النّحو حينما يٌدَرّس كغاية في ذاته، يصبح تعلّمه أمرا صعباً. يصبح مضمونهُ جافّاً. لكن حينما يُتعلّم النحوُ ضمن بناءٍ متكامل ومنسجم، فإنّ استيعابَه يكون ممكناً ومقدوراً عليه. فعمليّة التجسيد هذه هيّ ما يدفع المتعلّمَ أو طالب المعرفة إلى تجسيمِ القواعدِ اللغوية، أي تمثّلها ضمنَ تركيبةٍ نصّيّة -إبداعيّة-متكاملة.
من هذا المنطلق، تبرزُ فائدة مفهوم الاستبصار الذي اشتُهرت به(مدرسة الجشطالت) والتي يراها كثيرون نظريّة تعلّم بسيطة فحسب . والحقيقة أنّ هذه المدرسة “الفكرية “، اهتماماتها أوسع وأعمق، حيث أنها تركزّ على علم النّفس الاجتماعيّ بما يضمّه من تعقيدات.
الاستبصارُ يُمَكّن المتعلّمَ من تحليل عناصر المُكوّن المعرفيّ وبناء علائقَ بينها؛ بعبارة أوضح فإنّه يصبح قادراً على النظر، مثلا، إلى قاعدةٍ لغويّة كجزءٍ ضمن بنيةٍ. ومن هنا، يمكن للمتعلّم أن يدركَ انّ القاعدة اللغوية ليست شكلاً منفردا، بلْ عنصرا فعّالا، لا تبرزُ وظيفتهُ الأساس سوى إذا
أُدمجَ في ” الشكل الكلّيّ” الذي يُخلقُ بمعيّة عناصر أخرى ك” المعجم المناسب” و ” الموضوع الملائم و ” الأبعاد الدلالية ” للشكلَ ( النّص) الذي يستوعبه المتعلمُ نسبيّاً.
هذا البناء ،إنّما هو القراءة التي يجبُ أنْ تُؤطّر؛ فليست كلّ الأوراق الموضوعة بين دفّتي كتاب صالحة لتعليم اللغة وصقل الأسلوب وشحذ مَدَارك المتعلّم. لذلك، لا بدّ، بادئ ذي بدءٍ، انْ نوجّهُ الناشئةَ نحو القراءة توجيها سليما وأنْ تُقترحَ عليهم عناوينُ قصصٍ أو رِوايات لكُتّابٍ مشهود لهم باللغة السليمة التي لا تكلّف فيها ولا مغالاة ، كما يجب أنْ يكونوا بمنأى عن الكُتب التي لا تقيم للغةِ وزناً. فكم من متعلّم اقتِيدَ لقراءة كتبٍ كثيرة لم تُعلّمه سوى سفاسف الأمور وتوَافهِها ورسّخت في بنيته الذهنية لغةً حُبلى بالأخطاء الفظيعة.
كما قد يكون المتعلّم مثلاً متمكنّاً من ركائز النحو وأسُسه، لكنّه لا يقدر على الكتابة، لأنّهم علّموه انّ تعلّم النحو غاية في ذاته، والأمر نقيض ذلك تماما، أو لأنّهم علّموه أن النّحو معدوم الفائدة، وهذا أمر جَلَل . ونحن لا نريدُ أنْ نكون كالغنم العائِرة بين الغنمين نميل إلى هذا القولِ مرّة وإلى ذاك مرّة.
لا ريب أنّ النحو هو المُوجهُ ، وبدِرعِهِ، نحمي أنفسنا واللغةَ من مهاوي الإسفاف والانحطاط؛ فهوّ ساريّة اللغة، واللغة وعاءٌ للفكرِ. وهنا علاقة جدليّةٌ لها أهميّتها وخطورتها . لذلك يجب أنْ يُدرّس النّحو وفق مقاربةٍ إدماجيّةٍ، وهي نفسها التي حاولنا قليلا توضيح أبعادها أعلاه…