الإعلام يقتضي الحرية والأمن يستوجب الضبط وهذا ما يخلق ارتياب بين الإعلامي والأمني، هل يمكن الجمع بين متناقضين؟
أولا يجب التأكيد على أن الضبط الاجتماعي عادة ما تتصارع عليه جميع المنظمات في البنية الاجتماعية ومن بينها الدولة والإعلام، وهذا أفرز لنا ضرورة إيجاد توافق وتوازن بين هذه الأطراف. والفعل الأمني لا يخرج عن هذه القاعدة خاصة أن المؤسسة الأمنية والمؤسسة الإعلامية تعتبران من أساليب الضبط الاجتماعي والتنشئة الاجتماعية. لكن الواقع وبكل أسف رسم لنا صورة لحالة تناقض صارخة ما بين الأمن والمؤسسات الإعلامية وبين الأمني والإعلامي، وهو أمر طبيعي أملته الترسبات التاريخية والتجاذبات والتقاطع في الأدوار التي عرفتها وتعرفها العلاقة بين الإعلام والأمن مما افرز حركية من المد والجزر ونوعا من القلق المتبادل بينهما انعكس سلبا على هذه العلاقة، وجعلت مساحات التعاون والعمل المشترك بينهما تضيق وتزيد من سوء الفهم الذي قد يصل إلى حد المواجهة في بعض الأحيان. فطبيعة العلاقة تنطلق بين المؤثر والمتأثر وبين التأثير ورد الفعل. لكن أهم ما يميز العلاقة بين رجل الأمن ورجل الإعلام هو اختلاف منطلقات كل منهما، وفي نفس الوقت يبقى القاسم المشترك الذي يمكن أن يجمع بينهما وينسج الثقة بينهما هو ارتباطهما بالمهنية والمسؤولية الأخلاقية.
كما أن مبادئ الحكامة الأمنية الجيدة تقتضي التكامل وحسن التواصل بين الجهاز الأمني والإعلام لتحقيق الأمن والاستقرار كدافع أساسي لممارسة الحريات والتمتع بالحقوق في إطار دولة الحق والقانون واحترام حقوق الإنسان والحريات العامة. فالتعاون بين المؤسستين الأمنية والإعلامية يستدعي حل الإشكالية ” الأمنية/الإعلامية” أي ضمان الإحساس بالأمن من خلال خلق إعلام أمني يستوعب ويعزز الوظائف الإعلامية والأمنية والاجتماعية لكل منهما من خلال فكر علمي منظم واع يحقق غايته والتوصل إلى صيغ مناسبة لما يجب أن تكون عليه العلاقة السليمة بين الإعلام والأمن.
هل يمكن أن نتحدث عن الإعلام الأمني في غياب خلايا أو أقسام للاتصال والتواصل والعلاقات العامة؟
يجب الاعتراف أن المؤسسة الأمنية دأبت في السنوات الأخيرة إلى تغيير مقاربة التعامل بين الجهاز الأمني والإعلام من خلال تشجيع سبل التواصل والحوار بينهما وإذكاء الاقتناع المتبادل بوظيفتهما الاجتماعية وبتقاطع مجالات اختصاصاتهما والتقاءها عند توعية المواطن وحمايته من الظاهرة الإجرامية. لذلك عملت المؤسسة الأمنية على إحداث خلايا لا ممركزة للتواصل على صعيد جميع المصالح الأمنية سواء الجهوية والإقليمية مهمتها تأمين الاتصال الدائم مع منظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام وضمان الحق في الحصول على المعلومة بما لا يتعارض مع الضوابط القانونية والمهنية من أجل تدعيم الإحساس بالأمن لدى المواطنين. لكن لحد الآن يقتصر دورها في تتبع ما تنشره الصحف المحلية بخصوص الوضع الأمني وإبلاغ الإدارة المركزية بها وعقد اجتماعات مناسباتية مع وسائل الإعلام والمجتمع المدني. وفي نفس السياق أُحدث منصب مسؤول عن التواصل في الإدارة المركزية يقوم بدور الناطق الرسمي باسم المرفق الأمني من مهامه تنمية العلاقة بين المؤسسة الشرطية وتمثيلها أمام مختلف وسائل الإعلام.
