د. امحمد جبرون
في مقابلة مع صحيفة EL PAÍS إل باييس الإسبانية، أجراها الصحفي سرجيو فانخول، تحدث الفيلسوف السويسري – الألماني المولود في كوريا الجنوبية بيونغ تشول هان عن القهر الرقمي واختفاء الطقوس وعما يكشفه مسلسل “”Squid Game (لعبة الحبار) عن المجتمع.
وفقًا للفيلسوف السويسري الألماني المولود في كوريا الجنوبية بيونغ تشول هان فإن العالم المادي للذرات والجزيئات، والأشياء التي يمكن لمسها وشمها، يتحلل بشكل كبير في عالم من اللا-أشياء، حيث مازلنا نرغب في تلك الأشياء غير الموجودة، بل ونشتريها ونبيعها، على حد قول هان، كما أنها تؤثر علينا باستمرار، في الوقت الذي ازداد فيه العالم الرقمي ضبابية مقارنة بما لا نزال نعتبره العالم “الحقيقي”، كما أصبح وجودنا غير ملموس ولحظي بشكل متنام كما يعتقد هان. لا يزال المفكر الأكثر مبيعًا، والذي يُشار إليه أحيانًا على أنه فيلسوف نجوم الروك، يشرح بدقة المخاوف التي تنتجها الرأسمالية النيوليبرالية.
من خلال الجمع بين اقتباسات الفلاسفة الكبار وعناصر الثقافة الشعبية، يحلل كتاب هان الأخير «Nonobjects» (اللا-أشياء)، “”Undinge بالألمانية، الذي لم يُنشر بعد باللغة الإنجليزية، “مجتمعنا المنهك”، الذي نعيش فيه منهكين ومكتئبين بسبب متطلبات الحياة التي لا مفر منها. كما نَظر في الأشكال الجديدة من الترفيه و”السياسة النفسية”، حيث يستسلم المواطنون خانعين إلى غواية النظام، جنبًا إلى جانب اختفاء الإيروتيكية، التي يلقي هان اللّوم عليها بخصوص الاتجاهات النرجسية والاستعراضية السائدة حاليا.
يعتقد هان أن هذه النرجسية تثير الشغب في وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يتسبب الهوس بالنفس في اختفاء الآخرين ويصبح العالم انعكاسًا بسيطًا لنا كأفراد. يسعى هذا الفيلسوف لاستعادة الحميمية في الحياة اليومية – فهو معروف باهتمامه بالبستنة، وصناعة الأشياء اليدوية، والجلوس في صمت. لقد يئس من “اختفاء الطقوس”، التي تؤدي إلى اختفاء مجتمعات بأكملها، ونصبح أفرادا ضائعين، في مجتمعات مريضة وقاسية…
نمط الحياة الامتلاكي ونمط الحياة الوجودي
سؤال النهضة: نسيان، نكسة أم نكوص؟
س: كيف يعقل في عالم مهووس بالإنتاج المفرط والاستهلاك المفرط، أن تختفي في الوقت نفسه الأشياء ونتجه نحو عالم من دون أشياء؟
ج: هناك بلا شك تضخم مفرط للأشياء، مما يعني أنها موجودة في كل مكان. ومع ذلك، فهذه الأشياء يمكن التخلص منها ولا يمكننا حقًا الارتباط بها. نحن اليوم مهووسون ليس بالأشياء، ولكن بالمعلومات والبيانات، أي بغير الأشياء. اليوم نحن جميعاً مصابون بجنون المعلومة، لدينا حتى مفهوم “البيانات الجنسية” (Datasexuals) [الأشخاص المهووسون بجمع وتبادل المعلومات حول حياتهم الشخصية].
س: في هذا العالم الذي تصفه، حيث الاستهلاك المفرط وتفكك العلاقات، لماذا من المهم أن تكون لدينا أشياء نحبها، وبناء طقوس؟
ج: إن هذه الأشياء هي بنية داعمة توفر راحة البال في الحياة. لكن في الوقت الحاضر المعلومات في الغالب تحجب ذلك، فالهاتف الذكي ليس شيئًا، إنه منتج للمعلومات ومعالج لها، هاته المعلومات التي تسلبنا راحة البال، يعيش على وقع المفاجأة، ويغمرنا في زوبعة من الأخبار، بينما الطقوس تمنح الحياة بعض الاستقرار. لقد دمر الوباء تلك الهياكل الزمنية. فَكِّر في “العمل عن بعد”، عندما يفقد الوقت هيكله، يبدأ الاكتئاب.
