بعدما تهرب من مواجهة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في الانتخابات الرئاسية التي جرت في السنوات الـ 13 الماضية واتهم بـ”الجبن”، يدخل كمال كليتشدار أوغلو اليوم منافسة الانتخابات الرئاسية بقوة وبحظوظ في الفوز، بدعم تحالف “الطاولة السداسية” الذي يضم إلى جانب الشعب الجمهوري 5 أحزاب معارضة مختلفة، كما يمكن أن يحصل على دعم حزب الشعوب الديمقراطي الكردي، الذي يمكن أن يحسم الانتخابات لمصلحته في حال قدم له الدعم الكامل.
وكان يوصف كليتشدار أوغلو بـ”مهزوز الثقة”، ولا يمتلك مهارات للخطابة أو ذكاء في العمل السياسي مقابل أردوغان، وبات اليوم يوصف أنه “ثعلب سياسي” وذو شخصية قوية مؤثرة وقادر على مخاطبة الشعب التركي باللغة التي يفهمها، كما أنه قادر على لعب دور حاسم في ملفات داخلية وخارجية، بعدما انتقل من مرحلة الرد على خطابات أردوغان واتهاماته إلى مرحلة “وضع الأجندة السياسية” للبلاد وجر الحكومة التركية وأردوغان للرد على خطاباته والملفات التي يفتحها.
كما تمكن كليتشدار أوغلو من تحقيق نقلة نوعية في حضوره السياسي، بإصلاحات واسعة أجراها في فلسفة حزب الشعب الجمهوري الذي اتهم على الدوام بتوجهاته “العلمانية الكمالية” المتطرفة، وبالتضييق على المحافظين الأتراك، قبل أن ينجح كليتشدار أوغلو في إبعاد الشخصيات “الصدامية” مع المجتمع وتقديم خطاب معتدل وصولاً إلى الاعتذار والاعتراف بأن سياسات التضييق على الحجاب كانت تصرفا خاطئا يجب ألا يتكرر، قبل أن ينتقل إلى توحيد صفوف المعارضة التركية والظهور بمظهر القائد الوطني الجامع.
ولد كليتشدار أوغلو عام 1948 لعائلة علوية في ولاية تونجلي شرق تركيا تقطنها أغلبية علوية كردية، وتعتبر أكثر ولاية تعارض سياسات أردوغان وحزب العدالة والتنمية، وتعود أصول عائلته قبل هجرتها إلى تركيا إلى منطقة خراسان في إيران وتنحدر من قبيلة تدعى “قريشان”، ما دفع البعض للقول إنه ينحدر من قبيلة “قريش” وهو ما لم يثبت أنه قد نسب نفسه لهذه القبيلة، باستثناء المراجع التاريخية التي تقول إن عائلته تنحدر من قبيلة كانت تعيش في إيران تدعى “قريشان”.
كليتشدار أوغلو هو الأوسط لعائلة مكونة من 7 أبناء، كان والده يعمل موظفا في دائرة الطابو، أكمل تعليمه الجامعي في قسم الاقتصاد والعلوم الإدارية من جامعة غازي في العاصمة أنقرة، ولاحقاً عمل موظفاً في وزارة المالية التركية، وتدرّج في المناصب قبل أن يصل إلى مسمى مدير عام في وزارة المالية بمدينة أزمير وهي مركز حزب الشعب الجمهوري والكماليين الأتراك، ومن ثم ترقى في المراتب الإدارية بالدولة وصولاً لتعيينه رئيساً لهيئة التأمين، وهو المنصب الذي جلب له الكثير من المتاعب.
انتخب كليتشدار أوغلو لأول مرة نائباً عن مدينة إسطنبول من حزب الشعب الجمهوري عام 2002، ثم أعيد انتخابه مجدداً عام 2007، وخاض عام 2009 انتخابات رئاسة بلدية إسطنبول عن حزب الشعب الجمهوري وخسرها لصالح مرشح حزب العدالة والتنمية، لكنه نجح في رفع نسبة أصوات الشعب الجمهوري وهو ما اعتبر بمثابة نجاح له.
ويقود كليتشدار أوغلو حزب الشعب الجمهوري منذ عام 2010 عقب استقالة الرئيس السابق للحزب دينيز بايكال، وفي عام 2014 رفض دخول الانتخابات الرئاسية مقابل أردوغان وفضل دعم مرشح من خارج الحزب بالتوافق مع أحزاب المعارضة،
وجرى التوافق على أكمل الدين إحسان أوغلو الذي انتصر عليه أردوغان بسهولة، كما رفض مجدداً خوض المعركة الانتخابية أمام أردوغان في انتخابات 2018 ورشح محرم إنجي النائب عن الحزب لخوض هذه الانتخابات قبل أن يخسر هو الآخر ويجلب مزيدا من الانتقادات لزعيم الحزب.