و كملاحظة عامة تبقى تجليات الإعلام الأمني بالمغرب جد محدودة ويعد دورها مقصرا ويعيش حالة ضبابية غارقة في التشويش والارتباك مقارنة ببعض الدول التي اعتمدت هذه الإستراتيجية في سياساتها الأمنية، وهذا يطرح مسألة “الجرأة” في التعامل مع القضايا الأمنية وكذلك مستوى المهنية والكفاءة الإعلامية لدى الإعلامي وطغيان المقاربة الأمنية على تفكير رجل الأمن هذا دون الخوض في نمطية العمل والموضوعات الأمنية المعالجة ومدى فهم فلسفة الإعلام الأمني.
والتطور التكنولوجي يفرض الآن على المؤسستين الاستفادة من الإمكانيات التي يتيحها الإعلام الجديد والمتجدد الذي يعرف تزايدا ملحوظا في استغلاله سواء من طرف المؤسسة الأمنية ومسؤولي أجهزة الشرطة للتواصل الفعال والآني مع المواطنين ولجمع المعلومات وإدارة الأزمات وتوعية على الرأي العام أو من طرف وسائل الإعلام.
هل يمكن فعلا أنسنة الإعلام الأمني؟
هنا لا بد أن نستحضر أن فلسفة ومقاصد الإعلام الأمني تترجمها أهدافه ووظائفه والتي تصب أساساً في تطوير أواصر التعاون بين الأجهزة الأمنية وأجهزة الإعلام وتوليد المفاهيم الأمنية ورفع الوعي والتوعية بوسائل الوقاية من الجريمة لدى المتلقي وأفراد المجتمع وتعزيز الثقة مع رجال الشرطة من خلال صيانة الصورة الذهنية لهم ولمؤسستهم مساهمةً في الإنتاج المشترك للأمن.
فأنسنة الإعلام الأمني يجد مرجعيته في أنسنة العمل الشرطي من خلال تثمين العلاقة بين المواطن ورجل الأمن من جهة وبين المؤسسة الأمنية ووسائل الإعلام من جهة أخرى، وفي تحديد ما يتعرض له الجمهور وما يتأثر به من قبل وسائل الإعلام المختلفة في ظل الوقت الكبير الذي يخصصه الفرد للتعاطي مع وسائل الإعلام. ويجب القول أن العمل الأمني و الإعلامي يمثل كيانا اجتماعيا يعتبر الإنسان عنصره الأساسي ونجاح الأمن والإعلام يتوقف على الإنسان أولاً ثم على السياسات العمومية المعتمدة.
وضرورة أنسنة الإعلام الأمني باعتباره أحد مكونات البناء الاجتماعي للمجتمع تقتضي إبراز إنسانية الإنسان في الرسائل الإعلامية عبر وسائله المختلفة والمتعددة وتطوير المواطن ليصبح مؤنسناً يؤمن قولا وعملا وبقناعة ذاتية بحقه في الحرية والعدل والأمن والمساواة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. ويجب أن تشمل أنسنة الإعلام الأمني أنسنة الحدث الأمني وأنسنة وسائل الإعلام التي تعالج الموضوع الأمني إلى جانب أنسنة الخطاب الإعلامي ومضمون الرسالة والصورة الإعلامية لترسيخ وتنمية المفردات الإنسانوية وغرس الأفكار الايجابية في الضمير الفردي والرأي العام لتجاوز مرحلة انعدام الثقة.
ويبقى الأمن المستدام هو الحلقة المفقودة والتي لا يمكن تجاهلها في مجتمع اليوم ولا يكون إلا بشراكة وطنية تقوم على التكامل بشكل فاعل بين المؤسسة الأمنية والمجتمع المدني والإعلام، لذلك يجب أن نتجاوز في تدبير الشأن الأمني مرحلة الإجابة عن السؤالين الكلاسيكيين “ماذا يحدث؟” وكيف يحدث؟” لأننا نرى أنه حان وقت الدخول لمرحلة ” لماذا يحدث ما يحدث بهذه الكيفية؟”.