س: ينص كتابك على أننا في العالم الرقمي سنصبح “homo ludens“[[1]] ، نركز على اللعب بدلاً من العمل. ولكن بالنظر إلى هشاشة سوق العمل، هل سنتمكن جميعًا من الوصول إلى نمط الحياة هذا؟
ج: لقد تحدثت عن البطالة الرقمية، فالرقمنة ستؤدي إلى بطالة جماعية، الشيء الذي سيطرح مشكلا خطيرا في المستقبل، فهل سيتكون مستقبل الإنسان من الدخل الأساسي وألعاب الكمبيوتر؟ وهذا أفق محبط. في (الخبز والسيرك) [[2]]، يشير الشاعر الروماني جوفينال إلى أن المجتمع الروماني حيث إمكانية العمل السياسي معدومة، يَسعد الناس فيه بالطعام المجاني والترفيه. وتتحقق الهيمنة الكاملة على المجتمع فقط عندما ينخرط في اللعب. وقد عرض المسلسل الكوري الأخير ” لعبة الحبار” (Squid Game) على منصة Netflix نقاطا في هذا الاتجاه.
س: بأي طريقة؟
ج. في هذا المسلسل الشخصيات تعاني من ديون ثقيلة، ولذلك تُوَافِقُ ُعلى لعب هذه اللعبة القاتلة التي تَعِدُهم بمكاسب ضخمة. وتقدم لعبة الحبار (The Squid Game) أحد المظاهر الأساسية للرأسمالية بشكل متطرف. بحسب الفيلسوف الألماني والتر بنيامين تمثل الرأسمالية الحالة الأولية لطائفة دينية لا تقوم على التضحية ولكنها تورطنا في الديون. ففي الأيام الأولى للرقمنة، كان الناس يحلمون باستبدال العمل باللعب. وفي الواقع، تستغل الرأسمالية الرقمية بلا رحمة الدافع البشري للعب. وبفضل وسائل التواصل الاجتماعي، التي تدمج بشكل مقصود مواد اللعب لكي تسبب الإدمان للمستخدمين.
س: بالفعل، لقد وعدتنا الهواتف الذكية ببعض الحرية.. لكن في الحقيقة ألسنا في سجن بسببها؟
ج: إن الهاتف الذكي اليوم إما مكان عمل رقمي أو مجال لتحقيق “الاعتراف الرقمي”، وكل جهاز وكل تقنية للتحكم تولد أوثانا، تستخدم لإخضاع الناس أو تحقيق العبودية، وبهذه الطريقة يتم تعزيز الهيمنة. ومن ثمّ، فالهاتف الذكي هو أداة عبادة الهيمنة الرقمية، وكبرامج لتحقيق الخضوع والقهر هو بمثابة السُّبحة وحباتها، ولهذا نحتفظ به في أيدينا باستمرار. فـ”الإعجاب” هو بمثابة “آمين” رقمية، حيث نتجه نحو كسب الاعتراف، ونخلع ملابسنا اختيارا، لكننا لا نطلب المغفرة، بل نطلب بدلاً من ذلك الاهتمام.
س: من المخاوف في هذا المجال أن تحويل الأشياء إلى مواد “أنترنيتية” قد يعني -في يوم ما- أن هذه الأشياء قد تتمرد على الإنسان.؟
ج: ليس هذا بالضبط، فالمنزل الذكي الذي ترتبط فيه الأشياء بعضها ببعض يمثل سجنًا رقميًا، فالسرير الذكي المزود بأجهزة استشعار يوسع مجال الرقابة علينا حتى أثناء النوم، ومن ثمّ، تفرض الرقابة نفسها بشكل متزايد وخفي على الحياة اليومية، كما لو أن القيام بها أو الخضوع لها شيئا مناسبا، وبالتالي، فالأشياء الرقمية تؤكد أنها بمثابة مخبرين أكفاء يراقبوننا ويتحكمون فينا باستمرار.
