“الشمس أجمل في بلادي من سواها، والظلام حتى الظلام ـ هناك أجمل، فهو يحتضن العراق“
بدر شاكر السيّاب
يحدّثنا العلم عن طفرة جينيّة حدثت للذّئاب نتيجة حادث كونيّ جرى قبل كذا مليون سنة، وصار أن تخلّق هرمون الحُبّ (الأوكسيتوسين) الذي يغمر الأمّهات حين ولادتهنّ، فيتعلّقن بأطفالهنّ بأقوى رابطة بين اثنين، تخلّق الأوكسيتوسين نتيجة ذلك الزلزال الكونيّ في الذّئاب فما عادت شرسة، وصارت كلابا، وهرمون الحبّ هذا يساعد على توطيد وزيادة الروابط التي تشاركها الكلاب وأصحابها.
في كتاب «الإمتاع والمؤانسة» يحدّثنا أبو حيّان التوحيدي عن الكلب: «ليس في الحيوان أشد حباً لصاحبه منه… فأما حبّ بعض جراء الكلاب لبعض إذا كان أخاه لأم ولأب فمما قد عهد وشوهد، وذلك أنه حيث كان يطرح لها الطعام في الوسط، فلا يخطف أحد منها ذلك، ولكنها تتعاطاه بينها بسكون وتمكين بعضها لبعض، غير مستأثرة به ولا محاربة عليه».
كلبُكَ حين يُبقي عينيه عليك فهو يحادثك بلغة عليك أن تحدسها، عن شيء عظيم واحد هو الحُبّ، كي تسند ظهركَ عليه، وتؤمن أن لا شيء يستحقّ العناء، سوى المودّة بينك وبين من تعيش معه وتعاشره. الحياة ليست نُزهة في حديقة، ولا هي معركة دائمة وعليك أن تفكّر في النّقلة التّالية فوق رقعة الشّطرنج. إن جبل الذهب يساوي العود الذي تخلّل به أسنانك، هذه رسالة بني الكلاب إلى بني البشر، وسعيد الحظّ من يسمعها.
الكلب الأسود ينبح. متصلباً، محصّناً، والمطر لم يكن يذلّه، ولم يتوقف المطر، لكن شيئاً مرّاً سكنَ قلبي منذئذ. لم أعُدْ أتأمّل المطرَ، كنتُ أرى بخارَ النهار يحرّكه نباحُ الكلب، يصعد، يدور، يهبط، يرتفع. النهارُ يتقدّم دون زمن، والمطرُ يهطل بالإيقاع البطيء والرتيب وغير الرحيم نفسه، والكلبُ ينبح بالدأَب نفسه. ثم صار نباحُه غريباً عندما صدأ صوته بسبب المطر وظلامُ البستان العميم…
جاء في كتاب «حياة الحيوان الكبرى» للدميري: «روى مسلم بن سلمى، بإسناده عن علقمة عن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: أول من اتخذ الكلب للحراسة نوح عليه السلام، وذلك أنه قال: يا رب أمرتني أن أصنع الفلك وأنا في صناعته أصنع أياماً، فيجيئون في الليل فيفسدون كل ما عملت، فمتى يلتئم لي ما أمرتني به فقد طال عليّ أمدي. فأوحى الله إليه: يا نوح اتخذ كلباً يحرسك، فاتخذ نوح عليه السلام كلباً، وكان يعمل بالنهار وينام بالليل.
فإذا جاء قومه ليفسدوا بالليل عمله نبحهم الكلب فينتبه نوح عليه السلام فيأخذ الهراوة ويثب لهم فيهربون منه. فالتأم له ما أراد».
الفرق بين كلب الحراسة والآخر الأليف هو في افتقار الأول إلى هرمون الحُبّ الذي مرّ ذكره، ولكن كيف يفقد الكائن المسكين ما أحدثه في بدنه زلزالٌ كونيّ مرّت عليه ملايين السنين، وتكيّف الحيوان مع الوضع الجديد حتى صار جزءا لا ينفصل عن طبيعته؟ في الريف العراقي يُربطُ الكلبُ الذي سوف توكل إليه مهمّة الحراسة وهو صغير، وعندما تأخذ الشياه طريقها إلى الحقل يبقى الكلب المربوط وحده في البيت، فيطلق عندها نباحا قويّا كلّه أسى يشبه البكاء كثيرا. ويبقى الكلب مشدودا بواسطة السلاسل إلى سجنه فإذا بلغ صار متوحّشا مثل أقوى الذئاب، وعندما تتبخّر من دمه نتيجة الحرمان والحبس الشديد آخر ذرّة من الهرمون يُعطى شهادة الحراسة بامتياز، ولا نعرف الطريقة التي اتّبعها نبيّ الله في تأهيل كلبه، لأنه كان السابق في هذا العمل المُعجَز.
