من لا يعرف المخزن : أعرافه و مرجعياته الثقافية الموغلة في العراقة، لن يدرك طبيعة الصراع السياسي و الثقافي و الفكري في منطقة شمال غرب إفريقيا.
واهم من يعتقد أن الصراع هو مع البوليساريو ؛ لأن المخزن ينظر لهذه الجماعة كظاهرة محصورة زمانيا و آيلة الى زوال، بزوال مسببات وجودها ( صراع الإيديولوجيات الذي دشنته الحرب الباردة بين طرفي الثنائية القطبية آنذاك : أمريكا و الاتحاد السوفيتي).
و مخطئ مز يصدق أن الصراع هو مع الجزائر، لان المخزن في العمق ينظر إلى هذا الكيان السياسي على اساس انه وليد غير شرعي لزواج بين الدولة العميقة في فرنسا و بعض ضباط الجيش، ( أبناء الحركيين ) الذين اجهضوا الثورة الحقيقية المسكوت عنها و الذين تلقوا تكوينا عسكريا اكاديميا في المؤسسات الفرنسية، و النتيجة : حصول هؤلاء الضباط وفق مرسوم 1962, عل مساحة خيالية ضبطت فرنسا حدودها بشكل جد مدروس ( تونس، النيجر، مالي، موريتانيا، المغرب، باستثناء ليبيا التي كانت خاضعة للاستعمار الإيطالي في اطار صفقة مع الفرنسيين، سيأتي الحديث عنها لاحقا).
و اذا عدنا إلى ما قبل الاجتياح الفرنسي لشمال افريقيا، نجد أن هذه الدول المشار إليها اعلاه، كانت كلها و بدون استثناء، تدخل ضمن المجال الافتراضي للمخزن بدليل دعاء خطباء المساجد في هذه الدول لسلاطين مراكش أو فاس.
وللتاريخ، فهذه الدول كانت لها كياناتها السياسية الخاصة دون الحدود الموروثة عن الاستعمار، ولكن حكامها وملوكها كانوا يرتبطون بإمارة المؤمنين بشكل من الأشكال.
فبدخول الاستعمار الفرنسي سنة 1830 إلى منطقة شمال غرب إفريقيا، عمل عل تفكيك هذه الأواصر التي كانت قائمة بين هؤلاء الحكام و الملوك و بين سلطان مراكش.
لقد اعتقدت فرنسا من خلال ثلاث محطات في تاريخها، موقعة إيسلي سنة 1844، عقد الحماية سنة 1912 و إلحاق المغرب بوزارة المستعمرات بدل وزارة الخارجية سنة 1934، أنها تفوقت على المخزن، و لكن الحاضر أثبت أنها تفوقت على الدولة المغربية القائمة أنداك بترسانتها العسكرية فقط.
أما المخزن فهو كيان عرفي من الآداب السلطانية و ما تراكم من أحكام و اجتهادات في ظل إمارة المؤمنين، هو كيان يعيش في كنف الثقافة و الفكر المغربيين.
صحيح أن هذا الكيان قد ينكمش في لحظة معينة و لكنه لا يموت.
المخزن شبيه بعداء المسافات الطويلة ( و لهذا نحن متفوقون في مسافة 1500 و ما فوق ).
إذ يعتبر أن معركة إيسلي لم تضع أوزارها بشكل نهائي، وإنما هناك جولات حاسمة ستكشف عنها الأيام القادمة، لا لسبب، إلا لأن المغاربة على مر العصور لم يستسلموا لغزو أجنبي إلا لاحتواء الوضع والانطلاق من جديد. وهذا ما يفسر خضوع المغرب لأقصر فترة استعمارية خلال العصر الحديث ‘ 1934 / 1956).
نخلص في النهاية الى نتيجة مفادها ان البوليساريو و الجزائر ما هما الا ارنبا سباق للخصم الحقيقي: فرنسا بفكرها و لغتها و هيمنتها الاقتصادية المجحفة.
فعلا، لقد دخلت فرنسا بداية مرحلة الانحسار و عدم القدرة على المواجهة: زحف روسي عسكري على بعض معاقلها التقليدية في المنطقة، زحف مغربي يحمل طابعا اقتصاديا على ما تعتبره مناطق نفوذها، زحف أمريكي جيوسياسي في سباق محموم مع الصين على المنطقة باعتبارها بوابة الشق الغربي للقارة الواعدة.
كل ذلك في مقابل تراجع الدور الاقليمي لقصر المرادية، عصا فرنسا في المنطقة، مما سيرغم هذه الأخيرة آجلا أم عاجلا على الدفع في اتجاه إسقاط النظام العسكري في ” الجزائر ” الذي بات يتجاوز الخطاطة التي رسمت له و التي تبرر شرعية وجوده.
إن المغرب بثقافته المخزنية من جهة و ثقافته الحداثية من جهة ثانية مدعو أكثر من أي وقت مضى إلى لعب دوره الريادي في المنطقة، ، بإحياء نفوذه الديني أولا ( نفخ نفس جديد في أوصال إمارة المؤمنين ) و كذا بدعم و احتضان دوره الاقتصادي المتنامي ثانيا، و هذا ما ننتظره من الحكومة المعينة حديثا و من قانون ماليتها 2022، و من خلال إنجاحها للدورة الرابعة في نونبر المقبل لقمة الاتحاد الأوروبي – إفريقيا للمقاولات ( يوروبيان ، بيزنس سلميت.)