س – أنتم كاتب و قاص و خبير تنمية ذاتية و أستاذ باحث في حقل الاعلام و التواصل و اشتغلتم بالتعليم العالي في فرنسا و المغرب منذ مستهل عام 2010. على مدار هذه السنوات الطويلة من الخبرة و العطاء الاكاديمي الغزير درستم على غرار الملايين من زملائكم الأساتذة في العالم بشكل حضوري، لكن منذ مارس 2020 انتقلت المنظومة التعليمية في جل دول العالم تقريبا الى التعليم عن بعد لأجل الحفاظ على السيرورة البيداغوجية، لننتقل في ما بعد طلابا و أساتذة الى التعليم الهجين – المزاوج بين النمطين الحضوري و الالكتروني – و ذلك حسب تطورات و طفرات الكورونا. دكتور مهدي عامري، هل تسمحون بالحديث عن تجربتكم مع التعليم عن بعد في عالم الوباء العابر للقارات و للأزمنة و الأمكنة ؟
ج – شكرا لك محمد أبو موسى على التفكير في إدارة هذا الحوار حول موضوع آفاق و تحديات التعليم عن بعد في عالم وبائي متغير.
ان التعليم عن بعد تجربة معرفية و ثقافية و تقنية أسالت مِداد الكثير من الأكاديميين والصحفيين والممارسين للعملية التعليمية / التعلمية ، هي تجربةٌ استثنائية و حمالة لدلالات قوية و تستفيد منها الإنسانية المعاصرة عددا هائلا من الدروس و العبر.
في واقع الأمر، كانت استفادتي الشخصية من التعليم عن بعد عظيمة للغاية نظرا لأن التعليم عن بعد يتسم بمجموعة من الميزات ونقاط القوة العديدة بالنسبة للأستاذ أو الطالب أو كل شخص يريد أن يستخدمه كأداة لارسال او استقبال المتون المعرفية.
التعليم عن بعد يمثل بالنسبة لي اختصارا و ربحا حقيقيا لزمن التعلم، باعتبار أنه في السنوات الماضية عندما كنت أعكف على تحضير الدروس، سواء كانت على شكل أنشطة تطبيقية أو محاضرات، كان يستغرق مني الأمر خاصة في السنوات الأولى للتدريس أي قبل 12 عاماً، مجهودا ضخما و هائلا ، لكن بفضل تجربة التعليم عن بعد، وبفضل التكنولوجيا المتاحة، خاصة تقنية التخاطب بالصوت والصورة، يتم اختصار زمن التعلم، و الانتقال فورا الى ما يعرف بالتعلم السريع.
يسمح التعليم عن بعد بالتخلص، الى حد كبير، من قيود الزمان والمكان. لقد كان الأستاذ في الماضي القريب – قبل تفشي وباء كورونا في العالم – يتكبد عناء التنقل من البيت إلى مكان العمل، فهناك من الأساتذة من يبعد مكان سكنه عن الجامعة 50 دقيقة في السيارة أو ساعة كاملة، وهناك منهم من يسكن في مدينة ويُدرّس في مدينة أخرى، و عندما تدرس عن بعد فإنك لا تخضع لاكراهات التنقل و السفر من مكان الى آخر و أحيانا من مدينة لأخرى، انك تقلب أسس المعادلة و تجعل انجاز عملك أسهل و امتع.
ان الطلبة أنفسهم المستفيدون الاوائل من التعليم عن بعد لأن هذا الأسلوب في التدريس يمكنهم من العودة إلى الدروس المسجلة بالصوت و الصورة متى رغبوا في ذلك.
ان الطلاب الخجولين من الجماهير التي تدفعها تكنولوجيات التدريس الالكتروني الى تخطي حاجز الخجل و المشاركة الزائدة و التحاور مع الأستاذ و انجاز التمارين و المشاريع بشكل فردي أو في مجموعات عمل، و هذا ليس كلاما مبالغا فيه، و لكن الكثير من الدراسات العلمية البيداغوجية الراهنة تدعمه و تعززه.
ان التعليم عن بعد ليس بتاتا ترفا فكريا، وإنما هو ضرورة فكرية مستعجلة و من الحلول السهلة المواكبة بقوة لزمن اللايقين و عوالم الوباء و تحوراته اللامنتهية.
و لعل الأساتذة الذين امتنعوا ابان بداية تفشي الكورونا عن اعتماد التعليم عن بعد كوسيلة للتواصل مع الطلبة و التلاميذ، تخلوا بعد وقت قليل عن قرارهم الرافض، و وجدوا أنفسهم يركبون رغما عنهم موجة الديجتال، و ينخرطون قلبا و قالبا في مغامرة التعليم عن بعد.