أشرس الكلاب هي العجفاء الملوّنة بلون القمر، تليها السود المظلمة العيون فليس في فعلها شيء غير العداوة للجميع، والذلّ والخضوع لصاحبها، مع أنه يزجرها على الدوام ولا يرمي لها إلا الطعام الذي فسد، وعن هذا النوع من الكلاب جاء المثل: «جوّع كلبك يتبعْك»، والمقصود به الحيوان الحارس، فالشّذوذ في طريقة التربية، والنّأي بها عن العيش الكريم يؤدي إلى انحراف شديد في الطِّباع، وهذا الأمر سائرٌ علينا كذلك نحن بنو البشر..
الكلاب أجمل في بلادي، وحليّة اللون والرماديّة والزنجاريّة، الزرقاء المخضرّة والسوداء المحمرّة والبنّيّة، حتى الكلاب التي باتت في نوع من الكسل السعيد في الطين والسّاقية فأخذت لونها، هي أجمل لأنها تلوّنت بالشّمس في بلادي وبالظلّ.
يبخّر الصيف في العراق الدم من تحت جلد الحيوان والنبات، فتغدو أكثر صلابة في تحمّل عنت الحياة، لكن أحسن هذه الوحوش اللّطيفة خلقة هي البيضاء، وفيها لطخ من سواد، خصوصا عندما تغطّي العتمة عينا واحدة، ويظلّ باقي الوجه أبيض نظيفا، فلو تأمّلت عينه من وراء الظلّ الكثيف رأيتَ شمسا قويّة يحجبها غيم كثيف، وينطبق الأمر كذلك على الكلب الأسود الذي زيّنه الخالق بلطخات بيضاء هنا وهناك، في أعلى الذيل، أو على أنفه أو تراه بها محجّلا.
غرفة خالية من الأثاث، مفتوحة النّوافذ وغير مأهولة.. تخترق الشمس الشبّاك القريب من السدرة، فتبدو الشمس في الغرفة قطعةً من الأثاث. غيوم صغيرة تعبر، تتلبّثُ، تبدو قطعةً من الأثاث. كلب أجرب كان ينبح في الجوار، وصار صدى نباحه في الغرفة قطعة من الأثاث..
انتهى الشارع الذي يدور حول قلعة أربيل الأثرية، ولم ألتقِ بأحد غير الأشجار التي بدت أكبر من أحجامها، وكنت أفهم إحساسها وهي تتلقى الظلام الناعم تحت سماء رمادية فسيحة. صاح طائر من الشّجرة التي وقفتُ عند جذعها لأني تعبتُ من التّجوال، ولكنه لم يتلقّ جوابا.
يُعطينا الأملَ في البقاء أحياء، في هذا الوجود الممتلئ بالحروب والمجاعات والمظالم، أكثر من مرأى الأطفال والورود والأرض المفلوحة، هو التطلّعُ والرجاءُ في عيون الكلاب السائبة أو الشريدة بتعبير الشاعر تشارلز سيميك.
هو الآخر يستوحش السّكون الغريب الذي يعمّ المدينة، الجميع الآن في بيوتهم ينتظرون مدفع الإفطار، أو يجتمعون حول الطّاولات في المطاعم، ولا أحد يتكلّم مع أحد، لا أحد في الحقيقة ينبس ببنت شفة، لأن الجوع والعطش أنهكهم إلى النهاية، فهم يتطلّعون إلى الشراب والطعام، فيهما الخلاص من هذا الجدب وهذا الجفاف.
ها إن المؤذن يرفع أذان الغروب في الجامع وفي المذياع والتلفزيون والهاتف النقّال، وقام البعض إلى الصلاة، وهجم الآخرون على الموائد العامرة، ليحلّ عندها سكون طاغٍ تقطعه الملاعق التي تغرف من الصحون، وكانت أصواتها مسموعة. لم تكن وجوه الصائمين المتعبة والجادة تفصح عن شيء غير الانشغال التامّ والمنقطع عن كل شيء غير تناول الطعام.
