في مقال كتبه الأستاذ حسن عالي بمجلة الحكمة للدراسات الإجتماعية صدر سنة 2018، تحت عنوان ” سوسيولوجيا التواصل عند يورغن هابرماس” يقدم لنا أربعة عشر صفحة ليوضح بشكل مختصر كيف نتواصل، بناء على نقاش عميق ونظريات متعددة في اللسانيات والسوسيولوجيا و الفلسفة والتواصل مع هابرماس وأوستين وهانز غاديميز ودوركايهم الخ ؟ سواء كأشخاص عاديين في حوارات يومية عابرة في الفضاء العمومي أو المجتمع المدني، أو في وضعيات تواصلية مهنية خاصة، او في تلك اللحظة التي ينتقل فيها الفعل التواصلي من فضاءات النقاش العام إلى فضاءات النقاش السياسي”, الخاص”، كالبرلمان مثلا.
وحاول الباحث أن يبين في مقاله كيف أعطى هابرماس أهمية قصوى للغة باعتبارها وسيطا يسمح للمتحاوين بالمرور إلى مرحلة التفاهم، والتفاهم لا يعني الإتفاق بمعناه المتداول، وإنما الاتفاق المبني على الإجماع العقلاني والديمقراطي رغم كل الإختلافات الممكنة .
ويؤكد لنا أن مشروع هابرماس في الفلسفة الألمانية النقدية المعاصرة يحاول أن يجيب عن سؤال : كيف يكون الإندماج الاجتماعي ممكنا؟ وبأسلوب ٱخر كيف يساهم التواصل في تحقيق الإندماج بين الذوات التي تعتبر العلوم الاجتماعية أنها تكتسب هويتها بناء على تفاعلها الرمزي مع الأخرين؟
إن الإختلاف في المجتمع المغربي هو وصف حقيقي لجوهر هذا المجتمع، إنه ليس وصفا عابرا تحمله اللغة في باب المبالغة مثلا، وإنما هو وصف علمي قد يكون مرادفا لوصف السوسيولوجي بول باسكون، الذي أسس للدرس السوسيولوجي في المغرب عندما كان السياسي يعتبر السوسيولوجيا خطرا عليه، ويمنعها في مدرجات الدرس الجامعي ،ففي إحدى محاضراته سنة 1969 وصف باسكون البنية المجتمعية للمغرب ولو في باب أنماط الانتاج modes de production بالمجتمع المركب la société composite، وأكد على ذلك في مقال نشره في يناير 1971 تحت عنوان:
La formation de la société marocaine
ودعى إلى دراسة المجتمع من بوابة تركيبية تربط الماضي بالحاضر، مؤكدا أن هناك صراع في هذا التركيب يعمل على خلق دينامية حقيقية للتطور سواء في شقه التاريخي المرتبط بتحريك عجلة التاريخ أو المرتبط بالفرد والمجتمع، والذي يحقق ما يسمى بالتغير الاجتماعي .
وإذا استحضرنا قاعدة مفادها أن ” الفعل التواصلي يجب أن لا يرتبط بالغايات السياسية، بل بأفعال التفاهم” ، ولأننا عندما نتكلم فهذا لا يعني أننا نتواصل، سنطرح بعض الأسئلة على أوزين، عندما تعتقد أنك تدافع عن الأمازيغية في ” التداول الخطابي البرلماني” هل نمارس السياسة” في شقها الخطابي التداولي” بالأمازيغية أم بالعربية؟ هل هو تدافع أو ترافع بغايات سياسية أم تريد أن تصل إلى التفاهم كنتيجة للتواصل؟ وسأطرح أسئلة أخرى على وهبي ” هل كان بالإمكان أن تجيب بالعربية على البرلمانية التي طرحت السؤال بالأمازيغية “, ما دامت العربية هي أساس ” التعاقد الاجتماعي التواصلي ” الذي بجمعكم”؟ -التعاقد عند هابرماس وليس عند جان جاك روسو- أم كان جوابك عليها بلهجة أمازيغية أخرى هو الحل الأمثل؟ وطبقا لقاعدة قانونية تقول” العقد شريعة المتعاقدين” خاصة وأن السيد الوزير يحمل قبعة قانونية قبل ان يكون وزيرا ، أم أن السيد الوزير يتفق مع الفيلسوف الفرنسي جان فرنسوا ليطوار الذي عارض مفهوم “الاجماع” عند هابرماس، معتبرا أن جوهر الأمور هو الاختلاف والنزاع؟
غير بعيد عن النقاش الذي أثاره أوزين حول دستورية الموضوع، لأن الدستور ليس مرجعية للتعاقد التواصلي داخل مؤسسة البرلمان وإنما مرجعيته تتجلى في القانون الداخلي والأعراف التواصلية للمجلس، وتفاعلا مع الطريقة التي أجاب بها وهبي، اسمحوا لي أن أؤكد لكم أنه :
1- تواصليا : لا يجوز هذا الخلط بين الأمور-دون أن نتحدث عن لغة الجسد ونبرة الصوت الخ-، لأن هابرماس يؤكد أنه ليكون هناك فعل تواصلي ناجح لا بد أن تكون اللغة موحدة ومفهومة من الطرفين المتحاورين، ولا يمكن أن نتواصل في فضاء خاص بشروط التواصل في الفضاء العام، فهو يفرض تحديد أطراف التواصل مهما تعددوا.