وباستثناء بعض النجاحات التي حققها الحزب في الانتخابات البلدية الأخيرة عبر فوزه برئاسة بلديات عدد من المحافظات الكبرى، شهدت فترة قيادة كليتشدار أوغلو لأكبر أحزاب المعارضة خسارة سلسلة طويلة من الانتخابات الرئاسية والبرلمانية والبلدية، وفشل خلال فترة قيادته في إسقاط أردوغان أو هزيمة الحزب الحاكم، وهو ما ولد له انتقادات متصاعدة داخل الحزب لفشله في إيصال الحزب للحكم على مدى 13 عاماً.
أما الانتقادات من الحزب الحاكم فتأخذ بعداً آخر، حيث ترى في كليتشدار أوغلو شخصية سياسية يسهل مهاجمتها وإقناع الجمهور بعدم أهليتها للوصول إلى الرئاسة، وطوال السنوات الماضية ركز أردوغان دعايته الانتخابية على مهاجمة تاريخ كليتشدار أوغلو السياسي، لا سيما فترة رئاسته لهيئة التأمين الصحي في البلاد بين عامي 1992 و1999، وهي الفترة التي كان القطاع الصحي في تركيا يشهد انهياراً كبيراً فيها.
وخلال الحملات الانتخابية، كان يكتفي أردوغان ببث مقاطع فيديو وتقارير تلفزيونية أرشيفية عن أوضاع المستشفيات في تلك الفترة، لا سيما الانتظار لساعات طويلة وسوء الخدمات الصحية وشكاوى المواطنين من عدم توفر الدواء، في طريقة كانت تثير الخوف لدى شريحة واسعة من الشعب التركي من التصويت للشعب الجمهوري بشكل عام وكليتشدار أوغلو بشكل خاص.
كما أن كليتشدار أوغلو لديه سجل طويل من التصريحات والمواقف السياسية المثيرة للجدل يسهل من خلالها مهاجمته، لا سيما فيما يتعلق بالعلمانية والدين والحرب على الإرهاب والعمليات العسكرية خارج البلاد والتعامل مع القضية الكردية والعلاقات مع أوروبا والولايات المتحدة، وجميعها مواقف تقف عائقاً أمام اجتذاب أصوات أي شريحة من القوميين والمحافظين الأتراك، وهي الشريحة الأوسع في البلاد.
يضاف إلى ذلك كله، أن كليتشدار أوغلو محسوب على التكتل اليساري العلماني داخل الشعب الجمهوري والذي لم يعد قادراً على حصد أصوات تؤهله للفوز في أي انتخابات بتركيا، فالنجاح الوحيد لكليتشدار أوغلو خلال فترة رئاسته هو الفوز برئاسة بلديتي إسطنبول وأنقرة، وهو الفوز الذي لم يكن ليتحقق لولا اختياره مرشحين ذوي توجهات محافظة، ولديهم مواقف معلنة باحترامهم للحجاب وتصالحهم مع الدين بعيداً عن المواقف العلمانية المتشددة.
إلا أن كل الحسابات السابقة بدأت تتغير تدريجياً في السنوات الأخيرة مع الأداء المختلف الذي قدمه كليتشدار أوغلو، من حيث التواصل بشكل أقرب مع الجمهور والقيام بجولات في كافة المحافظات التركية، وتقديم وعود بحل مشاكل المواطنين في كافة المجالات، لا سيما “مسيرة العدالة” التي قادها عام 2017 من العاصمة أنقرة إلى إسطنبول سيراً على الأقدام واعتبرت بمثابة أهم تحول في قيادة كليتشدار أوغلو.
كما اتخذ كليتشدار أوغلو خطوات هامة تتعلق بـ”تحييد” القيادات العلمانية المتشددة عن المشهد السياسي، وإفساح المجال أمام الخطاب الواقعي والمتزن وهو ما بدد المخاوف التقليدية لدى المحافظين الأتراك، حيث أكد مراراً أن التاريخ لن يعود للخلف وأن لا إجراءات ضد المحافظين، ودلل على ذلك بتعيين سيدات محجبات في طاقمه المقرب، وأبرز حضور رئيسي بلديتي إسطنبول وأنقرة ذات الميول القومية والمحافظة وهو ما رفع أسهمه الانتخابية بشكل كبير.