هو موضوع يجد قيمته وأهميته العلمية والمعرفية، في الصيرورة التاريخية التي طبعت الرُؤى والتوجهات العقائدية دينياً والفكرية سياسياً و المرجعية ثقافياً،التي حكمت أطروحة « أهمية حوار الحضارات والأديان » و معها مفهوم « صراع أو تكامل الثقافات الإنسانية ».
في هذه الدراسة العلمية،المُستندة معرفياً إلى العديد من المراجع البحثية وكُبريات المُؤلَّفات،التي ساق من خلالها كبار الكُتَّاب والمُؤلِّفين (صامويل هنتنغتون، فرانسيس فوكوياما…)، تصورات عديدة ومن زوايا معالجة مختلفة، تارةً عن مقومات الحوار الناجح بين الثقافات والأديان، الذي يقوم على أساس الإرث الإنساني الحضاري المشترك، وهو الطرح الذي يُفنِّد مقولة “صدام الحضارات” بوصف ذلك من صك و وحي المحاربين المتطرفين والمحافظين الجدد، وتارةً عن مكامن الخلاف أو الاختلاف بين « الناطقين » باسم هذه الحضارة في مقابل « المُدَّعِين » دفاعاً عن تلك الحضارة، والحال أنَّ الحضارة هي مفهوم إنساني مشترك بقراءة كونية،بعيداً عن الانتماء الديني أو خنادق السياسة والفكر الإنساني المُتشعِب، الذي وإن اختلفت تجلياته ومظاهره، فهو يبقى منتوجاً خالصاً من إبداع الإنسان، بغضِّ النظر عن التموقع العرقي أو الديني أو الإيديولوجي، الذي يبقى تموقعاً ضيِّقاً على مستويَي الأُفُق والتطلعات الإنسانية الرحبة بالفطرة والطبيعة.
تاريخياً و في تلاحق الدوائر الحضارية نشَبَت صراعات وسالت دماء وسُطِّر تاريخ من التناحر البشري غَلب على المسارات الإيجابية التي نجمت عن هذا التلاحق المتسارع، وذلك التلاقح الذي لا ينتهي بين الحضارات الإنسانية، على مستوى الفكر والحركة، والذي لولاه ما مضت حياة بني آدم على الأرض في خط متصاعد، بحثاً عن الحقيقة والتمكن والرفاه. وغلبة التناحر والتباغض على التعاون والتفاهم في ما تم تسجيله ورصده عن العلاقات المستمرة بين الحضارات، يعود إلى أمرين أساسيين، الأول أن الصراعات المسلحة هي الأحداث الأكثر لفتاً للانتباه، وتترك دائما علامات يمكن معرفتها وتحديد معالمها بيُسر وسهولة، وبالتالي أمكن تدوينها لتطغى على التفاعلات الناعمة وغير المرئية، بين الحضارات والتي لها البقاء الفعلي، والفعل الإيجابي الذي يغلب و يطغى مع الزمن على كل ما سَطَّره المحاربون بكل عدتهم وعتادهم، بدءاً من سنابك الخيول والرماح الممشوقة المسنونة وانتهاءً بجنازير الدبابات والصواريخ العابرة للقارات.
والثاني هو أن الإمبراطوريات استخدمت تاريخياً في تمددها العسكري تعبيرات ومفاهيم حضارية، كخطاب تحايلي يرمي إلى تبرير مسلكها العدواني التوسعي، إذ تحدَّثَ قادة الجيوش عن رسالة حضارية مزعومة، و بعثوا إلى الشعوب المُراد غزوها رسائل تقول إنهم لا يستهدفون احتلال الأرض ولا نهب الثروات، و إنما تمدين الناس وترقية حياتهم و إدماجهم في الفعل والتفاعل الحضاري، وفي تبريرات أخرى، تخليصهم من حكامهم الطغاة.