2-وسوسيوجيا: لا يمكن أبدا أن نتحدث عن المجتمع المغربي دون الحديث عن العنصر الأمازيغي أو العربي او باقي العناصر، سواء في التركيبة الثقافية أو التركيبية الإنتاجية، في القرية او المدينة، لكن البيئة السوسيولوجية التواصلية داخل مؤسسة البرلمان لا تسمح بإستغلال هذا التركيب لغايات سياسية.
3،- أما في التواصل السياسي فلا يمكن الحديث بلغة غير متفق عليها دون إكراه أو تعنيف في الخطاب أو السلوك السياسيين المرافقين لعملية التواصل، العملية التي تهدف إلى تحقيق التفاهم كمرادف لها، وليس إلى التأثير كمرادف للهيمنة والإكراه، أي هيمنة الذات على الموضوع وإقصاء الٱخر وتجاوز شروط التعاقد في العملية التواصلية الثنائية او الجماعية.
4-. لسانيا: إذا اتفق المغاربة في شخص ممثليهم بالبرلمان على أن ” الأمازيغية” هي اللغة التي يجب التواصل بها، فعلى اللغة العربية أن تخرج بكل روح رياضية من ملعب التداول الخطابي البرلماني، ولا يعني هذا إقصاء للعرب، فقط لأننا لا يمكن ان نتواصل بلغتين في وضعية تواصلية واحدة، ولأننا هنا نتحدث عن سوسيولوجيا للتواصل يسمي هابرماس أحد مداخلها أو مباحثها بأخلاقيات المناقشة، ” ضمنه في كتابين هما ” إيتيقا المناقشة” و” أخلاقيات المناقشة والفعل التواصلي” كشكل من أشكال الديموقراطية التشاورية، والتشاور في السياسة يكون بالتواصل، -ينتج عنه التفاهم الذي لا يعني الإتفاق-، لا بالمزايدة والصراخ، أي أننا لنتواصل، يجب ان نوفر شروطا معينة للتواصل، يخضع لها اللسان، ويطوع اللغة المناسبة ليتداول بها، وإلا فإننا سنخرج من التواصل إلى تأزيم التواصل، كما حدث مع البرلماني أوزين والوزير وهبي وبعض البرلمانيين في الجلسة التي نخضعها للنقاش والتحليل والتعليق.
5- وفي فلسفة التواصل: هذا المشهد يحلينا على فكرة محورية تتحدث عن ضرورة نقل التواصل من الذاتية الميتافيزيقية” في فلسفة المعرفة والوعي “الكانطية والهيجيلية والأرسطية” الى البيذاتية عند هابرماس” في فلسفة التواصل”، والذاتية تعني أنني أفرض عليك شروطي الخاصة لأتواصل معك، بناء على تمجيد مبالغ فيه للمعرفة الذاتية، أو افترض أنني أمتلك سلطة التأثير عليك، أما البيذاتية فتعني اننا معا نتفق على الشروط التي سنتواصل من خلالها، واللغة تكون وسيطا من الوسائط المتاحة في هذه العملية، لنصل إلى العقلانية الإجتماعية في التواصل، أما إذا تواصلنا “بذاتية” تمجد الأنا والمعرفة المطلقة، مثلما حدث في البرلمان، فإننا لن نتواصل .