س: لقد وصفت كيف أصبح العمل أشبه بلعبة، ووسائل التواصل الاجتماعي وبشكل متناقض تجعلنا نشعر بحرية أكبر، كما أن الرأسمالية تغرينا، فهل تمكن النظام من السيطرة علينا بطريقة ترضينا فعلا؟
ج: إن النظام القمعي فقط هو الذي يثير المقاومة، وعلى العكس من ذلك، فإن النظام النيوليبرالي، الذي لا يضطهد الحرية، بل يستغلها، لا يواجه أي مقاومة، إنه ليس قمعيًا، لكنه مُغر، فالهيمنة تصبح شاملة في اللحظة التي تُقدم فيها نفسها على أنها حرية.
س: لماذا يبدو العالم اليومي في الدول الغربية جميلا جدا ومصمما بشكل جيد، ويبعث على التفاؤل، بالرغم من حالة عدم الاستقرار (precarity) واللامساواة؟ لماذا لا يبدو كفيلم بائس أو نوع من أفلام الخيال العلمي “سايبربانك” (cyberpunk)؟
ج: لقد أصبحت رواية 1984 لجورج أورويل مؤخرًا من أكثر الكتب مبيعًا في جميع أنحاء العالم، حيث يشعر الناس بوجود خطأ ما في منطقة الراحة الرقمية الخاصة بنا. لكن مجتمعنا يشبه إلى حد بعيد “عالم جديد شجاع” لألدوس هكسلي، فالناس في عام 1984، كان يُتحكم فيهم بواسطة الخطر المهدد، لكن في رواية “عالم شجاع جديد” (Brave New World) يتم التحكم فيهم عن طريق إدارة المتعة، حيث الدولة توزع مخدرا يسمى “سوما” يجعل الناس سعداء، هذا هو مستقبلنا.
س: أنت تشير إلى أن الذكاء الاصطناعي أو البيانات الضخمة ليست الشكل المذهل للمعرفة كما يتم الترويج لذلك، ولكنه بالأحرى معرفة “أولية”. لماذا في نظركم؟
ج: البيانات الضخمة هي مجرد شكل أولي بسيط للمعرفة، وهي أساسا الارتباط، فإذا حدث A، فإن B سيحدث، لا يوجد فهم، فالذكاء الاصطناعي لا يفكر، الذكاء الاصطناعي لا تصيبه القشعريرة.
س: قال الكاتب وعالم الرياضيات الفرنسي بليز باسكال: “تنبع كل مشاكل البشرية من عدم قدرة الإنسان على الجلوس في غرفة بمفرده وبهدوء”. نحن نعيش في عبادة الإنتاجية، حتى خلال ما نسميه الوقت “الحر”، والذي كنت موفقا في تسميته بـ”المجتمع المنهك”، فهل ينبغي أن نجعل من استعادة وقتنا هدفا سياسيا؟
ج: إن الوجود البشري اليوم يستغرقه النشاط بالكامل، الشيء الذي يجعله قابلا تمامًا للاستغلال. ويظهر عدم النشاط في نظام الهيمنة الرأسمالي كشيء وافد من الخارج، يطلق عليه وقت الفراغ، ولأنه يفيد في التعافي من العمل، فإنه يظل مرتبطًا به. ومن ثمّ، فنحن بحاجة إلى سياسة اللانشاط بإمكانها تحرير الوقت من إجبارية الإنتاج، وجعل وقت الفراغ الحقيقي ممكنًا.
س: كيف يمكنك التوفيق بين مجتمع يحاول جعلنا متجانسين، وبين رغبة الناس المتزايدة في أن يكونوا مختلفين عن الآخرين، ولهم طريقتهم الخاصة والفريدة في العيش؟
ج: الجميع اليوم يريد أن يكون أصيلًا، أي مختلفًا عن الآخرين، فنحن نقارن أنفسنا مع الآخرين باستمرار. وهذه المقارنة بالضبط هي التي تجعلنا جميعًا متشابهين. وبعبارة أخرى، الحرص على أن نكون متميزين وأصلاء يقودنا إلى جحيم التماثل.