نظرية «أسطورة الشرق والغرب»
في خِضَم هذه اللحظة التاريخية الفارقة،التي تُصِرُّ بعض القيادات السياسية وكذا بعض رؤساء دول وحكومات في دول غربية بعينها، على اختزال و وضع كل فعل عدواني و إرهابي تحت يافطة « متطرفون إسلاميون » و في أحيان أخرى وجد قليلة « فعل إرهابي مسيحي »، مع القفز على الأفعال الإرهابية الحقيقية الصادرة عن جيوش مدججة بمختلف أنواع الأسلحة الأكثر فتكاً، كما هو الحال مع الجيش الإسرائيلي المحتل و إرهابه التاريخي المنظم والمستمر في الزمان والمكان في حق الشعب الفلسطيني الأعزل.
وفي خِضَم كل هذا لا يجب أن نستسلم للمقولة التاريخية التي تتصور أن “الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا أبداً”، لأنها أولاً من صنع و صَكِّ المحاربين وليست من صناعة و إنتاج أهل الفكر والحكمة والدراية، وهي ثانياً تختلف مع السُنَن الكونية، منطق الحياة وطبيعة تطورها، التي تقول بجلاء، إن تاريخ الإنسانية عبارة عن طبقات يركب بعضها بعضاً، وأن الناس جميعاً في مشارق الأرض ومغاربها صنعوا طيلة عمرهم المديد هذه الطبقات، فصارت رقائق حضارية متواصلة ومتداخلة ومتفاعلة، بل و متكاملة من حيث البنية والشكل و سياق الجوهر والموضوع.
أصل الحوار أن يكون بين أتباع الديانات أو بين المتدينين أنفسهم، وليس بين الأديان ذاتها
لقد حاول بعض المفكرين الغربيين أن يهيلوا التراب على عطاء الحضارات الأخرى، ويهضموا حق شعوبها في الإبداع الخَلاَّق، فروَّجوا لفكرة “المركزية الأوروبية” ذات الصبغة العنصرية، والتي تتوَهَّم أن شعلة الحضارة انتقلت من الإغريق الأقدمين إلى الأوروبيين المُحدِّثين، ولم تَمُر بأي وسائط، ولم تتأثر في نشأتها بأحد، ولم تُنقل في وصولها إلى الزمن الحديث عن أحد. لكن هذه المغالطة لم تُرضِ كثيرين بمن في ذلك علماء غربيون، تحدَّثَ بعضهم عن أن الإغريق نقلوا عن الحضارة الفرعونية، وأن العرب والمسلمين أضافوا الكثير إلى ما أنتجته القريحة الإغريقية، وأهدوه للإنسانية، فالتقطه الأوروبيون وهضموه واستفادوا منه، وزادوا عليه كثيراً حتى وصلنا إلى التقدم العلمي والتقني الكبير الذي نعيشه الآن.
جدلية «حوار الأديان» أم «حوار الحضارات»..؟
عندما أراد بعض العقلاء أن يُقرِّبوا بين البشر المختلفين في الألسُن والألوان والمشارب والأهواء والظروف الحياتية، ساروا في اتجاهين، الأول هو « حوار الحضارات » والثاني يتعلق ب « حوار الأديان »، لكن الطريق الأخيرة كانت ولا تزال ملغمة إلى أقصى حد، فنِقاط الخلاف بين الإسلام والمسيحية واليهودية تتمحور في جانب كبير منها حول العقيدة، وهي مسألة غير قابلة للتفاوض ولا التنازل أو المساومة. وعلى الرغم من أنَّ الأطراف المتحاوِرَة تحاول تجنُّبها أو تدَّعي ذلك، فإنها لا تستطيع أن تتجاوزها، ولم تنجح إلى الآن في تفرقة جليَّة و تمييز واضح بين اللاهوت (الإله أو الرب) و الناسوت (الجسد البشري)، ولأجل كل هذا اقتنع كثيرون في نهاية المطاف، وبعد جولات عديدة من النقاش والمداولة ولعقود من الزمن، بأن الحوار يجب أن يكون بين أتباع هذه الديانات، أو بين المتدينين أنفسهم، وليس بين الأديان ذاتها.
