في كتابه صناعة النخبة، يصنف استاذ علم الاجتماع عبد الرحيم العطري المثقفين إلى أنواع أربعة . اسوقها كما ذكرها دون تصرف أو تعليق او مناقشة، إهداء مني إلى كل متتبع للشأن الثقافي والسياسي و من يلازمه سؤال المرحلة التي نعيشها، والسؤال عن المستقبل من أين يبدأ ؟ و كيف تكون صياغته ؟ وما هي عناصر بنائه ؟
سمى الكاتب كل نوع من هؤلاء المثقفين الأربعة كما يلي :
المثقف الملتزم – المثقف الانتهازي – المثقف المستقيل – المثقف المتعالي .
1 – المثقف الملتزم :
ويمكن القول بوثوق عال بأن هؤلاء المثقفين في تناقص مستمر بسبب آليات التهميش والإقصاء والإدماج، التي يتعرضون لها باستمرار. فهم دوما مطلوبون من السلطة ، لأنها ترى فيهم المنافسة الإحتياطية والمحتملة. وعليه فلا بد من التخلص من هاجسهم النقدي لاستثمار منطق العصا والجزرة. فالمثقف الملتزم يظل المطلوب الأول لدى السلطة ولهذا نجدها تبدع في محاولة استمالته وتقريبه منها لأنها تعي جيدا أنه يمتلك راسمالا رمزيا نوعيا يؤهله للعب أدوار طلائعية على درب التغيير والتثوير .
إن المثقف الملتزم يرفض بالمرة أن يغدو رقما في معادلات السلطة ، و لهذا فهو لا يتورع في ممارسة النقد و لو قاده فعله هذا الى غياهب السجون وإلى تذوق مرارة المنفى او غير ذلك من تقنيات ترويض العقول الثائرة.
2 – المثقف الانتهازي :
و هو مثقف مزيف باع صمته واحال وعيه النقدي على المعاش المبكر طمعا في منصب او جاه ، وللأسف الشديد فهذا النوع من المثقفين في تكاثر مستمر وهو ما يدل على نجاح مالكي وسائل الإنتاج والإكراه في تبخيس دور المثقف وتحويله الى مجرد موظف تنفيذي يدور في فلك السلطة ، ينتهي بنواهيها ويأتمر باوامرها ، و المثقف الانتهازي لا يفوت مناسبة أو حدثا دون أن يستثمره لصالح تقوية رأسماله وتأكيد ولائه. ولهذا تجده يدس أنفه في مختلف القضايا التي تهم مصالح الذين هم فوق، ليس من باب النقد بل من أجل المباركة والتكريس ، ويصير بالتالي من أكثر المدافعين عن استمرار نفس الأوضاع ، فلا يضيع أدنى مناسبة للتأكيد دفاعه المستميت عن كل ما يصدر عن مالكي وسائل الإنتاج والإكراه في النسق المجتمعي .
بقي لنا النوعان الأخيران من المثقفين : المثقف المستقيل والمثقف المتعالي .
3 – المثقف المستقيل :
يجسد نوعا من المثقفين الذين فقدوا القدرة على مسايرة إيقاع التحولات وراعتهم فعلا شراسة التدخلات القمعية وإمكانيات الاحتواء والفرملة، ففضلوا تقديم الاستقالة بكل ما له علاقة بالسؤال، وانتهوا بذلك عن ممارسة النقد والتفكيك، خوفا من سوء العاقبة التي تحيق بمن يقترف جرم السؤال، وىطلبت بالتالي للأمان .
والواقع أن استقالة هؤلاء المثقفين تعد إقالة موجهة بطريقة غير مباشرة، وهي دليل آخر على نجاح تقنيات الضبط والتوجيه المخزني، واستقالة هذا النوع من المثقفين تتخذ صورا أكثر مأساوية في المجتمع المغربي، فقد تلوح في صورة قطع قيصري للحبل السري الذي يربط المرء بمجتمعه، أو تحتمل صورا اكثر قضاعة تتصل باعتماد لغة الصمت بديلا عن الكلام .
وفي جميع الأحوال فالمثقف المستقيل يكون نتيجة مركزية لتاريخ بشع من التهميش والإقصاء ، وبالطبع فتنامي عدد هؤلاء المثقفين يؤشر من جهة على بشاعة عمليات تقليم الاظافر وقص الأجنحة ومن جهة أخرى على إفلاس المشروع المجتمعي في ضمانه لحق النقد والتعبير والمشاركة في صنع القرار.
4 – المثقف المتعالي :
نتيجة الاقتناع التام بعدم الجدوى من مواجهة مالكي وسائل الإنتاج والإكراه، أو طلبا للأمان واعتبارا من دروس التاريخ، فإن هذا النوع من المثقفين يختار التحليق في الأعالي برفقة مواضيع و قضايا تندرج أساسا في دائرة الترف الفكري ، ولهذا تراه دائما منشغلا بقضايا ثانوية لا تتصل بمصالح الكبار و المتحكمين في موازين القوى، وحتى إن قادته الظروف إلى محادثة هذه المصالح، فإن دوره النقدي كمثقف لن يكون بعيدا عن طابع النقد التعميمي البارد او الخطاب التمجيدي الساخن.
ويبدو المثقف المتعالي أكثر المثقفين استقالة من تجارب الآخرين، فهو بعيد جدا عن ضريبة الالتزام، ويعرف أيضا نهاية الإنتهازية وبؤس الاستقالة، ولهذا يختار المنزلة بين المنزلتين فيتعالى عن كافة القضايا التي تتعارض مع مصلحة الذين هم فوق، وينصرف بالتالي إلى الترف الفكري، حيث يضمن لنفسه مقعدا وثيرا بين أحضان النخبة ومن غير وجع راس أو متاعب مع مسير الحقول المجتمعية.
بهذا أكون قد اكملت الأصناف الأربعة التي ذكرها مؤلف كتاب صناعة النخبة ( المخزن والمال والنسب المقدس طرق الوصول الى القمة ).
و للقارئ أن يبحث عن هؤلاء الأربعة من بين كل هذه الكراكيز التي تتحرك أمامنا في الساحة السياسية والثقافية ،لا شك أنه سيسهل عليك التصنيف والإدراك…
و إلى لقاء هادف آخر مع وعي متقدم لنرمي حجر آخر في بركة راكضة.