س: هل نحتاج إلى مزيد من الصمت، وإلى استعداد كبير للاستماع إلى الآخرين؟
ج: نحن بحاجة إلى معلومات حتى يتم إسكاتها (أي المعلومات)، وبطريقة أخرى، إن أدمغتنا ستنفجر، فنحن ندرك العالم اليوم من خلال المعلومات، ومن ثمّ، نفقد تجربة الحضور. فنحن نفقد الصلة بالعالم بشكل متزايد، نحن نخسر العالم. فالعالم أكثر من مجرد معلومات، والشاشة تعبير فقير عن العالم، فنحن ندور حول أنفسنا. ويساهم الهاتف الذكي بشكل حاسم في هذا الإدراك السيئ للعالم. ومن الأعراض الأساسية للاكتئاب “غياب العالم”.
س: يعتبر الاكتئاب إحدى أكثر المشاكل الصحية المزعجة التي نواجهها اليوم. كيف يؤدي “غياب العالم” إلى ذلك؟
ج: عندما نكون مكتئبين نفقد علاقتنا بالعالم، ومع الآخر، نغرق في الأنا المبعثرة. وأعتقد أن الرقمنة، والهاتف الذكي، يجعلنا مكتئبين. وهناك قصص لأطباء أسنان يقولون إن مرضاهم يعتصمون بهواتفهم عندما يكون العلاج مُؤلمًا. لماذا يفعلون ذلك؟ فبفضل الهاتف الذكي، أدرك ذاتي. يُساعدني على التيقن أنني حيٌّ، وأنني موجود. ولهذا السبب نتمسك بهواتفنا المحمولة في مواقف مثل علاج الأسنان. فعندما كنت طفلاً، أتذكر أنني كنت أمسك بيد أمي في عيادة طبيب الأسنان، واليوم لا تقدم الأم يدها للطفل، بل تقدم له الهاتف المحمول. ومن ثمّ، فالدعم لا يأتي من الآخرين، بل ينبع من الذات، وهذا يجعلنا مرضى. فعلينا استعادة الشخص الآخر.
س: وفقًا للفيلسوف فريدريك جيمسون، من السهل تخيل نهاية العالم بدل تخيل نهاية الرأسمالية، هل يمكنك أن ترسم لنا شكلًا من أشكال ما بعد الرأسمالية، حيث تبدو حاليا في تدهور؟
ج: إن الرأسمالية تستجيب حقًا للبنى الغريزية للإنسان، لكن الإنسان ليس فقط كائنا غريزيا. وعلينا ترويض الرأسمالية وإضفاء الطابعين الحضاري والإنساني عليها، وهذا ممكن أيضًا. واقتصاد السوق الاجتماعي هو دليل على ذلك. لكن اقتصادنا يدخل حقبة جديدة، وهي حقبة الاستدامة.
س: لقد أحرزت الدكتوراه بتقديم أطروحة عن الفيلسوف الألماني مارتن هايدجر، الذي اكتشف أكثر أشكال الفكر تجريدًا، والذي تعد نصوصه غامضة جدًا بالنسبة للناس العاديين. ومع ذلك، تسعى لتطبيق هذا التفكير المجرد على القضايا التي يمكن لأي شخص أن يعيشها، فهل يجب على الفلسفة أن تهتم أكثر بالعالم الذي يعيش فيه غالبية الناس؟
ج: لقد عرف الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو الفلسفة على أنها نوع من الصحافة الراديكالية، واعتبر نفسه صحفيًا. يجب أن يهتم الفلاسفة باليومي، وبالأحداث الجارية. وفي هذا، أنا أتبع خطى فوكو، أحاول تفسير اليومي في فكري، وذلك الفكر هو بالضبط ما يحررنا.
[[1]]Homo Ludens هو كتاب نُشر في الأصل باللغة الهولندية عام 1938 من تأليف المؤرخ والمفكر الهولندي يوهان هويزينجا يناقش أهمية عنصر اللعب في الثقافة والمجتمع. [[2]] الخبز والسيرك: مُصطلح ورد في قصيدة للشاعر الهزلي الروماني جوفينال، ويُستخدم عادة لنقد سياسة الإلهاء المُنظّم التي تقوم بها الحكومات من خلال توفير الطعام والترفيه لعامة الشعب لكي