والوصول إلى تلك النقطة يجعل الحديث عن « حوار الحضارات » لا « حوار الأديان » هو الأجدى والأنفع، فالحضارة تشمل الدين، لكن الأخير لا يشملها، وفي الوقت نفسه فإن تجاذب أطراف الحديث حول الحضارات أخَفُّ وطأةً على النفس وأيسَرُ على العقل من التعامل مع العقائد، كما أنَّ وجهَ الشمول في المدخل الحضاري أنه يجمع بين الدين وغيره مظاهر وتجليات الفعل و السلوك الإنساني (عادات،لغة، موروث ثقافي و إنساني،علوم…) في نسيج واحد متكامل و مترابط، فيبتعد الحوار عن المسائل العَقَدية ليركز على الثقافة النخبوية وطرائق المعيشة بما فيها العادات والتقاليد والموروث الشعبي، كما أسلفنا، ومستوى المعارف التي ارتقى إليها تجمُّعٌ بشري ما، والأفكار المتداولة في لحظة التحاور، والآداب والفنون التي يتم إبداعها، وأنماط الإنتاج السائدة. ويدخل كل هذا محل نقاشٍ حول سُبُل استفادة كل طرف مما لدى الآخر من هذا المخزون الحضاري، المادي والمعنوي، وهنا يصبح الباب مفتوحاً أمام عَطَاء على مستوى مجالات علمية وعمَلية عدة، ومنها السياسة والاقتصاد والاجتماع والفنون.
حوار الحضارات إلى أين ؟..السؤال المفصلي تاريخياً،إنسانياً و أزلياً
أثبتت أطروحة “حوار الحضارات” أنها إحدى الوسائل المهمة والحيوية لإنقاذ العالم برمته من جنون الصراع المفتوح ومن عقلية «حتمية صدام الحضارات»
الظاهرتأكيداً أنَّ الذين رفعوا شعار “حوار الأديان” بدأوا هم أنفسهم يتجهون إلى التحاور الثقافي والحضاري، منطلقين من أن أطروحة “حوار الحضارات” لم تَمُت أمام المد الكاسح للمقولات والتصورات المضادة، التي بُنِيت على أساس الصراع والصِّدام باعتباره “حتمية تاريخية »، والتي رَمَتْ إلى تسويق المشروع الإمبراطوري للولايات المتحدة الأميركية، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وانقضاء نظام « القطبية الثنائية »، لكن حوار الحضارات واجه، بفعل سياسات المحافظين الجدد في الولايات المتحدة الأمريكية، تحدياً كبيراً في المسار والمصير، وظهر في لحظة ما وكأنه حيلة من قِبَل الضعفاء لترويض القوة المفرطة لأمريكا وحلفائها، من دون أن يفقد المتحمسين له لأسباب إنسانية وقناعات سياسية في الغرب ذاته.
وربما يعود كل هذا إلى أن هناك إدراكاً لمعادلة حياتية، تقول من دون مواربة، إن الحضارة كانت دائماً وأبداً محور الالتقاء بين الشعوب التي كان صراعها السياسي والعسكري عادة ما ينتهي إلى التقاء حضاري تذوب فيه الخصومات، ويبدأ معه التفاعل الذي ينتهي إلى الاتصال والتعاون والأخذ والعطاء والتأثير والتأثُّر، والأهم من هذا وذاك التقاء الشعوب المتخاصمة، وبداية التعايش وتبادل الأفكار وتلاقح الثقافات.
وقد أثبتت أطروحة “حوار الحضارات” أنها إحدى الوسائل و الآليات المهمة والحيوية لإنقاذ العالم برمته من جنون الصراع المفتوح، الذي أعاد الاستعمار التقليدي إلى التاريخ، بعد أن ظَنَّ كثيرون أنه رحل إلى غير رجعة، وأوقع العالم في أزمة مالية طاحنة، مَدَّت أياديها الآثمة فأضَرَّت الجميع، وبرهنت على أن العالم ليس منقسماً إلى معسكرين متطاحنين، كما يطرح بعض غُلاة الدين ويصفونه ب “الفسطاطَين”، ولا إلى معسكرات عدة يتحالف بعضها مع بعض استعداداً لصراع ضروسٍ بين الحضارات الإنسانية، كما زعم صمويل هنتنغتون، إنما هناك مخاطر مشتركة وغايات متطابقة تضع الجميع، أو حتى الغالبية، في خندق واحد، أو على الأقل في خنادق متلاصقة.
