماذا اتخذت كرة القدم هذا المكان بين الأدباء والكُتَّاب؟ وهل هي مصدر إلهام وولع أو عدو يستحق الكراهية؟
عشق الكرة أو كراهيتها، يتجلى بشكل واضح في أكبر تظاهرة كروية في العالم، تلك التي تنظم كل أربع سنوات باسم المونديال. للأسف أن العرب منذ أول دورة لهذا الدوري العالمي في الأوروغواي سنة 1930، لم يحظ بشرف تنظيم هذه التظاهرة، كما لم يستطع أي بلد عربي الفوز بها، إلى أن جاء مونديال 2022 ، في شتاء هذا العام، حيث حظيت دولة قطر العربية بشرف تنظيم هذه الدورة، ما جعلها تحت مجهر الاختبار، أمام الدول الغربية، التي تنبأت قبل انطلاق فعاليات هذه الدورة، بفشلها، وإن كان وراء هذه التوقعات شيء في نفس الغرب ذاته.
والحق أن مزايا دورة قطر هذه، فاقت التوقعات لدرجة أنها وصلت إلى حد الصدمة بالنسبة لبعض الدول الغربية. لقد كانت فعلا دورة متميزة عن كل الدورات السابقة، تنظيما وجودة وتأثيرا وإشعاعا، باعتراف كل الخبراء، والمتتبعين لهذه اللعبة، يكفي أن أقول إنها غيرت خريطة الكرة العالمية بشكل كبير، إلى حد أنه لم تعد هناك منتخبات كبيرة وعريقة، وأخرى ضعيفة. فماذا عن إنجازات هذا المونديال؟ وما هي الدروس والعبر المستخلصة منه؟ وما هي بعض وأهم رسائله؟
مونديال بقيم عربية
اعترافٌ تاريخي خطير ميز هذه الدورة، حيث اعترف الغرب، من خلال أكبر مؤسسة عالمية، ألا وهي مؤسسة الفيفا، في شخص رئيسها ألفانتينو، خلال الندوة الصحافية الرسمية لافتتاح هذه الدورة، بأن الدول الغربية الغاشمة، مارست الظلم والعدوان على الشعوب العربية قرونا طويلة، ويتوجب عليها الآن أن تقدم اعتذارا للعرب، لما فعلته فيهم منذ زمن طويل، بدل الغلو في الغطرسة والكراهية بدعوى حقوق الإنسان، حيث دعت مجموعة من الدول الغربية بزعامة ألمانيا وفرنسا وإنكلترا وهولندا، إلى مقاطعة هذه الدورة، بسبب رفض دولة قطر السماح للمنتخبات المُشارِكة، الترويج لظاهرة المثلية الجنسية، حيث دأب اللاعبون في البطولات الغربية، وكذا الجماهير الغربية، على حمل شارات ترمز لهذا التيار خلال مجريات كل المباريات. وهذا حدث غير مسبوق، خصوصا أنه يأتي من أكبر مؤسسة عالمية يتحكم فيها الغرب، بشركاته العابرة للقارات، ومؤسساته السياسية النافدة. رفضُ العرب التاريخي ، من خلال دولة قطر، السماح لمروجي أفكار المثلية الجنسية بالدخول إلى بلادها، ناهيك من رفضهم رفضا تاما، لاستهلاك الكحول في مدرجات الملاعب، أو حتى في الفضاءات العامة، بما يتنافى مع قيم الدين الإسلامي الحنيف، لعمري هو نصر كبير، لم يسبق للعرب أن حققوه، في تاريخ الخضوع العربي للغرب الاستعماري. نصر/إنجاز آخر، في هذا المونديال العربي، ينضاف إلى اعتراف ألفانتينو بما قام به الغرب في حق العرب وما يزال.
قدم المنتخب المغربي للعالم، رسائل إنسانية بليغة، ترى في كون لعبة كرة القدم، ليست مجرد رياضة أو لعبة /ميدان للاستثمار المتوحش، وذلك من خلال بعث لاعبي هذا المنتخب لرسائل إنسانية افْتُقِدتْ في الغرب، في وقتنا الراهن، كبديل لقيم الفساد التي يدافع عنها هذا الغرب، ويسعى جاهدا إلى تكريسها، وفرضها على الآخرين بالقوة.