إن صمت الذين يتناولون طعام الفطور في شهر رمضان يُعدّ شعيرةً أخرى من شعائر الصيام، وكذلك أنفاسهم المكتومة، ومن هو الذي له القدرة على المحادثة مع الآخرين والمسلسل الرمضاني التمثيلي يُبثّ بأعلى صوت ممكن تذيعه أجهزة التلفزيون عبر شاشاتها الكبيرة على جدران المطعم، وهذا المسلسل صار هو الآخر شعيرة تُضاف إلى الطقوس التي تصاحب الصيام والإفطار.
ثم ظهر كلب لا يعلم أحد من أين أتى، وملأ المطعم بالنباح، وكان يقفز حول الندلاء ويهزّ جسده فرحا لعثوره على الكثير من الطاعمين مجتمعين حول الموائد. فوجئ الجميع تماما، وكانت أقوى ردة فعل من نصيب صاحب المطعم. كان لزعيقه وقْع في النفوس أشدّ مما لصوت الكلب:
– من أتى بهذه النّجاسة؟ ابعدوه من هنا!
حاول أحدهم طرده برفسه بقدمه، لكنه كان كلبا ضخما مغطّى بالصّوف. واجتمع العمّال يحاولون إبعاده، والكلب السعيد يمشي ويرقص، حاسبا كل شيء جزءاً من اللّعبة، ثم راح يتناوم، ويقفز عالياً، مطلقا نباحه البهيج. انسحب أحد العمال إلى الداخل، وعاد يحمل تمثالا من الجبس لكلب يكشّر عن أسنانه، ولسانه مصبوغ بالأحمر. أخذ العامل يفتعل هجوما لكلبه التمثال، يساعده صاحب المطعم بتقليد صوت النّباح. ولّى الكلب الضّخم مرعوبا في الحال، وضجّ المكان بضحكة غريبة أطلقها صاحب المطعم لا تشبه الضّحك في شيء.
لم يستغرق هذا المشهد كثيرا من الوقت، عاد الصائمون بعد انتهائه إلى الأكل. ثم أخذت المطاعم تفرغ شيئا فشيئا، والمقاهي تضجّ بالجالسين. الصائمون يشربون الشاي، ثم يحلّ دور المرطبات والحلوى وغير ذلك من شهيّ الطعام.
يُعطينا الأملَ في البقاء أحياء، في هذا الوجود الممتلئ بالحروب والمجاعات والمظالم، أكثر من مرأى الأطفال والورود والأرض المفلوحة، هو التطلّعُ والرجاءُ في عيون الكلاب السائبة أو الشريدة بتعبير الشاعر تشارلز سيميك في قصيدته:
«حملتني أمي بين ذراعيها/ خارجةً من بناية محترقة/ ثم وضعتني على الرصيف/ كدميةٍ صُرّتْ من خِرقٍ/ حيث وقفتُ بعد سنين طويلة/ أكلّمُ كلبا شريدا/ نصفَ مختبئٍ خلف سيّارةٍ مركونة/ وعيناه تطفحان بالأمل/ وهو يتقدّم ببطء، مستعدّا للأسوأ».
إن رائحة الأمل ودفئه في عيون الكلاب بإمكانهما احتواء اليأس في حياتنا مثلما تقوم بهذه المهمة تعابير التوبة والخشوع والتضرّع في وجوه القدّيسين ساعة وقوع الكارثة. من أقوال التاو: «إذا نبح كلبٌ عجوز فإنه يقدّم نصيحة»، أما الكلب الفتيّ فلا أجمل من صوته وهو يقول: «النباح يضنيني عندما لا يسمعه أحد. إنه يضني قدمي،
لا أعرف عندها كيف أدور إلى اليمين أو اليسار وأنا أجري، أنظر بعيون ليست مفتوحة ولا مغلقة. لا أملك قوةً أخرى غير هذا النباح القوي، فليسمعه غير الشجر والنهر واحدٌ على الأقل، واحدٌ ليس بمقدوره أن ينسى أن الكلب شجرةٌ والنباحَ أوراقُها…».
كاتب عراقي