في الطرح القائم على «مقومات نجاح حوار الحضارات»
“الحضارات الإنسانية لا تفنى كليةً، ولا تنتهي أبداً إلى العدم، بل هي تندمج، أو ما تبقَّى منها، في الحضارة التي تليها”
من الضروري أن يتفادى القائمون والمؤمنون بمفهوم « حوار الحضارات » العيوب التي وصَمَت العديد من المقاربات التي رَمَتْ إلى إطلاق الحوار بين الحضارات، وتحسين شروطه، ويمكن ذكرها على النحو التالي:
١ – اختلاط الأدوار والقضايا، اذ تتداخل المسائل العَقَدية مع الفكرية، وتحُلُّ الرؤى والتصورات الدينية في وقت يكون النقاش بحاجة ماسة إلى تجنيب ما يُختلَفُ حوله و عليه، ولا توجد فرصة في تغييره، ولا يُحَبِّذُ أي من المتحاورين التنازل عنه، وإعلاء ما يتم الاتفاق حوله، وما يمثل قواسم مشتركة بين الجميع. وما يزيد الطين بلة أن العديد من الحوارات تُترَك لرجال الدين وعلمائه، وهؤلاء يَنصَبُّ اهتمامهم الأساسي على الدفاع عن المعتقدات والمسالك المذهبية، وتبرئتها مما يلصق بها من اتهامات، وما يُلقى عليها من صور نمطية مغلوطة، ولا يعني هذا إبعاد المعتقد الديني عن الحوار برمته، إنما تخصيص مسارات له، تساعد المجرى الرئيسي للحوار والذي يجب أن ينصرف إلى القضايا الثقافية والمصالح المتبادلة في المجالات كافة.
٢ – التوظيف السياسي لفكرة “حوار الحضارات” من قِبل الدول الكبرى، فالسياسة تشكل جوهر الصراع الحضاري المزعوم، بل إن إمعان النظر في طبيعة الصراع الدولي الراهن، أو السابق، وربما اللاحق، يُكتَشف للوهلة الأولى، ففي حقيقة الأمر، « الحضارات لا تتصادم، وإنما تتصادم القوى السياسية والاقتصادية النافذة في حضارة من الحضارات مع قريناتها في حضارات وثقافات أخرى ». والصراعات السياسية في حد ذاتها باتت من السِّمات والصفات والطبائع المستمرة لدى الكيانات البشرية، عائلات أو قبائل أو دُوَلاً أو إمبراطوريات، لكنها المحاولات الزائفة التي تُلبِسُ هذا النوع من الصراعات لُبُوساً حضارياً، وتحاول أن تمُدَّه على اتساعه، وتمنحه عُمقاً، عبر ربطه بالحضارات، هي التي تشكل خطراً على الحوار الحضاري، وتجعل منه مجرد تكتيك في استراتيجية كبرى، أو تفصيلاً جزئياً في تصور سياسي شامل ينطوي على رغبة عارمة في الهيمنة والاستحواذ من قِبَل الدول الكبرى على نظيرتها الصغرى.
٣ – حصر الحوار في نطاق النخب، بشتى أنواعها، وعدم الالتفات إلى الجمهور العريض، المعني بهذا الحوار، والذي يمكن أن يساهم في إنجاحه، لو وُضعت خطة متكاملة الأركان، يشارك الجميع في صياغتها، من أجل إشراك الناس جميعاً، في مشارق الأرض ومغاربها، في الحوار عبر مختلف أدوات الاتصال الجماهيري، التي شهدت ثورة كبيرة وطفرة نوعية في السنوات الأخيرة.
٤ – غَلَبة اللغة والتوجهات الاستعلائية، التي تنطلق من أن هناك أطرافاً أقوى وأكثر تحضُّراً من الأخرى المتحاوَر معها، ومثل هذا التصور يقود إلى إذكاء الصراع وتأجيجه، وليس إلى قيام حوار إيجابي يقود إلى التعاون. فالصراع يحدث عندما تختال إحدى الثقافات على الأخريات، وتعتبر نفسها الثقافة العظمى، ودونها الصُغريات، والعلاقة بينهما هي علاقة ميتافيزيقية، علاقة بين الواحد والكثير، علاقة ذات صلة بالوجود، علاقة بين الإله والمخلوقات، بل إنها علاقة أخلاقية بين ما ينبغي أن يكون وما هو كائن، إنها ثقافة واحدة، في سعيها إلى القوة، تتجاوز كل الثقافات الأخرى، وتتفوق عليها.