رسائل أخلاقية
قدم المنتخب المغربي للعالم، رسائل إنسانية بليغة، ترى في كون لعبة كرة القدم، ليست مجرد رياضة أو لعبة /ميدان للاستثمار المتوحش، وذلك من خلال بعث لاعبي هذا المنتخب لرسائل إنسانية افْتُقِدتْ في الغرب، في وقتنا الراهن، كبديل لقيم الفساد التي يدافع عنها هذا الغرب، ويسعى جاهدا إلى تكريسها، وفرضها على الآخرين بالقوة. من هذه الرسائل البر بالوالدين، حيث لاحظ العالم بأسره، كيف أن لاعبي المنتخب المغربي، يتسابقون إلى المدرجات لتقبيل رؤوس أمهاتهم وآبائهم عند نهاية كل مقابلة، بل إن هذه الصور اعتلت جل منصات مواقع التواصل العالمية، وحققت نسب مشاهدة قياسية، إعجابا بهذا السلوك الذي افْتُقِد في الغرب، بل إن صحافيا ألمانيا مشهورا، علق على هذه الصور قائلا: إذا كنا قد علّمنا العرب لعبة كرة القدم، فإنهم اليوم، يعلموننا القيم والأخلاق، والنتيجة أنهم تأهلوا إلى المربع الذهبي، ونحن الألمان أقصينا في الدور الأول، لذلك علينا أن نتعلم منهم الآن بروح رياضية.
من الرسائل الأخرى التي مررها اللاعبون المغاربة للغرب، تشبثهم القوي بدينهم الحنيف، من خلال سجودهم، شكرا لله، عند فوزهم أو هزيمتهم، في نهاية كل مقابلة. وهذا سلوك حضاري، يرى في كون كرة القدم، مجرد لعبة، تنتهي بفائز ومغلوب، وأن الأهم فيها، هي الروح الرياضية والقيم والأخلاق. نصر آخر للعرب في هذه الدورة، تمثل في تشبث العرب بقضيتهم الأولى، ألا وهي القضية الفلسطينية. ففي الوقت الذي اعتقد فيه الغرب أنه ربح رهان هذه القضية، من خلال تطبيع مجموعة من الدول العربية مع الكيان الصهيوني، يفاجأ اليوم، بأن القضية الفلسطينية ما تزال حاضرة بقوة، في وعي الجماهير والشعوب العربية، وذلك بحمل لاعبي المنتخب المغربي لعلم فلسطين، عند كل فوز، وكذا انتشار هذه الأعلام بشكل لافت على المدرجات، وخارج الملاعب بين الجماهير، بطريقة استفزت كثيرا، الكيان الصهيوني. والملاحظ خلال منافسات هذه الدورة، التفاف كل الدول المستضعفة في العالم، حول المنتخب المغربي، ضدا من غطرسة الدول الغربية؛ بما يعني أن هذه الدول قادرة على مواجهة الظلم الغربي، إذا ما هم توحدوا، خصوصا أن المنتخب المغربي، أثبت للعالم بأن فكرة الآخر القوي الذي لا يهزم، مجرد وهم، لأنه في إمكاننا نحن الضعفاء أن نفوز على الأقوياء، ذلك أن هذا المنتخب، أقصى أقوى المنتخبات الغربية في العالم، كبلجيكا وكندا وإسبانيا والبرتغال، إلى أن وصل إلى المربع الذهبي كأول بلد عربي وافريقي يبلغ هذا الدور، بل كان قاب قوسين أو أدنى من بلوغ النهائي، لولا الأخطاء (الظلم )التحكيمية.
لقد توحد العرب والأفارقة والمسلمون، شعوبا ونخبا ثقافية وسياسية، حول انتصارات المنتخب المغربي وانجازاته الخارقة، يكفي أن منسوب الفرح، كان عاليا، إلى درجة أنه وصل إلى أقصى حدود آسيا، وأدغال افريقيا، ومناصري المستضعفين في كل من أوروبا وأمريكا الشمالية والجنوبية، بل إن نواب البرلمان التركي، أوقفوا أشغالهم، في إحدى الدورات البرلمانية التركية، لمشاهدة مباراة المغرب ضد إسبانيا، وبدأ النواب يهتفون باسم المغرب، بعدما حقق فوزا عظيما بتأهله لدور الربع. أما الرئيس الأمريكي جو بايدن فقد بادر إلى اختصار كلمته، في منتدى أمريكي افريقي، ليتمكن من مشاهدة مباراة المغرب ضد المنتخب البرتغالي، إلى جانب رئيس الحكومة المغربية عزيز أخنوش، وتلك حكاية أخرى..
في المحصلة إن ما تحقق للعرب والمسلمين والافارقة في مونديال قطر، لم يكن البتة في الحسبان، لذلك سيظل هذا المونديال علامة فارقة في تاريخ الرياضة العربية على المستوى الدولي.
كاتب مغربي