س – أستاذ مهدي عامري، في ظل جائحة كورونا، كيف عقد التعليم عن بعد العملية التواصلية ؟ بمعنى آخر، انطلاقا من تجربتكم الشخصية ما هي الصعوبات التي اعترضتكم مع الطلبة في ظل تدريسكم لهم عن بعد؟
س – يجب أن اعترف لك، عزيزي محمد، أن أغلب الطلبة حققوا ذواتهم عن طريق التعليم عن بعد، و تخلصوا الى حد كبير من قيود الزمان و المكان التي كان و لا زال يفرضها التعليم الحضوري. لقد كان الطلاب يقضون وقتا أطول مع العائلة وينعمون بأقساط وافرة من الراحة في عز الأزمة الصحية العالمية – بكل بساطة لأنهم كانوا يدرسون عن بعد. في عز هذه الأزمة أصبح المنزل فضاءً للتعلم و النمو و الاستقرار و العيش.
كلنا جربنا ذلك، طلابا و أساتذة، دون استثناء.
يجب أن لا نحلق في سماء الأحلام، و نتحلى بالتوازن و الاعتدال الفكري و الايديولوجي أثناء الحديث عن التعليم عن بعد.
إن التعليم عن بعد خلق في المغرب في الأعوام الثلاثة الأخيرة فجوة معرفية و رقمية خطيرة بين من يلج و بين من لا يلج الى الأنترنيت.
و من سلبيات التعليم عن بعد يمكن الاشارة الى غياب التواصل الوجاهي، فخلال العملية التعليمية الكلاسيكية يكون الأستاذ حاضرا إلى جانب طلابه ببدنه و عقله و روحه، بما يشحن حصص الدرس بالعواطف و المشاعر و القصص و التجارب الإنسانية.
ان غياب لغة الجسد و تعبيراته البليغة و القوية مشكل ينضاف الى مشاكل و سلبيات التعليم عن بعد.
ان الطلاب اليافعين – على وجه الخصوص- يحتاجون إلى جرعات زائدة و معززة من التواصل و ذلك طبعا أكثر من الأشخاص المتقدمين في السن.
س – تحدثنا عن الطرف الأول (المرسل) و الطرف الثاني (المرسل إليه)، الآن ننتقل بالحديث الى الطرف الثالث ألا و هو (الوسيط أو الوسيلة) أي التكنولوجيات الحديثة. في رأيكم أستاذ مهدي عامري، الى أي حد تسهم التكنولوجيات الرقمية في تجويد و تحسين عمليتي التعليم و التعلم ؟
ج – لا يمكن أن نكون ظلاميين و ننضم إلى جيش الأشخاص الذين يؤمنون بنظرية المؤامرة والذين يقولون أن التكنولوجيا شر مستطير، وأن كوفيد 19 ما هو الا وباء شيطاني ونقمة الهية لا تحمل في طياتها سوى الدمار و الشر. إن التكنولوجيا الرقمية من معجزات و نبوءات العصر الراهن ، إنها هنا، بين أيادينا، لمساعدة الإنسان و تبسيط الحياة و تحقيق الرفاهية لبني البشر ، فالإشكالية الحقيقية هنا ليست هي التكنولوجيا و اضرارها المحتملة – الاستلاب، الإدمان… – ان التحدي الكبير هو الاستخدام الفعال و المفيد و الذكي للتكنولوجيا.
س – في السياق نفسه ، كيف كان تعاملكم، د. مهدي عامري، مع التكنولوجيات الرقمية من خلال تجربة التعليم عن بعد ؟
ج – اسمعني جيدا.. ان جميع الأشخاص الذين يزعمون أن التكنولوجيات الرقمية صعبة و معقدة الاستخدام يضعون أمامهم عراقيل ذهنية بحتة. ان الديجتال قائم على فلسفة سهولة الاستخدام، فجميع تطبيقات التواصل بالصوت والصورة عبر الانترنيت – أو اغلبها – مجانية و مغروسة في بيئة تقنية تغلب عليها البهجة و المرح، ناهيك عن ان معظم هذه التطبيقات لا تحتاج قراءة كاملة و مفصلة لدليل التشغيل بهدف الشروع الفعلي في استخدامها.
س – الحديث معكم جميل و شيق استاذي الكريم و لا تنقضي فوائده… د. مهدي عامري، في ختام حوارنا، كيف تنظرون الى مستقبل التعليم عن بعد والتدريس الرقمي بعد نهاية جائحة كورونا ؟
س – ما أراهن عليه و أتنبأ به كخبير في الاعلام و التواصل الرقمي هو أن مستقبل التعليم – شئنا أو ابينا – سيكون هجينا، أي أنه نمط من التعليم يزاوج بين الحضوري و الالكتروني حسب الظرفية الصحية الوبائية. من العبث و غير المعقول أن نضع القطيعة الكاملة مع التعليم عن بعد ونقول أنه ينتمي إلى زمن جائحة كورونا، ولن يكون في مصلحة البشرية أن تهجر التعليم عن بعد لأنه أثبت لنا جميعا ، في السراء و الضراء، أن له ميزات هائلة و عظيمة، لم يكن يحلم بها يوما ما بنو البشر.