الِاحتِجاجاتُ لَيسَتْ وَلِيدَةَ اللَّحظَةِ، بَلْ هِيَ تَعبِيرٌ عَن مَخَاضٍ عَسِيرٍ وَعُسرِ هَضْمٍ اِجتِمَاعِيٍّ، حَيثُ يَجِدُ الإِنسَانُ نَفسَهُ رَافِضًا لِوَاقِعِهِ المَعِيشِيِّ.
هناك رابطة خفية بين التفاهة والممارسة السياسية. فعندما يُعيَّن وزير لا يمت بصلة إلى الحقل المعرفي الذي يُفترض أن يشرف عليه، يتجلى السؤال حول صعود التفاهة إلى مواقع القرار.
والعامة، لعدم إدراكها لوجهة السياسة الحقيقية، تقبل بقرارات تُبنى في الغالب على منطق الجهل.
لقد أصبحت الصورة بديلاً عن الواقع، ومن يمتلك قوام الصورة يتسيد الواقع.
غير أن المشهد لا ينتهي عند هذا الحد، إذ هناك من يتحكم في الكواليس ويقرر، وفق هذا المنطق، أن يجعل وزيرًا ينشغل بما يتزين به النساء مسؤولًا عن أكثر القطاعات حساسية.
وهكذا تُدار السياسة بمنطق السوق والقرابة والقبلية، لا بمنطق الوطن. ويتسابقون على افتراس ما يمكن افتراسه، و يتغولون حتى على حساب موت نساء في مستشفيات تحولت بدورها إلى محلات تجارية يُباع فيها المواطن ويُشترى.
إن أكثر البلدان ليبرالية في التاريخ تؤمن بأن الفقر والمرض من أشد الكوارث التي يجب تجنبها.
فكيف يُترك المنطق الشعبوي يتحكم بالعقل الإنساني ويعطله؟ إنهم يقتلون الفكر و يقمعون العقل.
وأنا أدوّن بمنطق فيه صراع داخلي، غير أنني أحترق على هذا الوطن.
فنحن بالضرورة مغاربة، وإذا تخلينا عن جغرافيته وتاريخه، فمن سيمسك بزمام الأمر ويصير علة القوم؟
. الإنسان الرافض لمعيشه يجد نفسه أمام مدن عصرية ومعمار حديث، ويقارنها ببداوته، فينتفض وسط الحشود.
السلطة، سمحت بمساحة ضيقة للتعبير عن السخط، وهو ما يعكس تحوّلًا في منطق اشتغالها.
ومع ذلك، يبقى الأمر تعبيرًا عن غضبها من الحكومة أكثر من كونه انتصارًا لحرية المواطن.
السؤال المطروح اليوم لا يقتصر على رفض خاص أو احتجاج فردي، بل يتجسد في مطلب جماعي للحد من الاستغلال البشع الذي يمارسه كبار ملاك الشركات الخاصة.
إن تهميش العام، وإقصاء صوت الفقير، واستحضار مقولة الغني باعتبارها المرجع الوحيد، كلها مظاهر تؤسس لهدم البنى الاجتماعية المهمشة، وترسم لوحة المستبعدين أمام السلطة.
فإذا كانت السلطة قوة القانون، فإن الهوامش بدورها تنتج أشكالًا للمقاومة، وتحوّل المؤسسة إلى أداة من أدوات العقاب.
لقد تخلّى الفلاحون عن أراضيهم الزراعية وباعوها للمستثمرين الخواص، فتحولوا إلى سكان هوامش المدن.
وهنا نواجه ظاهرة جديدة: أناس بلا مأوى، بلا أرض، يخلقون فضاءً متوترًا يتجسد في صراع فيزيائي يومي، ينتج بالضرورة انحرافات وجرائم فوضوية، لأن العلاقات الاجتماعية فقدت معناها. الفارق الطبقي صار بيّنًا للعيان، فنجد أنفسنا أمام صورتين لمجتمع واحد: صورة الوحدات الإنتاجية التي تعيد إنتاج قوة العمل وتزداد غنى، وصورة الهوامش التي تتلاقى لتصنع مجتمعًا خرافيًا يقدس الجهل أكثر مما يسعى إلى الوعي.
يبقى السؤال المحوري: هل ستعيد السلطة صياغة خطاب أيديولوجي يتغلغل في ضمير الناس يجعلهم يقبلون أوضاعهم، أم ستكتفي بسياسة الضبط والمراقبة؟
إن الديمقراطية الحقيقية هي التي تُنصّب العقل بديلًا للتمثلات، و تؤمن بالحريات الفردية، وتنصف المرأة، وتضع صحة المواطن وتعليمه في المقدمة، لا أن تقتل الطفل قبل أن يكبر. لقد صار منطق الهجرة واضحًا للعيان، لكنه ليس هجرة جسدية فقط، بل هجرة نحو الانحراف وفقدان القيم، وهروب من واقع تُمارَس فيه السياسة بسطحية مفرطة.
وبين التفاهة والاحتجاج، يبقى الوطن في حاجة إلى عقلٍ جمعيٍّ يؤسس لمعنى جديد للسياسة، معنى لا يقتل الفكر، بل يُحيي الإنسان















