العاصمة التي يفترض أن تكون قلب الحياة السياسية والإعلامية بالمغرب، يبدو أن الصحفيين صاروا ضيوفًا على أعوان السلطة قبل أن يكونوا ضيوفًا في الأماكن العامة أو المرافق العمومية. ظاهرة غريبة ومقلقة تتكرر منذ بدء بثنا المباشر و حواراتنا الميدانية أمام البرلمان : المقدم التابع لوزارة الداخلية يظهر قبل أي تسجيل أو لقاء صحفي، يسأل عن مضمون الحوار وكأنه رئيس التحرير أو الناشر الرسمي للموقع.
ولنكن واضحين: السؤال ليس بريئًا. هل هو اجتهاد شخصي من عون السلطة الطموح؟ أم تعليمات صامتة من القائد أو الباشا أو العامل، وربما من الوالي محمد اليعقوبي، لان ما وقع كان بالعاصمة الرباط؟
بل هل يمتد تأثيرها إلى وزير الداخلية عبد الوافي لفتيت نفسه؟ مهما كان الجواب، فإن هذا السلوك يظل مسؤولية سياسية مباشرة لوزير الداخلية، باعتباره المشرف الأعلى على أعوان السلطة الذين يتحركون باسم الدولة.
الفضول المبالغ فيه لدى المقدم لا يقف عند حدود السؤال عن مضمون الحوار، بل يتحول أحيانًا إلى تهديد مبطن، حين يلوّح: “سأكتب هذا لرئيسي!”، في إشارة واضحة إلى أنه يمكن أن يخلق مشاكل للصحفي فقط لأنه رفض الإفصاح عن محتوى عمله.
وكأن حرية الصحافة في المغرب صارت بندًا اختياريًا يمكن للموظف المحلي قراءته أو تجاهله حسب مزاجه.
الأدهى من ذلك، أن بعض أعوان السلطة صاروا يطالبون الصحفيين بـرخصة التصوير الخارجي رغم أنهم لا يملكون أي صفة قانونية للقيام بذلك. القانون واضح: هذه الوثائق تصدر عن المركز السينمائي المغربي، وليس من حق أي مقدم أو عون سلطة مطالبة الصحفي بها أو مراجعتها، لأنه ببساطة لا يتوفر على الصفة الضبطية.
ومع ذلك، تصرفات كهذه تُظهر خللًا واضحًا في فهم حدود السلطة وصلاحياتها، وتحول الميدان الإعلامي إلى مساحة للمزاج الشخصي بدلًا من خدمة الصالح العام.
لقد عايشت، كصحفي مهني، عهودًا متعددة من وزارة الداخلية، حتى في زمن الراحل إدريس البصري، الذي عرف بسطوة نفوذه. ومع ذلك، لم أواجه ظاهرة كهذه، حيث يصبح عون السلطة محررًا وموجهًا ومراجعًا للصحفي قبل أن يبدأ عمله.
هذا ليس مجرد تجاوز، بل إهانة للصحافة، وخرق لأخلاقيات العمل الصحفي، وضرب لصورة المغرب دوليًا، في الوقت الذي لا يزال فيه بلدنا يحتل مراتب متأخرة في تصنيف حرية الصحافة.
الرسالة هنا إلى السيد عبد الوافي لفتيت واضحة وصريحة: ما يحدث في الرباط ليس اجتهادًا بريئًا، بل عبث إداري يجب أن يتوقف فورًا. حرية الإعلام ليست هدية تمنحها وزارة الداخلية، ولا لعبة يمكن لأعوان السلطة التحكم فيها. الصحفيون ليسوا موظفين لدى المقدم، ولا الميدان الإعلامي ملعبًا لممارسة الفضول والمضايقة.
إن استمرار هذه الممارسات يعكس خللًا هيكليًا في العلاقة بين الإدارة الترابية والإعلام المهني، ويطرح سؤالًا مؤرقًا: هل سيظل المسؤول الأعلى عن هؤلاء الأعوان مكتفيًا بالمشاهدة، أم أنه سيقوم بمسؤولياته في حماية حرية الصحافة بدل أن يكون شاهدًا صامتًا على هذا العبث؟
نهاية القول: الرباط الحديثة لا تحتاج إلى مقدم صحفي يحدد مسبقًا مضمون الحوارات، بل تحتاج إلى وزير يضمن حرية الإعلام ويضع حدودًا واضحة لصلاحيات أعوانه، حتى تعود للصحافة المغربية مكانتها المهنية وتحترم القوانين والدستور في الوقت نفسه.