وفي ظل السعي لتجاوز هذه العيوب والأعطاب، هناك من يتوقع أن تصل الحضارات البشرية كافة في وقت، طال أم قصر، إلى نوع من التماثل في التطبيقات التقنية، وبالتالي تتماثل طُرُق المعيشة، لكن هذا التماثل في مجال التقنيات لا يعني أبداً خلق أنماط إنسانية، بل ستظل هناك حضارات متمايزة جداً، وذلك بحكم اختلاف البشر، وهو اختلاف طبيعي، لا جدال فيه، وسوف يكون لفظ الحضارة على المدى البعيد، سواء احتفظ بطبيعته الفردية أو الجماعية، أو بهما معاً، لفظاً لا يتوقف أمامه المؤرخون، أو يتردَّدُون بشأنه في الوصول إلى رأي صريح حازم قاطع.
وظَنِّي الراسخ، أن هذا الرأي القاطع لن يخرج عن الإيمان بثلاثة أمور أساسية، الأول هو أن الحضارات الإنسانية لا تفنى كلية، ولا تنتهي أبداً إلى العدم، بل هي تندمج، أو ما تبقى منها، في الحضارة التي تليها. والثاني هو أن أي حضارة، مهما علا شأنها، مصيرها التراجع، لتفسح الطريق أمام غيرها ليتقدم، وهذه سُنَّة حياتية لا فِكاك منها، مهما طال الزمن بتَسيُّد حضارة ما. أما الثالث فهو أنه لا يوجد ما يمنع منعاً حتمياً أن تعود حضارة أَفُلَ نجمها إلى سابق توَهُّجِها وعطائها.
لا غنى عن الحوار
وتلك الآراء الثلاثة تفرض أن يظل الحوار مفتوحاً بين الحضارات، أياً كان وضعها، ومهما كان حجم عطائها، فلا أحد يمتلك كل شيء وكل معنى أو الحقيقة الكاملة أو المطلقة، ولا أحد محروماً من أي شيء وأي معنى، ومن هنا فإن الجميع يحتاج بعضهم إلى بعض، وبالقراءة الاقتصادية فإن كل طرف حضاري لديه ميزة نسبية في أمور معينة، ومن ثَمَّ يصبح من الرشد أن يتبادل الناس المزايا، وكل ما يفيد البشرية في بحثها الدائب والدائم عن التَّرَقي في المعيشة، وتحسين شروط الحياة وفرصها.
وهذا الفهم، الذي يجب أن يشتَدَّ ساعده ويترَسَّخ، لا يصح أن يُترك فقط للمؤسسات الرسمية، سياسية، دينية أم ثقافية، لكن من الضروري أن يمتد إلى الأفراد العاديين المتحضرين، في مختلف أرجاء المعمورة، ممن يؤمنون بأن الحوار هو الطريق الأمثل للتعامل بين البشر، وبالتالي السبيل الأفضل لإقامة علاقات إيجابية بين الوحدات التي ينتظم فيها الناس أكانت مؤسسات، دُوَلاً أم حضارات جامعة.
إنَّ ثورة الاتصالات الرهيبة، التي حوَّلَت العالم بأسره إلى قرية صغيرة، تُقدِّم آلية قوية لقيام تحاور بين المتحضرين، بعيداً من المسارب الرسمية، التي تُسَيِّس الحوار وترهَنُه بالمصالح الدولية والتصورات الاستراتيجية لكل دولة، أو تكتل إقليمي ما، والحوار بين المتحضرين يجب أن يشمل الأفراد والتجمعات الشعبية على حد سواء، فمؤسسات المجتمع المدني التي يشتد ساعدها ويترسخ وجودها في مختلف التفاعلات والعلاقات الحياتية وتتعزز روابطها على المستوى العالمي، عليها دور كبير في إطلاق حوار المتحضرين، جنباً إلى جنب مع الجهود الفردية، التي يبذلها أُناس ضمائرهم يقظة، قلوبهم موجوعة ونفوسهم قلِقَة، مع حالة التوحش التي يعيشها العالم.