إن فنون التواصل السياسي تؤكد لنا أنه في خضم التحليل التواصلي السياسي أوالسوسيولوجي للوضعيات “التواصلية السياسية او الاجتماعية”، يجب أن ندخل القارئ(ة) الخاص جدا الذي نتوجه إليه، في صلب الموضوع بطريقة عكسية، لنخبره في إحدى الفقرات المتقدمة للمقال، اننا نتحدث عن مقام ” وضعية تواصلية غير سليمة”، يتصارع فيها وهبي مع أوزين وبعض البرلمانيين حول اللغتين العربية والأمازيغية ولون ” الجوارب” ( التقاشر) وأشياء أخرى تدخل ضمن قاموس العبث التواصلي السياسي داخل قبة البرلمان، ولنؤكد من باب الأمانة في التعليق و التحليل والقراءة الشاملة للوضعية التواصلية أن هناك من عبر من البرلمانيين عن فهم عميق ” من الباب الإيجابي” لطبيعة المجتمع المغربي ” المركب” التي لا تقبل المزايدة، ولأسس التواصل، مؤكدين أن “أنتربولوجية المجتمع وثقافته وتنوعه لا تستقيم مع حشره في ” بناء خطابي تواصلي غير سليم ” ومن بينهم البرلماني ” الأمازيغي” عن حزب الاستقلال المنتمي”للأغلبية الحكومية” نور الدين مضيان الذي قال عن البرلمان أنه :
” فضاء للحوار وفضاء للنقاش، يجب ان نعتمد فيه اللغة التي يفهمها الجميع، لإشراك النواب وعموم المواطنين في نوعية المشاكل التي تطرح، دون مزايدات ” وهو قول حكيم لا يحتاج لتعليق أو تحليل او نقاش.
ولحل هذا المشكل التواصلي ” المفتعل” الذي أضاع ” سبع دقائق” من زمن التواصل السياسي حول القضايا الأهم، إقترح برلمانيون ٱخرون تفعيل الترجمة الفورية، وهذا ما يسميه هابرماس ” بعقلنة التواصل” ، لكنه جاء في الزمكان الغير المناسبين، مما يعني ضرورة عدم ” إخراج وضعية تواصلية خاصة بمؤسسة معينة تضم جماعة تواصلية صغيرة لها شروطها التواصلية الخاصة، إلى وضعية تواصلية ترتبط بتركيبة بشرية كبيرة إسمها المجتمع المغربي.
إن الحاجة إلى فهم أسس التواصل من جهة وأخلاقيات التواصل السياسي من جهة أخرى، ثم فهم التركيبة السوسيولوجية للمجتمع المغربي من جهة ثالثة، أصبحت ضرورة ملحة، لنتجنب الكثير من الوضعيات التواصلية السيئة التي يعبر عنها السياسيون المغاربة بمختلف قبعاتهم وصفاتهم، فيجعلوننا نحس وكأننا لسنا بحاجة إلى التواصل، أو أنهم ليسوا بحاجة لعلم وفن التواصل، وأن السلطة السياسية الرمزية تسمح لصاحبها بقول أي شيئ بأي طريقة وفي أي مكان، وهذا غير مقبول حسب تعريف ميشل فوكو للخطاب السياسي، في كتابه الشهير ” نظام الخطاب”.
وفي هذا المقام أستحضر ردا ” مستفزا” للوزير السابق الداودي عن أحد أسئلة الصحفي رضوان الرمضاني في برنامجه ” قفص الإتهام” عندما سأله: هل تستشير مع متخصصين في التواصل قبل خرجاتك الإعلامية؟ ليجيبه بما مفاده أنه ليس بحاجة لذلك، وأنه يتواصل بناء على ” تفاعلاته مع المواقف التواصلية” ، وفي ذلك دق لناقوس الخطر حول حاجة السياسي للتواصل والسوسيولوجيا على حد سواء، وفهمه العميق لكونه يمارس في مجال يؤطره العلم بمختلف مجالاته، وليس الارتجالية بمختلف كوارثها .
إن الفعل التواصلي كما يصفه هابرماس أساس لكل تعاقد إجتماعي سليم وجوهر للديموقراطية التشاورية، ومحصن للتواصل في الفضاء العام أو الخاص، الاجتماعي منه أو السياسي، الذي يسود فيهما الحوار البناء و أخلاقيات النقاش وتقبل الٱخر، علما بأن نظرية الفعل التواصلي عند هابرماس عرفت تحولا من المنعطف اللساني اللغوي التداولي الإجرائي والحجاجي إلى المنعطف السياسي لتأطير جوانب معينة في التواصل السياسي، ومن الأفضل لبعض السياسيين الإطلاع عليها من حين لٱخر.
*باحث في الإعلام والتواصل بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس .